كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

Iḥyāʾ ʿulūm al-dīn

وهو الكتاب التاسع من ربع العادات الثاني من كتب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله الذي لا تستفتح الكتب إلا بحمده ولا تستمنح النعم إلا بواسطة كرمه ورفده والصلاة على سيد الأنبياء محمد رسوله وعبده وعلى آله الطيبين وأصحابه الطاهرين من بعده أما بعد فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو القطب الاعظم في الدين وهو المهم الذي ابتعث الله له النبيين أجمعين ولو طوى بساطه وأهمل علمه وعمله لتعطلت النبوة واضمحلت الديانة وعمت الفترة وفشت الضلالة وشاعت الجهالة واستشرى الفساد واتسع الخرق وخربت البلاد وهلك العباد ولم يشعروا بالهلاك إلا يوم التناد وقد كان الذي خفنا أن يكون فإنا لله وإنا إليه راجعون إذ قد اندرس من هذا القطب عمله وعلمه وانمحق بالكلية حقيقته ورسمه فاستولت على القلوب مداهنة الخلق وانمحت عنها مراقبة الخالق واسترسل الناس في اتباع الهوى والشهوات استرسال البهائم وعز على بساط الأرض مؤمن صادق لا تأخذه في الله لومة لائم فمن سعى في تلافي هذه الفترة وسد هذه الثلمة إما متكفلا بعملها أو متقلدا لتنفيذها مجددا لهذه السنة الداثرة ناهضا بأعبائها ومتشمرا في إحيائها كان مستأثرا من بين الخلق بإحياء سنة أفضى الزمان إلى إماتتها ومستبدا بقربة تتضاءل درجات القرب دون ذروتها وها نحن نشرح علمه في أربعة أبواب الباب الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته الباب الثاني في أركانه وشروطه الباب الثالث في مجاريه وبيان المنكرات المألوفة في العادات الباب الرابع في أمر الأمراء والسلاطين بالمعروف ونهيهم عن المنكر الباب الأول في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفضيلته والمذمة في إهماله وإضاعته ويدل على ذلك بعد إجماع الأمة عليه وإشارات العقول السليمة إليه الآيات والاخبار والآثار أما الآيات فقوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ففي الآية بيان الإيجاب فإن قوله تعالى ولتكن أمر وظاهر الأمر الإيجاب وفيها بيان أن الفلاح منوط به إذ حصر وقال وأولئك هم المفلحون وفيها بيان أنه فرض كفاية لا فرض عين وأنه إذا قام به أمة سقط الفرض عن الآخرين إذ لم يقل كونوا كلكم آمرين بالمعروف بل قال ولتكن منكم أمة فإذا مهما قام به واحد أو جماعة سقط الحرج عن الآخرين واختص الفلاح بالقائمين به المباشرين وإن تقاعد عنه الخلق أجمعون عم الحرج كافة القادرين عليه لا محالة وقال تعالى ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين فلم يشهد لهم بالصلاح بمجرد الإيمان بالله واليوم الآخر حتى اضاف إليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقال تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة فقد نعت المؤمنين بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فالذي هجر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خارج عن هؤلاء المؤمنين المنعوتين في هذه الآية وقال تعالى لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون وهذا غاية التشديد إذ علل استحقاقهم للعنة بتركهم النهي عن المنكر وقال عز وجل كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وهذا يدل على فضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذ بين أنهم كانوا به خير أمة أخرجت للناس وقال تعالى فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون فبين أنهم استفادوا النجاة بالنهي عن السوء ويدل ذلك على الوجوب أيضا وقال تعالى الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقرن ذلك بالصلاة والزكاة في نعت الصالحين والمؤمنين وقال تعالى وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان وهو أمر جزم ومعنى التعاون الحث عليه وتسهيل طرق الخير وسد سبل الشر والعدوان بحسب الإمكان وقال تعالى لولا ينهاهم الربانيون والاحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون فبين أنهم أثموا بترك النهي وقال تعالى فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض الآية فبين أنه أهلك جميعهم إلا قليلا منهم كانوا ينهون عن الفساد وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على انفسكم أو الوالدين والاقربين وذلك هو الأمر بالمعروف للوالدين والأقربين وقال تعالى لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه اجرا عظيما وقال تعالى وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما الآية والاصلاح نهي عن البغي وإعادة إلى الطاعة فإن لم يفعل فقد أمر الله تعالى بقتاله فقال فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله وذلك هو النهي عن المنكر وأما الأخبار فمنها ما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال في خطبة خطبها أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم حديث أبي بكر أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية وتؤولونها على خلاف تأويلها يا أيها الذين آمنوا عليكم انفسكم الحديث أخرجه أصحاب السنن وتقدم في العزلة وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما من قوم عملوا بالمعاصي وفيهم من يقدر أن ينكر عليهم فلم يفعل إلا يوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده وروى عن أبي ثعلبة الخشنى أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى لا يضركم من ضل إذا اهتديتم حديث أبي ثعلبة أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير قوله تعالى لا يضركم من ضل إذا اهتديتم الحديث أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه فقال يا أبا ثعلبة مر بالمعروف وانه عن المنكر فإذا رأيت شحا مطاعا وهوىمتبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بنفسك ودع عنك العوام إن من ورائكم فتنا كقطع الليل المظلم للمتمسك فيها بمثل الذي أنتم عليه أجر خمسين منكم قيل بل منهم يا رسول الله قال لا بل منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون عليه أعوانا وسئل ابن مسعود رضي الله عنه عن تفسير هذه الآية فقال إن هذا ليس زمانها إنها اليوم مقبولة ولكن قد اوشك أن يأتي زمانها تأمرون بالمعروف فيصنع بكم كذا وكذا وتقولون فلا يقبل منكم فحينئذ عليكم انفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم حديث لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعوا خياركم فلا يستجاب لهم أخرجه البزار من حديث عمر بن الخطاب والطبراني في الأوسط من حديث أبي هريرة وكلاهما ضعيف وللترمذي من حديث حذيفة نحوه إلا انه قال أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجيب لكم قال هذا حديث حسن معناه تسقط مهابتهم من أعين الاشرار فلا يخافونهم وقال صلى الله عليه وسلم يا أيها الناس إن الله يقول لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم حديث يا أيها الناس إن الله سبحانه يقول لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم أخرجه أحمد والبيهقي من حديث عائشة بلفظ مروا وانهوا وهو عند ابن ماجه دون عزوه إلى كلام الله تعالى وفي إسناده لين وقال صلى الله عليه وسلم ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي وما جميع أعمال البر والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا كنفثةفي بحر لجي حديث ما أعمال البر عند الجهاد في سبيل الله إلا كنفثة في بحر لجي رواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس مقتصرا على الشطر الأول من حديث جابر بإسناد ضعيف وأما الشطر الأخير فرواه على بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية من رواية يحيى بن عطاء مرسلا أو معضلا ولا أدري من يحيى بن عطاء وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى ليسأل العبد ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإذا لقن الله العبد حجته قال رب وثقت بك وفرقت من الناس حديث إن الله تعالى ليسأل العبد ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره الحديث أخرجه ابن ماجه وقد تقدم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إياكم والجلوس على الطرقات قالوا ما لنا بد إنما هي مجالسنا نتحدث فيها قال فإذا أبيتم إلا ذلك فأعطوا الطريق حقها قالوا وما حق الطريق قال غض البصر وكف الأذى ورد السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حديث إياكم والجلوس على الطرقاتالحديث متفق عليه من حديث أبي سعيد وقال صلى الله عليه وسلم كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا أمرا بمعروف أو نهيا عن منكر أو ذكرا لله تعالى حديث كل كلام ابن آدم عليه لا له إلا أمرا بمعروف الحديث تقدم في العلم وقال صلى الله عليه وسلم إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يرى المنكر بين أظهرهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكرونه حديث إن الله لا يعذب الخاصة بذنوب العامة حتى يروا المنكرالحديث أخرجه أحمد من حديث عدي بن عميرة وفيه من يسم والطبراني من حديث أخيه العرس بن عميرة وفيه من لم أعرفه وروى أبو أمامة الباهلي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كيف انتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبانكم وتركتم جهادكم قالوا وان ذلك لكائن يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه يا رسول الله كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر قالوا وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكراوالمنكر معروفا قالوا وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف قالوا وكائن ذلك يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون يقول الله تعالى بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران حديث أبي أمامة كيف بكم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم قالوا وإن ذلك كائن يا رسول الله قال نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه قال كيف أنتم إذا لم تأمروا بالمعروف ولم تنهوا عن المنكر الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا بإسناد ضعيف دون قوله كيف بكم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف ورواه أبو يعلي من حديث أبي هريرة مقتصرا على الاسئلة الثلاثة الأول واجوبتها دون الاخيرين وإسناده ضعيف وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقفن عند رجل يقتل مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه ولا تقفن عند رجل يضرب مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره ولم يدفع عنه حديث عكرمة عن ابن عباس لا تقفن عند رجل يقتل مظلوما فإن اللعنة تنزل على من حضره حين لم يدفعوا عنه أخرجه الطبراني بسند ضعيف والبيهقي في شعب الإيمان بسند حسن قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي لامرئ شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقا هو له حديث لا ينبغي لامرئ شهد مقاما فيه حق إلا تكلم به فإنه لن يقدم أجله ولن يحرمه رزقا هو له أخرجه البيهقي في الشعب من حديث ابن عباس بسند الحديث الذي قبله وروى الترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد لا يمنعن رجلا هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه وهذا الحديث يدل على أنه لا يجوز دخول دور الظلمة والفسقة ولا حضور المواضع التي يشاهد المنكر فيها ولا يقدر على تغييره فإنه قال اللعنة تنزل على من حضر ولا يجوز له مشاهدة المنكر من غير حاجة اعتذارا بأنه عاجز ولهذا اختار جماعة من السلف العزلة لمشاهدتهم المنكرات في الأسواق والاعياد والمجامع وعجزهم عن التغيير وهذا يقتضي لزوم الهجر للخلق ولهذا قال عمر ابن عبد العزيز رحمه الله ما ساح السواح وخلوا دورهم وأولادهم إلا بمثل ما نزل بنا حين رأوا الشر قد ظهر والخير قد اندرس ورأوا أنه لا يقبل ممن تكلم ورأوا الفتن ولم يأمنوا أن تعتريهم وان ينزل العذاب بأولئك القوم فلا يسلمون منه فرأوا أن مجاورة السباع وأكل البقول خير من مجاوره هؤلاء في نعيمهم ثم قرأ ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين قال ففر قوم فلولا ما جعل الله جل ثناؤه في النبوة من السر لقلنا ما هم بأفضل من هؤلاء فيما بلغنا أن الملائكة عليهم السلام لتلقاهم وتصافحهم والسحاب والسباع تمر بأحدهم فيناديها فتجيبه ويسألها أين أمرت فتخبره وليس بنبي وقال أبو هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها ومن غاب عنها فأحبها فكأنه حضرها حديث أبي هريرة من حضر معصية فكرهها فكأنه غاب عنها ومن غاب عنها فأحيها فكأنه حضرها رواه ابن عدي وفيه يحيى بن أبي سلمان قال البخاري منكر الحديث ومعنى الحديث أن يحضر لحاجة أو يتفق جريان ذلك يديه فأما الحضور قصدا فممنوع بدليل الحديث الأول وقال ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعث الله عز وجل نبيا إلا وله حواري فيمكث النبي بين أظهرهم ما شاء الله تعالى يعمل فيهم بكتاب الله وبأمره حتى إذا قبض الله نبيه مكث الحواريون يعملون بكتاب الله وبأمره وبسنة نبيهم فإذا انقرضوا كان من بعدهم قوم يركبون رءوس المنابر يقولون ما يعرفون ويعملون ما ينكرون فإذا رأيتم ذلك فحق على كل مؤمن جهادهم بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وليس وراء ذلك إسلام حديث ابن مسعود ما بعث الله عز وجل نبيا إلا وله حواري الحديث روى مسلم نحوه وقال ابن مسعود رضي الله عنه كان أهل قرية يعملون بالمعاصي وكان فيهم أربعة نفر ينكرون ما يعملون فقام أحدهم فقال إنكم تعملون كذا وكذا فجعل ينهاهم ويخبرهم بقبيح ما يصنعون فجعلوا يردون عليه ولا يرعوون عن أعمالهم فسبهم فسبوه وقاتلهم فغلبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني وقاتلتهم فغلبوني ثم ذهب ثم قام الآخر فنهاههم فلم يطيعوه فسبهم فسبوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني وسببتهم فسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب قام الثالث فنهاهم فلم يطيعوه فاعتزل ثم قال اللهم إني قد نهيتهم فلم يطيعوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب ثم قام الرابع فقال اللهم إني لو نهيتهم لعصوني ولو سببتهم لسبوني ولو قاتلتهم لغلبوني ثم ذهب قال ابن مسعود رضي الله عنه كان الرابع أدناهم منزلة وقليل فيكم مثله وقال ابن عباس رضي الله عنهما قيل يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون قال نعم قيل بم يا رسول الله قال بتهاونهم وسكوتهم على معاصي الله تعالى حديث ابن عباس قيل يا رسول الله أتهلك القرية وفيها الصالحون قال نعم قيل بم يا رسول الله قال بتهاونهم وسكوتهم عن معاصي الله أخرجه البزار والطبراني بسند ضعيف وقال جابر بن عبد الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أوحى الله تبارك وتعالى إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانا لم يعصك طرفة عين قال اقلبها عليه وعليهم فإن وجهه لم يتمعر في ساعة قط حديث جابر أوحى الله إلى ملك من الملائكة أن اقلب مدينة كذا وكذا على أهلها قال فقال يا رب إن فيهم عبدك فلانا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والبيهقي في الشعب وضعفه وقال المحفوظ من قول مالك بن دينار وقالت عائشة رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا عملهم عمل الأنبياء قالوا يا رسول الله كيف قال لم يكونوا يغضبون لله ولا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر حديث عائشة عذب أهل قرية فيها ثمانية عشر ألفا عملهم عمل الأنبياء لم أقف عليه مرفوعا وروى ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن إبراهيم بن عمر الصنعاني أوحى الله إلى يوشع بن نون إني مهلك من قومك أربعين ألفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم قال يا رب هؤلاء الاشرار فما بال الأخيار قال انهم لم يغضبوا لغضبي فكانوا يؤاكلونهم ويشاربونهم وعن عروة عن أبيه قال قال موسى صلى الله عليه وسلم يا رب أي عبادك أحب إليك قال الذي يتسرع إلى هواي كما يتسرع النسر إلى هواه والذي يكلف بعبادي الصالحين كما يكلف الصبي بالثدي والذي يغضب إذا أتيت محارمي كما يغضب النمر لنفسه فإن النمر إذا غضب لنفسه لم يبال قل الناس أم كثروا وهذا يدل على فضيلة الحسبة مع شدة الخوف وقال أبو ذر الغفاري قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه يا رسول الله هل من جهاد غير قتال المشركين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم يا أبا بكر إن لله تعالى مجاهدين في الأرض أفضل من الشهداء أحياء مرزوقين يمشون على الأرض يباهي الله بهم ملائكة السماء وتزين لهم الجنة كما تزينت أم سلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه يا رسول الله ومن هم قال الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والمحبون في الله والمبغضون في الله ثم قال والذي نفسي بيده إن العبد منهم ليكون في الغرفة فوق الغرفات فوق غرف الشهداء للغرفة منها ثلثمائة ألف باب منها الياقوت والزمرد الأخضر على كل باب نور وإن الرجل منهم ليزوج بثلثمائة ألف حوراء قاصرات الطرف عين كلما التفت إلى واحدة منهن فنظر إليها تقول له أتذكر يوم كذا وكذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر كلما نظر إلى واحدة منهن ذكرت له مقاما أمر فيه بمعروف ونهى فيه عن منكر حديث أبي ذر قال أبو بكر يا رسول الله هل من جهاد غير قتال المشركين قال نعم يا أبا بكر إن لله تعالى مجاهدين في الأرض أفضل من الشهداء فذكر الحديث وفيه فقال هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكرالحديث بطوله لم أقف له على أصل وهو منكر وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قلت يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله عز وجل قال رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله فإن لم يقتله فإن القلم لا يجرى عليه بعد ذلك وإن عاش ما عاش حديث أبي عبيدة قلت يا رسول الله أي الشهداء أكرم على الله قال رجل قام إلى وال جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتلهالحديث أخرجه البزار مقتصرا على هذا دون قوله فإن لم يقتله إلى آخره وهذه الزيادة منكره وفيه أبو الحسن غير مشهور لا يعرف وقال الحسن البصري رحمه الله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر حديث الحسن البصري مرسلا أفضل شهداء أمتي رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر فقتله على ذلك فذلك الشهيد منزلته في الجنة بين حمزة وجعفر لم أره من حديث الحسن وللحاكم في المستدرك وصحح إسناده من حديث جابر سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر حديث عمر بئس القوم قوم لا يأمرون بالقسط وبئس القوم قوم لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر رواه أبو الشيخ ابن حبان من حديث جابر بسند ضعيف وأما حديث عمر فأشار إليه أبو منصور الديلمي بقوله وفي الباب ورواه على بن معبد في كتاب الطاعة والمعصية من حديث الحسن مرسلا وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعوا عليه خياركم فلا يستجاب لهم وتستنصرون فلا تنصرون وتستغفرون فلا يغفر لكم وسئل حذيفة رضي الله عنه عن ميت الأحياء فقال الذي لا ينكر المنكر بيده ولا بلسانه ولا بقلبه وقال مالك بن دينار كان حبر من أحبار بني إسرائيل يغشى الرجال والنساء منزله يعظهم ويذكرهم بأيام الله عز وجل فرأى بعض بنيه يوما وقد غمز بعض النساء فقال مهلا يا بني مهلا وسقط من سريره فانقطع نخاعة وأسقطت امرأته وقتل بنوه في الجيش فأوحى الله تعالى إلى نبي زمانه أن أخبر فلانا الخبر أني لا أخرج من صلبك صديقا أبدا أما كان من غضبك لي إلا أن قلت مهلا يا بني مهلا وقال حذيفة يأتي على الناس زمان لأن تكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم وينهاهم وأوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون عليه السلام إني مهلك من قومك أربعين الفا من خيارهم وستين ألفا من شرارهم فقال يا رب هؤلاء الاشرار فما بال الأخيار قال إنهم لم يغضبوا لغضبي وواكلوهم وشاربوهم وقال بلال بن سعد إن المعصية إذا أخفيت لم تضر إلا صاحبها فإذا اعلنت ولم تغير اضرت بالعامة وقال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني كيف منزلتك من قومك قال حسنة قال كعب أن التوراة لتقول غير ذلك قال وما تقول قال تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال صدقت التوراة وكذب أبو مسلم وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي العمال ثم قعد عنهم فقيل له لو أتيتهم فلعلهم يجدون في أنفسهم فقال أرهب إن تكلمت أن يروا أن الذي بي غير الذي بي وان سكت رهبت أن آثم وهذا يدل على أن من عجز عن الأمر بالمعروف فعليه أن يبعد عن ذلك الموضع ويستتر عنه حتى لا يجري بمشهد منه وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه أول ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بألسنتكم ثم الجهاد بقلوبكم فإذا لم يعرف القلب المعروف ولم ينكر المنكر نكس فجعل أعلاه اسفله وقال سهل بن عبد الله رحمه الله أيما عبد عمل في شيء من دينه بما أمر به أو نهى عنه وتعلق به عند فساد الأمور وتنكرها وتشوش الزمان فهو ممن قد قام لله في زمانه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر معناه أنه إذا لم يقدر إلا على نفسه فقام بها وأنكر أحوال الغير بقلبه فقد جاء بما هو الغاية في حقه وقيل للفضيل ألا تأمر وتنهى فقال إن قوما أمروا ونهوا فكفروا وذلك أنهم لم يصبروا على ما أصيبوا وقيل للثوري ألا تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فقال إذا انبثق البحر فمن يقدر أن يسكره فقد ظهر بهذه الأدلة أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب وأن فرضه لا يسقط مع القدرة إلا بقيام قائم به فلنذكر الآن شروطه وشروط وجوبه الباب الثاني في أركان الأمر بالمعروف وشروطه أعلم أن الأركان في الحسبة التي هي عبارة شاملة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أربعة المحتسب والمحتسب عليه والمحتسب فيه ونفس الاحتساب فهذه أربعة اركان ولكل واحد منها شروطه الركن الأول المحتسب وله شروط وهو أن يكون مكلفا مسلما قادرا فيخرج منه المجنون والصبي والكافر والعاجز ويدخل فيه آحاد الرعايا وإن لم يكونوا مأذونين ويدخل فيه الفاسق والرقيق والمرأة فلنذكر وجه اشتراط ما اشترطناه ووجه اطراح ما أطرحناه أما الشرط الأول وهو التكليف فلا يخفى وجه اشتراطه فإن غير المكلف لا يلزمه أمر وما ذكرناه أردنا به شرط الوجوب فأما إمكان الفعل وجوازه فلا يستدعي إلا العقل حتى إن الصبي المراهق للبلوغ المميز وإن لم يكن مكلفا فله إنكار المنكر وله أن يريق الخمر ويكسر الملاهي وإذا فعل ذلك نال به ثوابا ولم يكن لأحد منعه من حيث إنه ليس بمكلف فإن هذه قربة وهو من أهلها كالصلاة والإمامة وسائر القربات وليس حكمه حكم الولايات حتى يشترط فيه التكليف ولذلك اثبتناه للعبد وآحاد الرعية نعم في المنع بالفعل وإبطال المنكر نوع ولاية وسلطنة ولكنها تستفاد بمجرد الإيمان كقتل المشرك وإبطال أسبابه وسلب أسلحته فإن للصبي أن يفعل ذلك حيث لا يستضر به فالمنع من الفسق كالمنع من الكفر وأما الشرط الثاني وهو الإيمان فلا يخفى وجه اشتراطه لأن هذا نصرة للدين فكيف يكون من أهله من هو جاحد لاصل الدين وعدو له وأما الشرط الثالث وهو العدالة فقد اعتبرها قوم وقالوا ليس للفاسق أن يحتسب وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى أتأمرون الناس بالبر وتنسون انفسكم وقوله تعالى كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وبما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انه قال مررت ليلة اسرى بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من انتم فقالوا كنا نامر بالخير ولا ناتيه وننهى عن الشر وناتيه حديث مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نارالحديث تقدم في العلم وبما روى أن الله تعالى أوحى إلى عيسى صلى الله عليه وسلم عظ نفسك فان أتعظت فعظ الناس وألا فاستحي مني وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للإهتداء وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره ومتى يستقيم الظل والعود اعوج وكل ما ذكروه خيالات وانما الحق أن للفاسق أن يحتسب وبرهانه هو أن نقول هل يشترط في الإحتساب أن يكون متعاطيه معصوما عن المعاصي كلها فان شرط ذلك فهو خرق للاجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلا عمن دونهم والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا والقرآن العزيز دال على نسبة آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء ولهذا قال سعيد بن جبير إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء لم يأمر أحد بشيء فأعجب مالكا ذلك من سعيد بن جبير وإن زعموا أن ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فنقول وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر فإن قالوا لا خرقوا الإجماع إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الايتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن قالوا نعم فنقول شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا فإن قالوا لا قلنا فما الفرق بينه وبين لابس الحرير إذ جاز له المنع من الخمر والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير فلا فرق وإن قالوا نعم وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه وإنما يمنع عما فوقه فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب ويقول يجب على الانتهاء والنهي فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصى الله تعالى بالثاني وإذا كان النهي واجبا على فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي إذ يستحيل أن يقال يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب فإذا شرب سقط النهى فإن قيل فيلزم على هذا أن يقول القائل الواجب على الوضوء والصلاة فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم لأن المستحب لي السحور والصوم جميعا ولكن يقال أحدهما مرتب على الآخر فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه بنفسه فليبدأ نفسه ثم بمن يعول والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحبا وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم وأما الوضوء والصلاة فهو لازم فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤديا أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعا فليكن من ترك النهي والانتهاء اكثر عقابا ممن نهى ولم ينته كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه بل للصلاة فلا حكم له دون الصلاة وأما الحسبة فليست شرطا في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما فإن قيل فيلزم على هذا أن يقال إذا زنى الرجل بإمرأة وهي مكرهة مستورة الوجه فكشفت وجهها باختيارها فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ويقول أنت مكرهة في الزنا ومختارة في كشف الوجه لغير محرم وها أنا غير محرم لك فاستري وجهك فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ويستشنعه كل طبع سليم فالجواب أن الحق قد يكون شنيعا وأن الباطل قد يكون مستحسنا بالطباع والمتبع الدليل دون نفرة الاوهام والخيالات فإنا نقول قوله لها في تلك الحالة لا تكشفي وجهك واجب أو مباح أو حرام فإن قلتم إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية والنهي عن المعصية حق وإن قلتم إنه مباح فإذن له أن يقول ما هو مباح فما معنى قولكم ليس للفاسق الحسبة وإن قلتم إنه حرام فنقول وكان هذا واجبا فمن أين حرم بإقدامه على الزنا ومن الغريب أن يصير الواجب حراما بسبب ارتكاب حرام آخر وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين أحدهما أنه ترك الاهم واشتغل بما هو مهم وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني فتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره فاشتغاله عن الأقل بالاكثر مستنكر في الطبع من حيث إنه ترك الأكثر لا من حيث إنه أتى بالاقل فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئا إذ قد صدر منه طلب اللجام وهو غير منكر ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام فاشتد الإنكار عليه لتركه الاهم بما دونه فكذلك حسبة الفاسق تستبعد من هذا الوجه وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة الثاني أن الحسبة تارة تكون بالنهي بالوعظ وتارة بالقهر ولا ينجع وعظ من لا يتعظ أولا ونحن نقول من علم أن قوله لا يقبل في الحسبة لعلم الناس بفسقه فليس عليه الحسبة بالوعظ إذ لا فائدة في وعظه فالفسق يؤثر في إسقاط فائدة كلامه ثم إذا سقطت فائدة كلامه سقط وجوب الكلام فأما إذا كانت الحسبة بالمنع فالمراد منه القهر وتمام القهر أن يكون بالفعل والحجة جميعا وإذا كان فاسقا فإن قهر بالفعل فقد قهر بالحجة إذ يتوجه عليه أن يقال له فأنت لم تقدم عليه فتنفر الطباع عن قهره بالفعل مع كونه مقهورا بالحجة وذلك لا يخرج الفعل عن كونه حقا كما أن يذب الظالم عن آحاد المسلمين ويهمل أباه وهو مظلوم معهم تنفر الطباع عنه ولا يخرج دفعه عن المسلم عن كونه حقا فخرج من هذا أن الفاسق ليس عليه الحسبة بالوعظ على من يعرف فسقه لأنه لا يتعظ وإذا لم يكن عليه ذلك وعلم أنه يفضى إلى تطويل اللسان في عرضه بالإنكار فنقول ليس له ذلك أيضا فرجع الكلام إلى أن أحد نوعي الاحتساب وهو الوعظ قد بطل بالفسق وصارت العدالة مشروطة فيه وأما الحسبة القهرية فلا يشترط فيها ذلك فلا حرج على الفاسق في إراقة الخمور وكسر الملاهي وغيرها إذا قدر وهذا غاية الإنصاف والكشف في المسألة وأما الآيات التي استدلوا بها فهو إنكار عليهم من حيث تركهم المعروف لا من حيث أمرهم ولكن أمرهم دل على قوة علمهم وعقاب العالم أشد لأنه لا عذر له مع قوة علمه وقوله تعالى لم تقولون ما لا تفعلون المراد به الوعد الكاذب وقوله عز وجل وتنسون انفسكم إنكار من حيث إنهم نسوا أنفسهم لا من حيث إنهم أمروا غيرهم ولكن ذكر أمر الغير استدلالا به على علمهم وتأكيدا للحجة عليهم وقوله يا ابن مريم عظ نفسك الحديث هو في الحسبة بالوعظ وقد سلمنا أن وعظ الفاسق ساقط الجدوى عند من يعرف فسقه ثم قوله فاستحي مني لا يدل على تحريم وعظ الغير بل معناه استحى مني فلا تترك الأهم وتشتغل بالمهم كما يقال احفظ اباك ثم جارك وإلا فاستحي فإن قيل فليجز للكافر الذمي أن يحتسب على المسلم إذا رآه يزني لأن قوله لا تزن حق في نفسه فمحال أن يكون حراما عليه بل ينبغي أن يكون مباحا أو واجبا قلنا الكافر إن منع المسلم بفعله فهو تسلط عليه فيمنع من حيث إنه تسلط وما جعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا وأما مجرد قوله لا تزن فليس بمحرم عليه من حيث إنه نهي عن الزنا ولكن من حيث إنه إظهار دالة الاحتكام على المسلم وفيه إذلال للمحتكم عليه والفاسق يستحق الإذلال ولكن لا من الكافر الذي هو أولى بالذل منه فهذا وجه منعنا إياه من الحسبة وإلا فلسنا نقول إن الكافر يعاقب بسبب قوله لا تزن من حيث إنه نهى بل نقول إنه إذا لم يقل لا تزن يعاقب عليه إن رأينا خطاب الكافر بفروع الدين وفيه نظر استوفيناه في الفقهيات ولا يليق بغرضنا الآن الشرط الرابع كونه مأذونا من جهة الأمام والوالي فقد شرط قوم هذا الشرط ولم يثبتوا للآحاد من الرعية الحسبة وهذا الاشتراط فاسد فإن الآيات والاخبار التي اوردناها تدل على أن كل من رأى منكرا فسكت عليه عصى إذ يجب نهيه اينما رآه وكيفما رآه على العموم فالتخصيص بشرط التفويض من الإمام تحكم لا أصل له والعجب أن الروافض زادوا على هذا فقالوا لا يجوز الأمر بالمعروف ما لم يخرج الإمام المعصوم وهو الإمام الحق عندهم وهؤلاء اخس رتبة من أن يكلموا بل جوابهم أن يقال لهم إذا جاءوا إلى القضاء طالبين لحقوقهم في دمائهم وأموالهم إن نصرتكم أمر بالمعروف واستخراج حقوقكم من أيدي من ظلمكم نهى عن المنكر وطلبكم لحقكم من جملة المعروف وما هذا زمان النهي عن الظلم وطلب الحقوق لأن الإمام الحق بعد لم يخرج فإن قيل في الأمر بالمعروف إثبات سلطنة وولاية واحتكام على المحكوم عليه ولذلك لم يثبت للكافر على المسلم مع كونه حقا فينبغي أن لا يثبت لآحاد الرعية إلا بتفويض من الوالي وصاحب الأمر فنقول أما الكافر فممنوع لما فيه من السلطنة وعز الاحتكام والكافر ذليل فلا يستحق أن ينال عز التحكم على المسلم وأما آحاد المسلمين فيستحقون هذا العز بالدين والمعرفة وما فيه من عز السلطنة والاحتكام لا يحوج إلى تفويض كعز التعليم والتعريف إذ لا خلاف في أن تعريف التحريم والايجاب لمن هو جاهل ومقدم على المنكر بجهله لا يحتاج إلى إذن الوالي وفيه عز الارشاد وعلى المعرف ذلك التجهيل وذلك يكفي فيه مجرد الدين وكذلك النهي وشرح القول في هذا أن الحسبة لها خمس مراتب كما سيأتي أولها التعريف والثاني الوعظ بالكلام اللطيف والثالث السب والتعنيف ولست أعنى بالسب الفحش بل أن يقول يا جاهل يا أحمق ألا تخاف الله وما يجري هذا المجرى والرابع المنع بالقهر بطريق المباشرة ككسر الملاهي وإراقة الخمر واختطاف الثوب الحرير من لابسه واستلاب الثوب المغصوب منه ورده على صاحبه والخامس التخويف والتهديد بالضرب ومباشرة الضرب له حتى يمتنع عما هو عليه كالمواظب على الغيبة والقذف فإن سلب لسانه غير ممكن ولكن يحمل على اختيار السكوت بالضرب وهذا قد يحوج إلى استعانة وجمع أعوان من الجانبين ويجر ذلك إلى قتال وسائر المراتب لا يخفى وجه استغنائها عن إذن الإمام إلا المرتبة الخامسة فإن فيها نظرا سيأتي أما التعريف والوعظ فكيف يحتاج إلى إذن الإمام وأما التجهيل والتحميق والنسبة إلى الفسق وقلة الخوف من الله وما يجري مجراه فهو كلام صدق والصدق مستحق بل أفضل الدرجات كلمة حق عند إمام جائر حديث أفضل الجهاد كلمة حق عند إمام جائر أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه وابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري كما ورد في الحديث فإذا جاز الحكم على الإمام على مراغمته فكيف يحتاج إلى إذنه وكذلك كسر الملاهي وإراقة الخمور فإنه تعاطي ما يعرف كونه حقا من غير اجتهاد فلم يفتقر إلى الإمام وأما جمع الاعوان وشهر الاسلحة فذلك قد يجر إلى فتنة عامة ففيه نظر سيأتي واستمرار عادات السلف على الحسبة على الولاة قاطع بإجماعهم على الاستغناء عن التفويض بل كل من أمر بمعروف فإن كان الوالي راضيا به فذاك وإن كان ساخطا له فسخطه له منكر يجب الإنكار عليه فكيف يحتاج إلى اذنه في الإنكار عليه ويدل على ذلك عادة السلف في الإنكار على الأئمة كما روي أن مروان بن الحكم خطب قبل صلاة العيد فقال له رجل إنما الخطبة بعد الصلاة فقال له مروان اترك ذلك يا فلان فقال أبو سعيد أما هذا فقد قضى ما عليه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من رأى منكم منكرا فلينكره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان حديث إن مروان خطب قبل الصلاة في العيد الحديث وفيه حديث أبي سعيد مرفوعا من رأى منكرا الحديث رواه مسلم فلقد كانوا فهموا من هذه العمومات دخول السلاطين تحتها فكيف يحتاج إلى إذنهم وروى أن المهدي لما قدم مكة لبث بها ما شاء الله فلما أخذ في الطواف نحى الناس عن البيت فوثب عبد الله بن مرزوق فلببه بردائه ثم هزه وقال له انظر ما تصنع من جعلك بهذا البيت أحق ممن أتاه من البعد حتى إذا صار عنده حلت بينه وبينه وقد قال الله تعالى سواء العاكف فيه والباد من جعل لك هذا فنظر في وجهه وكان بعرفه لأنه من مواليهم فقال أعبد الله ابن مرزوق قال نعم فأخذ فجىء به إلى بغداد فكره أن يعاقبه عقوبة يشنع بها عليه في العامة فجعله في اصطبل الدواب ليسوس الدواب وضموا إليه فرسا عضوضا سيىء الخلق ليعقره الفرس فلين الله تعالى له الفرس قال ثم صيروه إلى بيت وأغلق عليه وأخذ المهدي المفتاح عنده فإذا هو قد خرج بعد ثلاث إلى البستان يأكل البقل فأوذن به المهدي فقال له من أخرجك فقال الذي حبسني فضج المهدي وصاح وقال ما تخاف أن أقتلك فرفع عبد الله إليه رأسه يضحك وهو يقول لو كنت تملك حياة أو موتا فما زال محبوسا حتى مات المهدي ثم خلوا عنه فرجع إلى مكة قال وكان قد جعل على نفسه نذرا إن خلصه الله من أيديهم أن ينحر مائة بدنة فكان يعمل في ذلك حتى نحرها وروى عن حبان بن عبد الله قال تنزه هارون الرشيد بالدوين ومعه رجل من بني هاشم وهو سليمان بن أبي جعفر فقال له هارون قد كانت لك جارية تغني فتحسن فجئنا بها قال فجاءت فغنت فلم يحمد غناءها فقال لها ما شأنك فقالت ليس هذا عودي فقال للخادم جئنا بعودها قال فجاء بالعود فوافق شيخا يلقط النوى فقال الطريق يا شيخ فرفع الشيخ رأسه فرأى العود فأخذه من الخادم فضرب به الأرض فأخذه الخادم وذهب به إلى صاحب الربع فقال احتفظ بهذا فإنه طلبة أمير المؤمنين فقال له صاحب الربع ليس ببغداد أعبد من هذا فكيف يكون طلبة أمير المؤمنين فقال له اسمع ما أقول لك ثم دخل على هارون فقال إني مررت على شيخ يلقط النوى فقلت له الطريق فرفع رأسه فرأى العود فأخذه فضرب به الأرض فكسره فاستشاط هارون وغضب واحمرت عيناه فقال له سليمان بن أبي جعفر ما هذا الغضب يا أمير المؤمنين ابعث إلى صاحب الربع يضرب عنقه ويرم به في الدجلة فقال لا ولكن نبعث إليه ونناظره اولا فجاء الرسول فقال اجب أمير المؤمنين فقال نعم قال اركب قاللا فجاء يمشي حتى وقف على باب القصر فقيل لهارون قد جاء الشيخ فقال للندماء أي شيء ترون نرفع ما قدامنا من المنكر حتى يدخل هذا الشيخ أو نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر فقالوا له نقوم إلى مجلس آخر ليس فيه منكر اصلح فقاموا إلى مجلس ليس فيه منكر ثم أمر بالشيخ فأدخل وفي كمه الكيس الذي فيه النوى فقال له الخادم اخرج هذا من كمك وادخل على أمير المؤمنين فقال من هذا عشائي الليلة قال نحن نعشيك قال لا حاجة لي في عشائكم فقال هارون للخادم أي شيء تريد منه قال في كمه نوى قلت له اطرحه وادخل على أمير المؤمنين فقال دعه لا يطرحه قال فدخل وسلم وجلس فقال له هارون يا شيخ ما حملك على ما صنعت قال وأي شيء صنعت وجعل هارون يستحي أن يقول كسرت عودي فلما اكثر عليه قال إني سمعت اباك واجدادك يقرءون هذه الآية على المنبر إن الله يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي وأنا رأيت منكرا فغيرته فقال فغيره فوالله ما قال إلا هذا فلما خرج أعطى الخليفة رجلا بدرة وقال اتبع الشيخ فإن رأيته يقول قلت لأمير المؤمنين وقال لي فلا تعطه شيئا وإن رأيته لا يكلم أحدا فأعطه البدرة فلما خرج من القصر إذا هو بنواة في الأرض قد غاصت فجعل يعالجها ولم يكلم احدا فقال له يقول لك أمير المؤمنين خذه هذه البدرة فقال قل لأمير المؤمنين يردها من حيث أخذها ويروى أنه أقبل بعد فراغه من كلامه على النواة التي يعالج قلعها من الأرض وهو يقول أرى الدنيا لمن هي في يديه هموما كلما كثرت لديه تهين المكرمين لها بصغر وتكرم كل من هانت عليه إذا استغنيت عن شيء فدعه وخذ ما أنت محتاج إليه وعن سفيان الثوري رحمه الله قال حج المهدي سنة ست وستين ومائة فرأيته يرمي جمرة العقبة والناس يخبطون يمينا وشمالا بالسياط فوقفت فقلت يا حسن الوجه حدثنا أيمن عن وائل عن قدامة بن عبد الله الكلابي قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك حديث قدامة بن عبد الله رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة يوم النحر على جمل لا ضرب ولا طرد ولا جلد ولا إليك إليك رواه الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه وأما قوله في أوله إن الثوري قال حج المهدي سنة ست وستين فليس بصحيح فإن الثوري توفي سنة إحدى وستين وها أنت يخبط الناس بين يديك يمينا وشمالا فقال لرجل من هذا قال سفيان الثوري فقال يا سفيان لو كان المنصور ما احتملك على هذا فقال لو اخبرك المنصور لقي لقصرت عما أنت فيه قال فقيل له إنه قال لك يا حسن الوجه ولم يقل لك يا أمير المؤمنين فقال اطلبوه فطلب سفيان فاختفى وقد روى عن المأمون أنه بلغه أن رجلا محتسبا يمشي في الناس يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولم يكن مأمورا من عنده بذلك فأمر بأن يدل عليه فلما صار بين يديه قال له إنني بلغني أنك رأيت نفسك أهلا للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير أن نأمرك وكان المأمون جالسا على كرسي ينظر في كتاب أو قصة فأغفله فوقع منه فصار تحت قدمه من حيث لم يشعر به فقال له المحتسب ارفع قدمك عن أسماء الله تعالى ثم قل ما شئت فلم يفهم المأمون مراده فقال ماذا تقول حتى أعاده ثلاثا فلم يفهم فقال إما رفعت أو أذنت لي حتى أرفع فنظر المأمون تحت قدمه فرأى الكتاب فأخذه وقبله وخجل ثم عاد وقال لم تأمر بالمعروف وقد جعل الله ذلك إلينا أهل البيت ونحن الذين قال الله تعالى فيهم الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر فقال صدقت يا أمير المؤمنين أنت كما وصفت نفسك من السلطان والتمكن غير أنا أعوانك وأولياؤك فيه ولا ينكر ذلك إلا من جهل كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف الآية وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا حديث المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا متفق عليه من حديث أبي موسى وقد تقدم في الباب الثالث من آداب الصحبة وقد مكنت في الأرض وهذا كتاب الله وسنة رسوله فإن انقدت لهما شكرت لمن أعانك لحرمتهما وإن استكبرت عنهما ولم تنقد لما لزمك منهما فإن الذي إليه أمرك وبيده عزك وذلك قد شرط أنه لا يضيع اجر من أحسن عملا فقل الآن ما شئت فأعجب المأمون بكلامه وسر به وقال مثلك يجوز له أن يأمر بالمعروف فامض على ما كنت عليه بأمرنا وعن رأينا فاستمر الرجل على ذلك ففي سياق هذه الحكايات بيان الدليل على الاستغناء عن الإذن فإن قيل أفتثبت ولاية الحسبة للولد على الوالد والعبد على المولى والزوجة على الزوج والتلميذ على الأستاذ والرعية على الوالي مطلقا كما يثبت للوالد على الولد والسيد على العبد والزوج على الزوجة والأستاذ على التلميذ والسلطان على الرعية أو بينهما فرق فاعلم أن الذي نراه أنه يثبت أصل الولاية ولكن بينهما فرق في التفصيل ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد فنقول قد رتبنا للحسبة خمس مراتب وللولد الحسبة بالرتبتين الاوليين وهما التعريف ثم الوعظ والنصح باللطف وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان وهل له الحسبة بالرتبة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه هذا فيه نظر وهو بأن يكسر مثلا عوده ويريق خمره ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين إذا كان صاحبه معينا ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه والمنقورة في خشب بيته ويكسر أواني الذهب والفضة فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب بخلاف الضرب والسب ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه إلا أن فعل الولد حق وسخط الاب منشؤه حبه للباطل وللحرام والأظهر في القياس انه يثبت للولد ذلك بل يلزمه أن يفعل ذلك ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر والى مقدار الأذى والسخط فإن كان المنكر فاحشا وسخطه عليه قريبا كإراقة خمر من لا يشتد غضبه فذلك ظاهر وإن كان المنكر قريبا والسخط شديدا كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان وفي كسرها خسران مال كثير فهذا مما يشتد فيه الغضب وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره فهذا كله مجال النظر فإن قيل ومن أين قلتم ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والارهاق إلى ترك الباطل والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاما من غير تخصيص وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات فنقول قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حدا ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه بل لا يباشر قتل أبيه الكافر بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته وقد ورد في ذلك أخبار وثبت بعضها بالإجماع الأخبار الواردة في أن الجلاد ليس له أن يجلد أباه في الزنا ولا أن يباشر إقامة الحد عليه ولا يباشر قتل أبيه الكافر وأنه لو قطع يده لم يلزم القصاص ثم قال وثبت بعضها بالإجماع قلت لم أجد فيه إلا حديث لا يقاد الوالد بالولد رواه الترمذي وابن ماجه من حديث عمر قال الترمذي فيه اضطراب فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة بل أولى وهذا الترتيب أيضا ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج فهما قريبان من الولد في لزوم الحق وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح ولكن في الخبر أنه لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها حديث لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها تقدم في النكاح وهذا يدل على تأكيد الحق أيضا وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد فليس لها معه إلا التعريف والنصح فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته وردها إلى الملاك وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضي إلى خرق هيبته واسقاط حشمته وذلك محظور ورد النهي عنه كما ورد النهي عن السكوت على المنكر حديث النهي عن الإنكار على السلطان جهرة بحيث يؤدي إلى خرق هيبته أخرجه الحاكم في المستدرك من حديث عياض بن غنم ألاشعري من كانت عنده نصيحة لذي سلطان فلا يكلمه بها علانية وليأخذه بيده فليخل به فإن قبلها قبلها وإلا كان قد أدى الذي عليه والذي له قال صحيح الإسناد وللترمذي وحسنه من حديث أبي بكرة من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله في الأرض فقد تعارض فيه أيضا محذوران والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه وذلك مما لا يمكن ضبطه وأما التلميذ والاستاذ فالأمر فيما بينهما أخف لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه وروى انه سئل الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده فقال يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه الشرط الخامس كونه قادرا ولا يخفى أن العاجز ليس عليه حسبة إلا بقلبه إذ كل من أحب الله يكره معاصيه وينكرها وقال ابن مسعود رضي الله عنه جاهدوا الكفار بأيديكم فإن لم تستطيعوا إلا أن تكفهروا في وجوههم فافعلوا واعلم انه لا يقف سقوط الوجوب على العجز الحسي بل يلتحق به ما يخاف عليه مكروها يناله فذلك في معنى العجز وكذلك إذا لم يخف مكروها ولكن علم أن إنكاره لا ينفع فليلتفت إلى معنيين أحدهما عدم إفادة الإنكار امتناعا والآخر خوف مكروه ويحصل من اعتبار المعنيين أربعة أحوال أحدهما أن يجتمع المعنيان بأن يعلم أنه لا ينفع كلامه ويضرب إن تكلم فلا تجب عليه الحسبة بل ربما تحرم في بعض المواضع نعم يلزمه أن لا يحضر مواضع المنكر ويعتزل في بيته حتى لا يشاهد ولا يخرج إلا لحاجة مهمة أو واجب ولا يلزمه مفارقة تلك البلدة والهجرة إلا إذا كان يرهق إلى الفساد أو يحمل على مساعدة السلاطين في الظلم والمنكرات فيلزمه الهجرة إن قدر عليها فإن الاكراه لا يكون عذرا في حق من يقدر على الهرب من الإكراه الحالة الثانية أن ينتفي المعنيان جميعا بأن يعلم أن المنكر يزول بقوله وفعله ولا يقدر له على مكروه فيجب عليه الإنكار وهذه هي القدرة المطلقة الحالة الثالثة أن يعلم أنه لا يفيد إنكاره لكنه لا يخاف مكروها فلا تجب عليه الحسبة لعدم فائدتها ولكن تستحب لإظهار شعائر الإسلام وتذكير الناس بأمر الدين الحالة الرابعة عكس هذه وهو أن يعلم انه يصاب بمكروه ولكن يبطل المنكر بفعله كما يقدر على أن يرمي زجاجة الفاسق بحجر فيكسرها ويريق الخمر أو يضرب العود الذي في يده ضربة مختطفة فيكسره في الحال ويتعطل عليه هذا المنكر ولكن يعلم انه يرجع إليه فيضرب رأسه فهذا ليس بواجب وليس بحرام بل هو مستحب ويدل عليه الخبر الذي اوردناه في فضل كلمة حق عند إمام جائر ولا شك في أن ذلك مظنة الخوف ويدل عليه أيضا ما روى عن أبي سليمان الداراني رحمه الله تعالى انه قال سمعت من بعض الخلفاء كلاما فأردت أن انكر عليه وعلمت أني أقتل ولم يمنعني القتل ولكن كان في ملأ من الناس فخشيت أن يعتريني التزين للخلق فأقتل من غير إخلاص في الفعل فإن قيل فما معنى قوله تعالى ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة قلنا لا خلاف في أن المسلم الواحد له أن يهجم على صف الكفار ويقاتل وإن علم أنه يقتل وهذا ربما يظن أنه مخالف لموجب الآية وليس كذلك فقد قال ابن عباس رضي الله عنهما ليس التهلكة ذلك بل ترك النفقة في طاعة الله تعالى أي من لم يفعل ذلك فقد أهلك نفسه وقال البراء بن عازب التهلكة هو أن يذنب الذنب ثم يقول لا يتاب علي وقال أبو عبيدة هو أن يذنب ثم لا يعمل بعده خيرا حتى يهلك وإذا جاز أن يقاتل الكفار حتى يقتل جاز أيضا له ذلك في الحسبة ولكن لو علم أنه لا نكاية لهجومه على الكفار كالأعمى يطرح نفسه على الصف أو العاجزفذلك حرام وداخل تحت عموم آية التهلكة وإنما جاز له الإقدام إذا علم أنه يقاتل إلى أن يقتل أو علم انه يكسر قلوب الكفار بمشاهدتهم جراءته واعتقادهم في سائر المسلمين قلة المبالاة وحبهم للشهادة في سبيل الله فتنكسر بذلك شوكتهم فكذلك يجوز للمحتسب بل يستحب له أن يعرض نفسه للضرب وللقتل إذا كان لحسبته تأثير في رفع المنكر أو في كسر جاه الفاسق أو في تقوية قلوب أهل الدين وأما إن رأى فاسقا متغلبا وعنده سيف وبيده قدح وعلم أنه لو أنكر عليه لشرب القدح وضرب رقبته فهذا مما لا أرى للحسبة فيه وجها وهو عين الهلاك فإن المطلوب أن يؤثر في الدين أثرا ويفديه بنفسه فأما تعريض النفس للهلاك من غير أثر فلا وجه له بل ينبغي أن يكون حراما وإنما يستحب له الإنكار إذا قدر على إبطال المنكر أو ظهر لفعله فائدة وذلك بشرط أن يقتصر المكروه عليه فإن علم أنه يضرب معه غيره من أصحابه أو أقاربه أو رفقائه فلا تجوز له الحسبة بل تحرم لأنه عجز عن دفع المنكر إلا بأن يفضى ذلك إلى منكر آخر وليس ذلك من القدرة في شيء بل لو علم انه لو احتسب لبطل ذلك المنكر ولكن كان ذلك سببا لمنكر آخر يتعاطاه غير المحتسب عليه فلا يحل له الافكار الأظهر لان المقصود عدم مناكير الشرع مطلقا لأمين زيد أو عمرو وذلك بأن يكون مثلا مع الإنسان شراب حلال نجس بسبب وقوع نجاسة فيه وعلم أنه لو أراقه لشرب صاحبه الخمر أو تشرب اولاده الخمر لإعوازهم الشراب الحلال فلا معنى لإراقة ذلك ويحتمل أن يقال إنه يريق ذلك فيكون هو مبطلا لمنكر وأما شرب الخمر فهو الملوم فيه والمحتسب غير قادر على منعه من ذلك المنكر وقد ذهب إلى هذا ذاهبون وليس ببعيد فإن هذه مسائل فقهية لا يمكن فيها الحكم إلا بظن ولا يبعد أن يفرق بين درجات المنكر المغير والمنكر الذي تفضى إليه الحسبة والتغيير فإنه إذا كان يذبح شاة لغيره ليأكلها وعلم أنه لو منعه من ذلك لذبح إنسانا وأكله فلا معنى لهذه الحسبة نعم لو كان منعه عن ذبح إنسان أو قطع طرقه يحمله على أخذ ماله فذلك له وجه فهذه دقائق واقعة في محل الاجتهاد وعلى المحتسب اتباع اجتهاده في ذلك كله ولهذه الدقائق نقول العامي ينبغي له أن لا يحتسب إلا في الجليات المعلومة كشرب الخمر والزنا وترك الصلاة فأما ما يعلم كونه معصية بالإضافة إلى ما يطيف به من الأفعال ويفتقر فيه إلى اجتهاد فالعامي إن خاض فيه كان ما يفسده أكثر مما يصلحه وعن هذا يتأكد ظن من لا يثبت ولاية الحسبة إلا بتعيين الوالي إذ ربما ينتدب لها من ليس أهلا لها لقصور معرفته أو قصور ديانته فيؤدي ذلك إلى وجوه من الخلل وسيأتي كشف الغطاء عن ذلك إن شاء الله فإن قيل وحيث أطلقتم العلم بأن يصيبه مكروه أو أنه لا تفيد حسبته فلو كان بدل العلم ظن فما حكمه قلنا الظن الغالب في هذه الابواب في معنى العلم وإنما يظهر الفرق عند تعارض الظن والعلم إذ يرجح العلم اليقيني على الظن ويفرق بين العلم والظن في مواضع آخر وهو أنه يسقط وجوب الحسبة عنه حيث علم قطعا أنه لا يفيد فإن كان غالب ظنه أنه لا يفيد ولكن يحتمل أن يفيد وهو مع ذلك لا يتوقع مكروها فقد اختلفوا في وجوبه والأظهر وجوبه إذ لا ضرر فيه وحدواه متوقعة وعموم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تقتضي الوجوب بكل حال ونحن إنما نستثني عنه بطريق التخصيص ما إذا علم أنه لا فائدة فيه إما بالإجماع أو بقياس ظاهر وهو أن الأمر ليس يراد لعينه بل للمأمور فإذا علم اليأس عنه فلا فائدة فيه فأما إذا لم يكن يأس فينبغي أن لا يسقط الوجوب فإن قيل فالمكروه الذي تتوقع إصابته إن لم يكن متيقنا ولا معلوما بغالب الظن ولكن كان مشكوكا فيه أو كان غالب ظنه أنه لا يصاب بمكروه ولكن احتمل أن يصاب بمكروه فهذا الاحتمال هل يسقط الوجوب حتى لا يجب إلا عند اليقين بأنه لا يصيبه مكروه أم يجب في كل حال إلا إذا غلب على ظنه أنه يصاب بمكروه قلنا إن غلب على الظن أنه يصاب لم يجب وإن غلب أنه لا يصاب وجب ومجرد التجويز لا يسقط الوجوب فإن ذلك ممكن في كل حسبة وإن شك فيه من غير رجحان فهذا محل النظر فيحتمل أن يقال الأصل الوجوب بحكم العمومات وإنما يسقط بمكروه والمكروه هو الذي يظن أو يعلم حتى يكون متوقعا وهذا هو الأظهر ويحتمل أن يقال إنه إنما يجب عليه إذا علم أنه لا ضرر فيه عليه أو ظن أنه لا ضرر عليه والأول أصح نظرا إلى قضية العمومات الموجبة للأمر بالمعروف فإن قيل فالتوقع للمكروه يختلف بالجبن والجراءة فالجبان الضعيف القلب يرى البعيد قريبا حتى كأنه يشاهده ويرتاع منه والمتهور الشجاع يبعد وقوع المكروه به بحكم ما جبل عليه من حسن الأمل حتى إنه لا يصدق به إلا بعد وقوعه فعلى ماذا التعويل قلنا التعويل على اعتدال الطبع وسلامة العقل والمزاج فإن الجبن مرض وهو ضعف في القلب سببه قصور في القوة وتفريط والتهور إفراط في القوة وخروج عن الاعتدال بالزيادة وكلاهما نقصان وإنما الكمال في الاعتدال الذي يعبر عنه بالشجاعة وكل واحد من الجبن والتهور يصدر تارة عن نقصان العقل وتارة عن خلل في المزاج بتفريط أو إفراط فإن من اعتدل مزاجه في صفة الجبن والجراءة فقد لا يتفطن لمدارك الشر فيكون سبب جراءته جهله وقد لا يتفطن لمدارك دفع الشر فيكون سبب جبنه جهله وقد يكون عالما بحكم التجربة والممارسة بمداخل الشر ودوافعه ولكن يعمل الشر البعيد في تخذيله وتحليل قوته في الإقدام بسبب ضعف قلبه ما يفعله الشر القريب في حق الشجاع المعتدل الطبع فلا التفات إلى الطرفين وعلى الجبان أن يتكلف إزالة الجبن بإزالة علته وعلته جهل أو ضعف ويزول الجهل بالتجربة ويزول الضعف بممارسة الفعل المخفوف منه تكلفا حتى يصير معتادا إذ المبتدىء في المناظرة والوعظ مثلا قد يجبن عنه طبعه لضعفه فإذا مارس واعتاد فارقه الضعف فإن صار ذلك ضروريا غير قابل للزوال بحكم استيلاء الضعف على القلب فحكم ذلك الضعيف يتبع حاله فيعذر كما يعذر المريض في التقاعد عن بعض الواجبات ولذلك قد نقول على رأي لا يجب ركوب البحر لأجل حجة الإسلام على من يغلب عليه الجبن في ركوب البحر ويجب على من لا يعظم خوفه منه فكذلك الأمر في وجوب الحسبة فإن قيل فالمكروه المتوقع ما حده فإن الإنسان قد يكره كلمة وقد يكره ضربة وقد يكره طول لسان المحتسب عليه في حقه بالغيبة وما من شخص يؤمر بالمعروف إلا يتوقع منه نوع من الأذى وقد يكون منه أن يسعى به إلى سلطان أو يقدح فيه في مجلس يتضرر بقدحه فيه فما حد المكروه الذي يسقط الوجوب به قلنا هذا أيضا فيه نظر غامض وصورته منتشرة ومجاريه كثيرة ولكنا نجتهد في ضم نشره وحصر أقسامه فنقول المكروه نقيض المطلوب ومطالب الخلق في الدنيا ترجع إلى أربعة أمور أما في النفس فالعلم وأما في البدن فالصحة والسلامة وأما في المال فالثروة وأما في قلوب الناس فقيام الجاه فإذا المطلوب العلم والصحة والثروة والجاه ومعنى الجاه ملك قلوب الناس كما أن معنى الثروة ملك الدراهم لأن قلوب الناس وسيلة إلى الأعراض كما أن ملك الدراهم وسيلة إلى بلوغ الأغراض وسيأتي تحقيق معنى الجاه وسبب ميل الطبع إليه في ربع المهلكات وكل واحدة من هذه الأربعة يطلبها الإنسان لنفسه ولأقاربه والمختصين به ويكره في هذه الأربعة أمران أحدهما زوال ما هو حاصل موجود والآخر امتناع ما هو منتظر مفقود أعني اندفاع ما يتوقع وجوده فلا ضرر إلا في فوات حاصل وزواله أو تعويق منتظر فإن المنتظر عبارة عن الممكن حصوله والممكن حصوله كأنه حاصل وفوات إمكانه كأنه فوات حصوله فرجع المكروه إلى قسمين أحدهما خوف امتناع المنتظر وهذا لا ينبغي أن يكون مرخصا في ترك الأمر بالمعروف أصلا ولنذكر مثاله في المطالب الأربعة أما العلم فمثاله تركه الحسبة على من يختص بأستاذه خوفا من أن يقبح حاله عنده فيمتنع من تعليمه وأما الصحة فتركه الإنكار على الطبيب الذي يدخل عليه مثلا وهو لابس حريرا خوفا من أن يتأخر عنه فتمتنع بسببه صحته المنتظرة وأما المال فتركه الحسبة على السلطان وأصحابه وعلى من يواسيه من ماله خيفة من أن يقطع إدراره في المستقبل ويترك مواساته وأما الجاه فتركه الحسبة على من يتوقع منه نصرة وجاها في المستقبل خيفة من أن لا يحصل له الجاه أو خيفة من أن يقبح حاله عند السلطان الذي يتوقع منه ولاية وهذا كله لا يسقط وجوب الحسبة لأن هذه زيادات امتنعت وتسمية امتناع حصول الزيادات ضررا مجاز وإنما الضرر الحقيقي فوات حاصل ولا يستثنى من هذا شيء إلا ما تدعو إليه الحاجة ويكون في فواته محذور يزيد على محذور السكوت على المنكر كما إذا كان محتاجا إلى الطبيب لمرض ناجز والصحة منتظرة من معالجة الطبيب ويعلم أن في تأخره شدة الضنا به وطول المرض وقد يفضي إلى الموت وأعني بالعلم الظن الذي يجوز بمثله ترك استعمال الماء والعدول إلى التيمم فإذا انتهى إلى هذا الحد لم يبعد أن يرخص في ترك الحسبة وأما في العلم فمثل أن يكون جاهلا بمهمات دينه ولم يجد إلا معلما واحدا ولا قدرة له على الرحلة إلى غيره وعلم أن المحتسب عليه قادر على أن يسد عليه طريق الوصول إليه لكون العالم مطيعا له أو مستمعا لقوله فإذا الصبر على الجهل بمهمات الدين محذور والسكوت على المنكر محذور ولا يبعد أن يرجح أحدهما ويختلف ذلك بتفاحش المنكر وبشدة الحاجة إلى العلم لتعلقه بمهمات الدين وأما في المال فكمن يعجز عن الكسب والسؤال وليس هو قوي النفس في التوكل ولا منفق عليه سوى شخص واحد ولو احتسب عليه قطع رزقه وافتقر في تحصيله إلى طلب إدرار حرام أو مات جوعا فهذا أيضا إذا اشتد الأمر فيه لم يبعد أن يرخص له في السكوت وأما الجاه فهو أن يؤذيه شرير ولا يجد سبيلا إلى دفع شره إلا بجاه يكتسبه من سلطان ولا يقدر على التوصل إليه إلا بواسطة شخص يلبس الحرير أو يشرب الخمر ولو احتسب عليه لم يكن واسطة ووسيلة له فيمتنع عليه حصول الجاه ويدوم بسببه أذى الشرير فهذه الأمور كلها إذا ظهرت وقويت لم يبعد استثناؤها ولكن الأمر فيها منوط باجتهاد المحتسب حتى يستفتي فيها قلبه ويزن أحد المحذورين بالآخر ويرجح بنظر الدين لا بموجب الهوى والطبع فإن رجح بموجب الدين سمى سكوته مداراة وإن رجح بموجب الهوى سمى سكوته مداهنة وهذا أمر باطن لا يطلع عليه إلا بنظر دقيق ولكن الناقد بصير فحق على كل متدين فيه أن يراقب قلبه ويعلم أن الله مطلع على باعثه وصارفه أنه الدين أو الهوى وستجد كل نفس ما عملت من سوء أو خير محضرا عند الله ولو في فلتة خاطر أو فلتة ناظر من غير ظلم وجور فما الله بظلام للعبيد وأما القسم الثاني وهو فوات الحاصل فهو مكروه ومعتبر في جواز السكوت في الأمور الأربعة إلا العلم فإن فواته غير مخوف إلا بتقصير منه وإلا فلا يقدر أحد على سلب العلم من غيره وإن قدر على سلب الصحة والسلامة والثروة والمال وهذا أحد أسباب شرف العلم فإنه يدوم في الدنيا ويدوم ثوابه في الآخرة فلا انقطاع له أبد الآباد وأما الصحة والسلامة ففواتهما بالضرب فكل من علم أنه يضرب ضربا مؤلما يتأذى به في الحسبة لم تلزمه الحسبة وإن كان يستحب له ذلك كما سبق وإذا فهم هذا في الإيلام بالضرب فهو في الجرح والقطع والقتل أظهر وأما الثروة فهو بأن يعلم أنه تنهب داره ويخرب بيته وتسلب ثيابه فهذا أيضا يسقط عنه الوجوب ويبقى الاستحباب إذ لا بأس بأن يفدي دينه بدنياه ولكل واحد من الضرب والنهب حد في القلة لا يكترث به كالحبة في المال واللطمة الخفيف ألمها في الضرب وحد في الكثرة يتعين اعتباره ووسط يقع في محل الاشتباه والاجتهاد وعلى المتدين أن يجتهد في ذلك ويرجح جانب الدين ما أمكن وأما الجاه ففواته بأن يضرب ضربا غير مؤلم أو بسبب على ملأ من الناس أو يطرح منديله في رقبته ويدار به في البلد أو يسود وجهه ويطاف به وكل ذلك من غير ضرب مؤلم للبدن وهو فادح في الجاه ومؤلم للقلب وهذا له درجات فالصواب أن يقسم إلى ما يعبر عنه بسقوط المروءة كالطواف به في البلد حاسرا حافيا فهذا يرخص له في السكوت لأن المروءة مأمور بحفظها في الشرع وهذا مؤلم للقلب ألما يزيد على ألم ضربات متعددة وعلى فوات دريهمات قليلة فهذه درجة الثانية ما يعبر عنه بالجاه المحض وعلو الرتبة فإن الخروج في ثياب فاخرة تجمل وكذلك الركوب للخيول فلو علم أنه لو احتسب لكلف المشي في السوق في ثياب لا يعتاد هو مثلها أو كلف المشي راجلا وعادته الركوب فهذا من جملة المزايا وليست المواظبة على حفظها محمودة وحفظ المروءة محمود فلا ينبغي أن يسقط وجوب الحسبة بمثل هذا القدر وفي معنى هذا ما لو خاف أن يتعرض له باللسان إما في حضرته بالتجهيل والتحميق والنسبة إلى الرياء والبهتان وأما في غيبته بأنواع الغيبة فهذا لا يسقط الوجوب إذ ليس فيه إلا زوال فضلات الجاه التي ليس إليها كبير حاجة ولو تركت الحسبة بلوم لائم أو باغتياب فاسق أو شتمه وتعنيفه أو سقوط المنزلة عن قلبه وقلب أمثاله لم يكن للحسبة وجوب أصلا إذ لا تنفك الحسبة عنه إلا إذا كان المنكر هو الغيبة وعلم أنه لو أنكر لم يسكت عن المغتاب ولكن أضافه إليه وأدخله معه في الغيبة فتحرم هذه الحسبة لأنها سبب زيادة المعصية وإن علم أنه يترك تلك الغيبة ويقتصر على غيبته فلا تجب عليه الحسبة لأن غيبته أيضا معصية في حق المغتاب ولكن يستحب له ذلك ليفدى عرض المذكور بعرض نفسه على سبيل الإيثار وقد دلت العمومات على تأكد وجوب الحسبة وعظم الخطر في السكوت عنها فلا يقابله إلا ما عظم في الدين خطره والمال والنفس والمروءة قد ظهر في الشرع خطرها فأما مزايا الجاه والحشمة ودرجات التجمل وطلب ثناء الخلق فكل ذلك لا خطر له وأما امتناعه لخوف شيء من هذه المكاره في حق أولاده وأقاربه فهو في حقه دونه لأن تأذيه بأمر نفسه أشد من تأذيه بأمر غيره ومن وجه الدين هو فوقه لأن له أن يسامح في حقوق نفسه وليس له المسامحة في حق غيره فإذا ينبغي أن يمتنع فإنه إن كان ما يفوت من حقوقهم يفوت على طريق المعصية كالضرب والنهب فليس له هذه الحسبة لأنه دفع منكر يفضي إلى منكر وإن كان يفوت لا بطريق المعصية فهو إيذاء للمسلم أيضا وليس له ذلك إلا برضاهم فإذا كان يؤدي ذلك إلى أذى قومه فليتركه وذلك كالزاهد الذي له أقارب أغنياء فإنه لا يخاف على ماله إن احتسب على السلطان ولكنه يقصد أقاربه انتقاما منه بواسطته فإذا كان يتعدى الأذى من حسبته إلى أقاربه وجيرانه فليتركها فإن إيذاء المسلمين محذور كما أن السكوت على المنكر محذور نعم إن كان لا ينالهم أذى في مال أو نفس ولكن ينالهم الأذى بالشتم والسب فهذا فيه نظر ويختلف الأمر فيه بدرجات المنكرات في تفاحشها ودرجات الكلام المحذور في نكايته في القلب وقدحه في العرض فإن قيل فلو قصد الإنسان قطع طرف من نفسه وكان لا يمتنع عنه إلا بقتال ربما يؤدي إلى قتله فهل يقاتل عليه فإن قلتم يقاتل فهو محال لأنه إهلاك نفس خوفا من إهلاك طرف وفي إهلاك النفس إهلاك الطرف أيضا قلنا يمنعه عنه ويقاتله إذ ليس غرضنا حفظ نفسه وطرفه بل الغرض حسم سبيل المنكر والمعصية وقتله في الحسبة ليس بمعصية وقطع طرف نفسه معصية وذلك كدفع الصائل على مال مسلم بما يأتي على قتله فإنه جائز لا على معنى أنا نفدي درهما من مال مسلم بروح مسلم فإن ذلك محال ولكن قصده لأخذ مال المسلمين معصية وقتله في الدفع عن المعصية ليس بمعصية وإنما المقصود دفع المعاصي فإن قيل فلو علمنا أنه لو خلا بنفسه لقطع طرف نفسه فينبغي أن نقتله في الحال حسما لباب المعصية قلنا ذلك لا يعلم يقينا ولا يجوز سفك دمه بتوهم معصية ولكنا إذا رأيناه في حال مباشرة القطع دفعناه فإن قاتلنا قاتلناه ولم نبال بما يأتي على روحه فإذا المعصية لها ثلاثة أحوال إحداها أن تكون متصرمة فالعقوبة على ما تصرم منها حد أو تعزير وهو إلى الولاة لا إلى الآحاد الثانية أن تكون المعصية راهنة وصاحبها مباشر لها كلبسه الحرير وإمساكه العود والخمر فإبطال هذه المعصية واجب بكل ما يمكن ما لم تؤد إلى معصية أفحش منها أو مثلها وذلك يثبت للآحاد والرعية الثالثة أن يكون المنكر متوقعا كالذي يستعد بكنس المجلس وتزيينه وجمع الرياحين لشرب الخمر وبعده لم يحضر الخمر فهذا مشكوك فيه إذ ربما يعوق عنه عائق فلا يثبت للآحاد سلطنة على العازم على الشرب إلا بطريق الوعظ والنصح فأما بالتعنيف والضرب فلا يجوز للأحاد ولا للسلطان إلا إذا كانت تلك المعصية علمت منه بالعادة المستمرة وقد أقدم على السبب المؤدي إليها ولم يبق لحصول المعصية إلا ما ليس له فيه إلا الانتظار وذلك كوقوف الأحداث على أبواب حمامات النساء للنظر إليهن عند الدخول والخروج فإنهم وإن لم يضيقوا الطريق لسعته فتجوز الحسبة عليهم بإقامتهم من الموضع ومنعهم عن الوقوف بالتعنيف والضرب وكان تحقيق هذا إذا بحث عنه يرجع إلى أن هذا الوقوف في نفسه معصية وإن كان مقصد العاصي وراءه كما أن الخلوة بالأجنبية في نفسها معصية لأنها مظنة وقوع المعصية وتحصيل مظنة المعصية معصية ونعني بالمظنة ما يتعرض الإنسان به لوقوع المعصية غالبا بحيث لا يقدر على الانكفاف عنها فإذا هو على التحقيق حسبة على معصية راهنة لا على معصية منتظرة الركن الثاني للحسبة ما فيه الحسبة وهو كل منكر موجود في الحال ظاهر للمحتسب بغير تجسس معلوم كونه منكرا بغير اجتهاد فهذه أربعة شروط فلنبحث عنها الأول كونه منكرا ونعني به أن يكون محذور الوقوع في الشرع وعدلنا عن لفظ المعصية إلى هذا لأن المنكر أعم من المعصية إذ من رأى صبيا أو مجنونا يشرب الخمر فعليه أن يريق خمره ويمنعه وكذا إن رأى مجنونا يزني بمجنونة أو بهيمة فعليه أن يمنعه منه وليس ذلك لتفاحش صورة الفعل وظهوره بين الناس بل لو صادف هذا المنكر في خلوة لوجب المنع منه وهذا لا يسمى معصية في حق المجنون إذ معصية لا عاصي بها محال فلفظ المنكر أدل عليه وأعم من لفظ المعصية وقد أدرجنا في عموم هذا الصغيرة والكبيرة فلا تختص الحسبة بالكبائر بل كشف العورة في الحمام والخلوة بالأجنبية واتباع النظر للنسوة الأجنبيات كل ذلك من الصغائر ويجب النهي عنها وفي الفرق بين الصغيرة والكبيرة نظر سيأتي في كتاب التوبة الشرط الثاني أن يكون موجودا في الحال وهو احتراز أيضا عن الحسبة على من فرغ من شرب الخمر فإن ذلك ليس إلى الآحاد وقد انقرض المنكر واحتراز عما سيوجد في ثاني الحال كمن يعلم بقرينة حال أنه عازم على الشرب في ليلته فلا حسبة عليه إلا بالوعظ وإن أنكر عزمه عليه لم يجز وعظه أيضا فإن فيه إساءة ظن بالمسلم وربما صدق في قوله وربما لا يقدم على ما عزم عليه لعائق وليتنبه للدقيقة التي ذكرناها وهو أن الخلوة بالأجنبية معصية ناجزة وكذا الوقوف على باب حمام النساء وما يجري مجراه الشرط الثالث أن يكون المنكر ظاهرا للمحتسب بغير تجسس فكل من ستر معصية في داره وأغلق بابه لا يجوز أن يتجسس عليه وقد نهى الله تعالى عنه وقصة عمر وعبد الرحمن بن عوف فيه مشهورة وقد أوردناها في كتاب آداب الصحبة وكذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه تسلق دار رجل فرآه على حالة مكروهة فأنكر عليه فقال يا أمير المؤمنين إن كنت أنا قد عصيت الله من وجه واحد فأنت قد عصيته من ثلاثة أوجه فقال وما هي فقال قد قال تعالى ولا تجسسوا وقد تجسست وقال تعالى وأتوا البيوت من أبوابها وقد تسورت من السطح وقال لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها وما سلمت فتركه عمر وشرط عليه التوبة ولذلك شاور عمر الصحابة رضي الله عنهم وهو على المنبر وسألهم عن الإمام إذا شاهد بنفسه منكرا فهل له إقامة الحد فيه فأشار علي رضي الله عنه بأن ذلك منوط بعدلين فلا يكفي فيه واحد وقد أوردنا هذه الأخبار في بيان حق المسلم من كتاب آداب الصحبة فلا نعيدها فإن قلت فما حد الظهور والاستتار فاعلم أن من أغلق باب داره وتستر بحيطانه فلا يجوز الدخول عليه بغير إذنه لنعرف المعصية إلا أن يظهر في الدار ظهورا يعرفه من هو خارج الدار كأصوات المزامير والأوتار إذا ارتفعت بحيث جاوز ذلك حيطان الدار فمن سمع ذلك فله دخول الدار وكسر الملاهي وكذا إذا ارتفعت أصوات السكارى بالكلمات المألوفة بينهم بحيث يسمعها أهل الشوارع فهذا إظهار موجب للحسبة فإذن إنما يدرك مع تخلل الحيطان صوت أو رائحة فإذا فاحت روائح الخمر فإن احتمل أن يكون ذلك من الخمور المحترمة فلا يجوز قصدها بالإراقة وإن علم بقرينة الحال أنها فاحت لتعاطيهم الشرب فهذا محتمل والظاهر جواز الحسبة وقد تستر قارورة الخمر في الكم وتحت الذيل وكذلك الملاهي فإذا رؤي فاسق وتحت ذيله شيء لم يجز أن يكشف عنه ما لم يظهر بعلامة خاصة فإن فسقه لا يدل على أن الذي معه خمر إذ الفاسق محتاج أيضا إلى الخل وغيره فلا يجوز أن يستدل بإخفائه وأنه لو كان حلالا لما أخفاه لأن الأغراض في الإخفاء مما تكثر وإن كانت الرائحة فائحة فهذا محل النظر والظاهر أن له الاحتساب لأن هذه علامة تفيد الظن والظن كالعلم في أمثال هذه الأمور وكذلك العود ربما يعرف بشكله إذا كان الثوب السائر له رقيقا فدلالة الشكل كدلالة الرائحة والصوت وما ظهرت دلالته فهو غير مستور بل هو مكشوف وقد أمرنا بأن نستر ما ستر الله وننكر على من أبدى لنا صفحته والإبداء له درجات فتارة يبدو لنا بحاسة السمع وتارة بحاسة الشم وتارة بحاسة البصر وتارة بحاسة اللمس ولا يمكن أن يخصص ذلك بحاسة البصر بل المراد العلم وهذه الحواس أيضا تفيد العلم فإذن إنما يجوز أن يكسر ما تحت الثوب إذا علم أنه خمر وليس له أن يقول أرني لأعلم ما فيه هذا تجسس ومعنى التجسس طلب الأمارات المعرفة فالأمارة المعرفة إن حصلت وأورثت المعرفة جاز العمل بمقتضاها فأما طلب الأمارة المعرفة فلا رخصة فيه أصلا الشرط الرابع أن يكون كونه منكرا معلوما بغير اجتهاد فكل ما هو في محل الاجتهاد فلا حسبة فليس للحنفي أن ينكر على الشافعي أكله الضب والضبع ومتروك التسمية ولا للشافعي أن ينكر على الحنفي شربه النبيذ الذي ليس بمسكر وتناوله ميراث ذوي الأرحام وجلوسه في دار أخذها بشفعة الجوار إلى غير ذلك من مجاري الاجتهاد نعم لو رأى الشافعي شافعيا يشرب النبيذ وينكح بلا ولي ويطأ زوجته فهذا في محل النظر والأظهر أن له الحسبة والإنكار إذ لم يذهب أحد من المحصلين إلى أن المجتهد يجوز له أن يعمل بموجب اجتهاد غيره ولا أن الذي أدى اجتهاده في التقليد إلى شخص رآه أفضل العلماء أن له أن يأخذ بمذهب غيره فينتقد من المذاهب أطيبها عنده بل على كل مقلد اتباع مقلده في كل تفصيل فإذن مخالفته للمقلد متفق على كونه منكرا بين المحصلين وهو عاص بالمخالفة إلا أنه يلزم من هذا أمر أغمض منه وهو أنه يجوز للحنفي أن يعترض على الشافعي إذا نكح بغير ولي بأن يقول له الفعل في نفسه حق ولكن لا في حقك فأنت مبطل بالإقدام عليه مع اعتقادك أن الصواب مذهب الشافعي ومخالفة ما هو صواب عندك معصية في حقك وإن كانت صوابا عند الله وكذلك الشافعي يحتسب على الحنفي إذا شاركه في أكل الضب ومتروك التسمية وغيره ويقول له إما أن تعتقد أن الشافعي أولى بالاتباع ثم تقدم عليه أو لا تعتقد ذلك فلا تقدم عليه لأنه على خلاف معتقدك ثم ينجر هذا إلى أمر آخر من المحسوسات وهو أن يجامع الأصم مثلا امرأة على قصد لزنا وعلم المحتسب أن هذه امرأته زوجه أبوه إياها في صغره ولكنه ليس يدري وعجز عن تعريفه ذلك لصممه أو لكونه غير عارف بلغته فهو في الإقدام مع اعتقاده أنها أجنبية عاص ومعاقب عليه في الدار الآخرة فينبغي أن يمنعها عنه مع أنها زوجته وهو بعيد من حيث إنه حلال في علم الله قريب من حيث إنه حرام عليه بحكم غلطه وجهله ولا شك في أنه لو علق طلاق زوجته على صفة في قلب المحتسب مثلا من مشيئة أو غضب أو غيره وقد وجدت الصفة في قلبه وعجز عن تعريف الزوجين ذلك ولكن علم وقوع الطلاق في الباطن فإذا رآه يجامعها فعليه المنع أعني باللسان لأن ذلك زنا إلا أن الزاني غير عالم به والمحتسب عالم بأنها طلقت منه ثلاثا وكونهما غير عاصيين لجهلهما بوجود الصفة لا يخرج الفعل عن كونه منكرا ولا يتقاعد ذلك عن زنا المجنون وقد بينا أنه يمنع منه فإذا كان يمنع مما هو منكر عند الله وإن لم يكن منكرا عند الفاعل ولا هو عاص به لعذر الجهل فيلزم من عكس هذا أن يقال ما ليس بمنكر عند الله إنما هو منكر عند الفاعل لجهله لا يمنع منه وهذا هو الأظهر والعلم عند الله فتحصل من هذا أن الحنفي لا يعترض على الشافعي في النكاح بلا ولي وأن الشافعي يعترض على الشافعي فيه لكون المعترض عليه منكرا باتفاق المحتسب والمحتسب عليه وهذه مسائل فقهية دقيقة والاحتمالات فيها متعارضة وإنما أفتينا فيها بحسب ما ترجح عندنا في الحال ولسنا نقطع بخطأ ترجيح المخالف فيها إن رأى أنه لا يجري الاحتساب إلا في معلوم على القطع وقد ذهب إليه ذاهبون وقالوا لا حسبة إلا في مثل الخمر والخنزير وما يقطع بكونه حراما ولكن الأشبه عندنا أن الاجتهاد يؤثر في حق المجتهد إذ يبعد غاية البعد أن يجتهد في القبلة ويعترف بظهور القبلة عنده في جهة بالدلالات الظنية ثم يستدبرها ولا يمنع منه لأجل ظن غيره لأن الاستدبار هو الصواب ورأى من يرى أنه يجوز لكل مقلد أن يختار من المذاهب ما أراد غير معتد به ولعله لا يصح ذهاب ذاهب إليه أصلا فهذا مذهب لا يثبت وإن ثبت فلا يعتد به فإن قلت إذا كان لا يعترض على الحنفي في النكاح بلا ولي لأنه يرى أنه حق فينبغي أن لا يعترض على المعتزلي في قوله إن الله لا يرى وقوله وإن الخير من الله والشر ليس من الله وقوله كلام الله مخلوق ولا على الحشوى في قوله إن الله تعالى جسم وله صورة وإنه مستقر على العرش بل لا ينبغي أن يعترض على الفلسفي في قوله الأجساد لا تبعث وإنما تبعث النفوس لأن هؤلاء أيضا أدى اجتهادهم إلى ما قالوه وهم يظنون أن ذلك هو الحق فإن قلت بطلان مذهب هؤلاء ظاهر فبطلان مذهب من يخالف نص الحديث الصحيح أيضا ظاهر وكما ثبت بظواهر النصوص أن الله تعالى يرى والمعتزلي ينكرها بالتأويل فكذلك ثبت بظواهر النصوص مسائل خالف فيها الحنفي كمسألة النكاح بلا ولي ومسألة شفعة الجوار ونظائرهما فاعلم أن المسائل تنقسم إلى ما يتصور أن يقال فيه كل مجتهد مصيب وهي أحكام الأفعال في الحل والحرمة وذلك هو الذي لا يعترض على المجتهدين فيه إذ لم يعلم خطؤهم قطعا بل ظنا وإلى ما لا يتصور أن يكون المصيب فيه إلا واحد كمسألة الرؤية والقدر وقدم الكلام ونفي الصورة والجسمية والاستقرار عن الله تعالى فهذا مما يعلم خطأ المخطىء فيه قطعا ولا يبقى لخطئه الذي هو جهل محض وجه فإذن البدع كلها ينبغي أن تحسم أبوابها وتنكر على المبتدعين بدعهم وإن اعتقدوا أنها الحق كما يرد على اليهود والنصارى كفرهم وأن كانوا يعتقدون أن ذلك حق لأن خطأهم معلوم على القطع بخلاف الخطأ في مظان الاجتهاد فإن قلت فمهما اعترضت على القدري في قوله الشر ليس من الله اعترض عليك القدري أيضا في قولك الشر من الله وكذلك في قولك إن الله يرى وفي سائر المسائل إذ المبتدع محق عند نفسه والمحق مبتدع عند المبتدع وكل يدعي أنه محق وينكر كونه مبتدعا فكيف يتم الاحتساب فاعلم أنا لأجل هذا التعارض نقول ينظر إلى البلدة التي فيها أظهرت تلك البدعة فإن كانت البدعة غريبة والناس كلهم على السنة فلهم الحسبة عليه بغير إذن السلطان وإن انقسم أهل البلد إلى أهل البدعة وأهل السنة وكان في الاعتراض تحريك فتنة بالمقاتلة فليس للآحاد الحسبة في المذاهب إلا بنصب السلطان فإذا رأى السلطان الرأي الحق ونصره وأذن لواحد أن يزجر المبتدعة عن إظهار البدعة كان له ذلك وليس لغيره فإن ما يكون بإذن السلطان لا يتقابل وما يكون من جهة الآحاد فيتقابل الأمر فيه وعلى الجملة فالحسبة في البدعة أهم من الحسبة في كل المنكرات ولكن ينبغي أن يراعى فيها هذا التفصيل الذي ذكرناه كيلا يتقابل الأمر ولا ينجر إلى تحريك الفتنة بل لو أذن السلطان مطلقا في منع كل من يصرح بأن القرآن مخلوق أو أن الله لا يرى أو أنه مستقر على العرش مماس له أو غير ذلك من البدع لتسلط الآحاد على المنع منه ولم يتقابل الأمر فيه وإنما يتقابل عند عدم إذن السلطان فقط الركن الثالث المحتسب عليه وشرطه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرا وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنسانا ولا يشترط كونه مكلفا إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه واحتسب عليه وإن كان قبل البلوغ ولا يشترط كونه مميزا إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة أو يأتي بهيمة منعه منه نعم من الأفعال ما لا يكون منكرا في حق المجنون كترك الصلاة والصوم وغيره ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل فإن ذلك أيضا مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه لا ما بها يتهيأ للتفاصيل فإن قلت فاكتف بكونه حيوانا ولا تشترط كونه إنسانا فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعا لإنسان لكنا تمنعها منه كما نمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها إذ الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله وكذا منع الصبي عن شرب الخمر والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين أحدهما حق الله تعالى فإن فعله معصية والثاني حق المتلف عليه فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى فلو قطع طرف غيره بإذنه فقد وجدت المعصية وسقط حق المجني عليه بإذنه فتثبت الحسبة والمنع بإحدى العلتين والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين ولكن فيه دقيقة وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة بل حفظ مال المسلم إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا حفظا للمال بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة لحفظ القارورة لا لمنع الجرة من السقوط فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشرب الخمر وكذا الصبي لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر وتنزيها له من حيث إنه إنسان محترم فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر إذ قد يتردد في معنهما من لبس الحرير وغير ذلك وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث فإن قلت فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها وكل من رأى مالا لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه فإن قلتم إن ذلك واجب فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخرا لغيره طول عمره وإن قلتم لا يجب فلم يجبالاحتساب على من يغصب مال غيره وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير فنقول هذا بحث دقيق غامض والقول الوجيز فيه أن نقول مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه أو خسران في ماله أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة وهذا أقل درجاتها وهو أولى بالإيجاب من رد السلام فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الحق إليه وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة وذلك لا رخصة فيه ولا يمكن أن يراعى فيه الأقل والأكثر حتى يقال إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلا وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا سبيل للمصير إلا ذلك فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية كالغصب أو قتل عبد مملوك للغير فهذا يجب المنع منه وإن كان فيه تعب ما لأن المقصود حق الشرع والغرض دفع المعصية وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر بل التفصيل فيه كما ذكرناه من درجات المحذورات التي يخافها المحتسب وقد اختلف الفقهاء في مسئلتين تقربان من غرضنا إحداهما أن الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع بل يلتقطها من يعرفها أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله وكلهم أمناء فلا يلزمه الالتقاط وإن كانت في مضيعة نظر فإن كان عليه تعب في حفظها كما لو كانت بهيمة وتحتاج إلى علف واصطبل فلا يلزمه ذلك لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك وحقه بسبب كونه إنسانا محترما والملتقط أيضا إنسان وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره كما لا يتعب غيره لأجله فإن كانت ذهبا أو ثوبا أو شيئا لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب  التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين فقائل يقول التعريف والقيام بشرطه فيه تعب فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقا للثواب وقائل يقول إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين فينزل هذا منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعبا في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة وإن كان في الطرف الآخر من البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله ووسط يتجاذبه الطرفان ويكون أبدا في محل الشبهة والنظر وهي من الشبهات المزمنة التي ليس في مقدور البشر إزالتها إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل الركن الرابع نفس الاحتساب وله درجات وآداب أما الدرجات فأولها التعرف ثم التعريف ثم النهي ثم الوعظ والنصح ثم السب والتعنيف ثم التغيير باليد ثم التهديد بالضرب ثم إيقاع الضرب وتحقيقه ثم شهر السلاح ثم الاستظهار فيه بالأعوان وجمع الجنود أما الدرجة الأولى وهي التعرف ونعني طلب المعرفة بجريان المنكر وذلك منهي عنه وهو التجسس الذي ذكرناه فلا ينبغي أن يسترق السمع على دار غيره ليسمع صوت الأوتار ولا أن يستنشق ليدرك رائحة الخمر ولا أن يمس ما في ثوبه ليعرف شكل المزمار ولا أن يستخبر من جيرانه ليخبروه بما يجري في داره نعم لو أخبره عدلان ابتداء من غير استخبار بأن فلانا يشرب الخمر في داره أو بأن في داره خمرا أعده للشرب فله إذ ذاك أن يدخل داره ولا يلزم الاستئذان ويكون تخطى ملكه بالدخول للتوصل إلى دفع المنكر ككسر رأسه بالضرب للمنع مهما احتاج إليه وإن أخبره عدلان أو عدل واحد وبالجملة كل من تقبل روايته لا شهادته ففي جواز الهجوم على داره بقولهم فيه نظر واحتمال والأولى أن يمتنع لأن له حقا في أن لا يتخطى داره بغير إذنه ولا يسقط حق المسلم عما ثبت عليه حقه إلا بشاهدين فهذا أولى ما يجعل مردا فيه وقد قيل أنه كان نقش خاتم لقمان الستر لما عاينت أحسن من إذاعة ما ظننت الدرجة الثانية التعريف فإن المنكر قد يقدم عليه المقدم بجهله وإذا عرف أنه منكر تركه كالسوادي يصلي ولا يحسن الركوع والسجود فيعلم أن ذلك لجهله بأن هذه ليست بصلاة ولو رضى بأن لا يكون مصليا لترك أصل الصلاة فيجب تعريفه باللطف من غير عنف وذلك لأن ضمن التعريف نسبة إلى الجهل والحمق والتجهيل إيذاء وقلما يرضى الإنسان بأن ينسب إلى الجهل بالأمور لا سيما بالشرع ولذلك ترى الذي يغلب عليه الغضب كيف يغضب إذا نبه على الخطأ والجهل وكيف يجتهد في مجاحدة الحق بعد معرفته خيفة من أن تنكشف عورة جهله والطباع أحرص على ستر عورة الجهل منها على ستر العورة الحقيقية لأن الجهل قبح في صورة النفس وسواد في وجهه وصاحبه ملوم عليه وقبح السوأتين يرجع إلى صورة البدن والنفس أشرف من البدن وقبحها أشد من قبح البدن ثم هو غير ملوم عليه لأنه خلقة لم يدخل تحت اختياره حصوله ولا في اختياره إزالته وتحسينه والجهل قبح يمكن إزالته وتبديله بحسن العلم فلذلك يعظم تألم الإنسان بظهور جهله ويعظم ابتهاجه في نفسه بعلمه ثم لذته عند ظهور جمال علمه لغيره وإذا كان التعريف كشفا للعورة مؤذيا للقلب فلا بد وأن يعالج دفع أذاه بلطف الرفق فنقول له إن الإنسان لا يولد عالما ولقد كنا أيضا جاهلين بأمور الصلاة فعلمنا العلماء ولعل قريتك خالية عن أهل العلم أو عالمها مقصر في شرح الصلاة وإيضاحها إنما شرط الصلاة الطمأنينة في الركوع والسجود وهكذا يتلطف به ليحصل التعريف من غير إيذاء فإن إيذاء المسلم حرام محذور كما أن تقريره على المنكر محذور وليس من العقلاء من يغسل الدم بالدم أو بالبول ومن اجتنب محذور السكوت على المنكر واستبدل عنه محذور الإيذاء للمسلم مع الإستغناء عنه فقد غسل الدم بالبول على بالتحقيق وأما إذا وقفت على خطأ في غير أمر الدين فلا ينبغي أن ترده عليه فإنه يستفيد منك علما ويصير لك عدوا إلا إذا علمت أنه يغتنم العلم وذلك عزيز جدا الدرجة الثالثة النهي بالوعظ والنصح والتخويف بالله تعالى وذلك فيمن يقدم على الأمر وهو عالم بكونه منكرا أو فيمن أصر عليه بعد أن عرف كونه منكرا كالذي يواظب على الشرب أو على الظلم أو على اغتياب المسلمين أو ما يجري مجراه فينبغي أن يوعظ ويخوف بالله تعالى وتورد عليه الأخبار الواردة بالوعيد في ذلك وتحكى له سيرة السلف وعبادة المتقين وكل ذلك بشفقة ولطف من غير عنف وغضب بل ينظر إليه نظر المترحم عليه ويرى إقدامه على المعصية مصيبة على نفسه إذ المسلمون كنفس واحدة وههنا آفة عظيمة ينبغي أن يتوقاها فإنها مهلكة وهي أن العالم يرى عند التعريف عز نفسه بالعلم وذل غيره بالجهل فربما يقصد بالتعريف الإدلال وإظهار التمييز بشرف العلم وإذلال صاحبه بالنسبة إلى خسة الجهل فإن كان الباعث هذا فهذا المنكر أقبح في نفسه من المنكر الذي يعترض عليه ومثال هذا المحتسب مثال من يخلص غيره من النار بإحراق نفسه وهو غاية في الجهل وهذه مذلة عظيمة وغائلة هائلة وغرور للشيطان يتدلى بحبله كل إنسان إلا من عرفه الله عيوب نفسه وفتح بصيرته بنور هدايته فإن في الاحتكام على الغير لذة للنفس عظيمة من وجهين أحدهما من جهة العلم والآخر من جهة دالة الاحتكام والسلطنة وذلك يرجع إلى الرياء وطلب الجاه وهو الشهوة الخفية الداعية إلى الشرك الخفي وله محك ومعيار ينبغي أن يمتحن المحتسب به نفسه وهو أن يكون امتناع ذلك الإنسان عن المنكر بنفسه أو باحتساب غيره أحب إليه من امتناعه باحتسابه فإن كانت الحسبة شاقة عليه ثقيلة على نفسه وهو يود أن يكفي بغيره فليحتسب فإن باعثه هو الدين وإن كان اتعاظ ذلك العاصي بوعظه وانزجاره بزجره أحب إليه من اتعاظه بوعظ غيره فما هو إلا متبع هوى نفسه ومتوسل إلى إظهار جاه نفسه بواسطة حسبته فليتق الله تعالى فيه وليحتسب أولا على نفسه وعند هذا يقال له ما قيل لعيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس وإلا فاستحي مني وقيل لداود الطائي رحمه الله أرأيت رجلا دخل على هؤلاء الأمراء فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر فقال أخاف عليه السوط قال إنه يقوى عليه قال أخاف عليه السيف قال إنه يقوى عليه قال أخاف عليه الداء الدفين وهو العجب الدرجة الرابعة السب والتعنيف بالقول الغليظ الخشن وذلك يعدل إليه عند العجز عن المنع باللطف وظهور مبادىء الإصرار والاستهزاء بالوعظ والنصح وذلك مثل قول إبراهيم عليه السلام أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون ولسنا نعني بالسب والفحش بما فيه نسبة إلى الزنا ومقدماته ولا الكذب بل أن يخاطبه بما فيه مما لا يعد من جملة الفحش كقوله يا فاسق يا أحمق يا جاهل ألا تخاف الله وكقوله يا سوادي يا غبي وما يجري هذا المجرى فإن كل فاسق فهو أحمق وجاهل ولولا حمقه لما عصى الله تعالى بل كل من ليس بكيس فهو أحمق والكيس من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكياسة حيث قال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله حديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن وابن ماجه من حديث شداد بن أوس ولهذه الرتبة أدبان أحدهما أن لا يقدم عليها إلا عند الضرورة والعجز عن اللطف والثاني أن لا ينطق إلا بالصدق ولا يسترسل فيه فيطلق لسانه الطويل بما لا يحتاج إليه بل يقتصر على قدر الحاجة فإن علم أن خطابه بهذه الكلمات الزاجرة ليست تزجره فلا ينبغي أن يطلقه بل يقتصر على إظهار الغضب والاستحقار له والازدراء بمحله لأجل معصيته وإن علم أنه لو تكلم ضرب ولو اكفهر وأظهر الكراهة بوجهه لم يضرب لزمه ولم يكفه الإنكار بالقلب بل يلزمه أن يقطب وجهه ويظهر الإنكار له الدرجة الخامسة التغيير باليد وذلك ككسر الملاهي وإراقة الخمر وخلع الحرير من رأسه وعن بدنه ومنعه من الجلوس عليه ودفعه عن الجلوس على مال الغير وإخراجه من الدار المغصوبة بالجر برجله وإخراجه من المسجد إذا كان جالسا وهو جنب وما يجري مجراه ويتصور ذلك في بعض المعاصي دون بعض فأما معاصي اللسان والقلب فلا يقدر على مباشرة تغييرها وكذلك كل معصية تقتصر على نفس العاصي وجوارحه الباطنة وفي هذه الدرجة أدبان أحدهما أن لا يباشر بيده التغيير ما لم يعجز عن تكليف المحتسب عليه ذلك فإذا أمكنه أن يكلفه المشي في الخروج عن الأرض المغصوبة والمسجدفلا ينبغي أن يدفعه أو يجره وإذا قدر على أن يكلفه إراقة الخمر وكسر الملاهي وحل دروز ثوب الحرير فلا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه فإن في الوقوف على حد الكسر نوع عسر فإذا لم يتعاط بنفسه ذلك كفى الاجتهاد فيه وتولاه من لا حجر عليه في فعله الثاني أن يقتصر في طريق التغيير على القدر المحتاج إليه وهو أن لا يأخذ بلحيته في الإخراج ولا برجله إذا قدر على جره بيده فإن زيادة الأذى فيه مستغنى عنه وأن لا يمزق ثوب الحرير بل يحل دروزه فقط ولا يحرق الملاهي والصليب الذي أظهره النصارى بل يبطل صلاحيتها للفساد بالكسر وحد الكسر أن يصير إلى حالة تحتاج في استئناف إصلاحه إلى تعب يساوي تعب الاستئناف من الخشب ابتداء وفي إراقة الخمور يتوقى كسر الأواني إن وجد إليه سبيلا فإن لم يقدر عليها إلا بأن يرمى ظروفها بحجر فله ذلك وسقطت قيمة الظرف وتقومه بسبب الخمر إذ صار حائلا بينه وبين الوصول إلى إراقة الخمر ولو ستر الخمر ببدنه لكنا نقصد بدنه بالجرح والضرب لنتوصل إلى إراقة الخمر فإذن لا تزيد حرمة ملكه في الظروف على حرمة نفسه ولو كان الخمر في قوارير ضيقة الرءوس ولو اشتغل بإراقتها طال الزمان وأدركه الفساق ومنعوه فله كسرها فهذا عذر وإن كان لا يحذر ظفر الفساق به ومنعهم ولكن كان يضيع في زمانه وتتعطل عليه أشغاله فله أن يكسرها فليس عليه أن يضيع منفعة بدنه وغرضه من أشغاله لأجل ظرف الخمر وحيث كانت الإراقة متيسرة بلا كسر فكسره لزمه الضمان فإن قلت فهلا جاز الكسر لأجل الزجر وهلا جاز الجر بالرجل في الإخراج عن الأرض المغصوبة ليكون ذلك أبلغ في الزجر فاعلم أن الزجر إنما يكون عن المستقبل والعقوبة تكون على الماضي والدفع على الحاضر الراهن وليس إلى آحاد الرعية إلا الدفع وهو إعدام المنكر فما زاد على قدر الإعدام فهو إما عقوبة على جريمة سابقة أو زجر عن لاحق وذلك إلى الولاة لا إلى الرعية نعم الوالي له أن يفعل ذلك إذا رأى المصلحة فيه وأقول له أن يأمر بكسر الظروف التي فيها الخمور زجرا وقد فعل ذلك في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم تأكيدا للزجر حديث تكسير الظروف التي فيها الخمور في زمنه صلى الله عليه وسلم أخرجه الترمذي من حديث أبي طلحة أنه قال يا نبي الله إني اشتريت خمرا لأيتام في حجري قال أهرق الخمر واكسر الدنان وفيه ليث بن أبي سليم والأصح رواية السدي عن يحيى بن عباد عن أنس أن أبا طلحة كان عندي قاله الترمذي ولم يثبت نسخه ولكن كانت الحاجة إلى الزجر والفطام شديدة فإذا رأى الوالي باجتهاده مثل الحاجة جاز له مثل ذلك وإذا كان هذا منوطا بنوع اجتهاد دقيق لم يكن ذلك لآحاد الرعية فإن قلت فليجز للسلطان زجر الناس عن المعاصي بإتلاف أموالهم وتخريب دورهم التي فيها يشربون ويعصون وإحراق أموالهم التي بها يتوصلون إلى المعاصي فاعلم أن ذلك لو ورد الشرع به لم يكن خارجا عن سنن المصالح ولكنا لا نبتدع المصالح بل نتبع فيها وكسر ظروف الخمر قد ثبت عند شدة الحاجة وتركه بعد ذلك لعدم شدة الحاجة لا يكون نسخا بل الحكم يزول بزوال العلة ويعود بعودها وإنما جوزنا ذلك للإمام بحكم الاتباع ومنعنا آحاد الرعية منه لخفاء وجه الاجتهاد فيه بل نقول لو أريقت الخمور أولا فلا يجوز كسر الأواني بعدها وإنما جاز كسرها تبعا للخمر فإذا خلت عنها فهو إتلاف مال إلا أن تكون ضاربة بالخمر لا تصلح إلا لها فكان الفعل المنقول عن العصر الأول كان مقرونا بمعنيين أحدهما شدة الحاجة إلى الزجر والآخر تبعية الظروف للخمر التي هي مشغولة بها وهما معنيان مؤثران لا سبيل إلى حذفهما ومعنى ثالث وهو صدوره عن رأي صاحب الأمر لعلمه بشدة الحاجة إلى الزجر وهو أيضا مؤثر فلا سبيل إلى إلغائه فهذه تصرفات دقيقة فقهية يحتاج المحتسب لا محالة إلى معرفتها الدرجة السادسة التهديد والتخويف كقوله دع عنك هذا أو لأكسرن رأسك أو لأضربن رقبتك أو لآمرن بك وما أشبهه وهذا ينبغي أن يقدم على تحقيق الضرب إذا أمكن تقديمه والأدب في هذه الرتبة أن لا يهدده بوعيد لا يجوز له تحقيقه كقوله لأنهبن دارك أو لأضربن ولدك أو لأسبين زوجتك وما يجري مجراه بل ذلك إن قاله عن عزم فهو حرام وإن قاله من غير عزم فهو كذب نعم إذا تعرض لوعيده بالضرب والاستخفاف فله العزم عليه إلى حد معلوم يقتضيه الحال وله أن يزيد في الوعيد على ما هو في عزمه الباطن إذا علم أن ذلك يقمعه ويردعه وليس ذلك من الكذب المحذور بل المبالغة في مثل ذلك معتادة وهو معنى مبالغة الرجل في إصلاحه بين شخصين وتأليفه بين الضرتين وذلك مما قد رخص فيه للحاجة وهذا في معناه فإن القصد به إصلاح ذلك الشخص وإلى هذا المعنى أشار بعض الناس أنه لا يقبح من الله أن يتوعد بما لا يفعل لأن الخلف في الوعيد كرم وإنما يقبح أن يعد بما لا يفعل وهذا غير مرضي عندنا فإن الكلام القديم لا يتطرق إليه الخلف وعدا كان أو وعيدا وإنما يتصور هذا في حق العباد وهو كذلك إذ الخلف في الوعيد ليس بحرام الدرجة السابعة مباشرة الضرب باليد والرجل وغير ذلك مما ليس فيه شهر سلاح وذلك جائز للآحاد بشرط الضرورة والاقتصار على قدر الحاجة في الدفع فإذا اندفع المنكر فينبغي أن يكف والقاضي قد يرهق من ثبت عليه الحق إلى الأداء بالحبس فإن أصر المحبوس وعلم القاضي قدرته على أداء الحق وكونه معاندا فله أن يلزمه الأداء بالضرب على التدريج كما يحتاج إليه وكذلك المحتسب يراعي التدريج فإن احتاج إلى شهر سلاح وكان يقدر على دفع المنكر بشهر السلاح وبالجرح فله أن يتعاطى ذلك ما لم تثر فتنة كما لو قبض فاسق مثلا على امرأة أو كان يضرب بمزمار معه وبينه وبين المحتسب نهر حائل أو جدار مانع فيأخذ قوسه ويقول له خل عنها أو لأرمينك إن لم تخل عنها فله أن يرمي وينبغي أن لا يقصد المقتل بل الساق والفخذ وما أشبهه ويراعي فيه التدريج وكذلك يسل سيفه ويقول اترك هذا المنكر أو لأضربنك فكل ذلك دفع للمنكر ودفعه واجب بكل ممكن ولا فرق في ذلك بين ما يتعلق بخاص حق الله وما يتعلق بالآدميين وقالت المعتزلة ما لا يتعلق بالآدميين فلا حسبة فيه إلا بالكلام أو بالضرب ولكن للإمام لا للآحاد الدرجة الثامنة أن لا يقدر عليه بنفسه ويحتاج فيه إلى أعوان يشهرون السلاح وربما يستمد الفاسق أيضا بأعوانه ويؤدي ذلك إلى أن يتقابل الصفان ويتقاتلا فهذا قد ظهر الاختلاف في احتياجه إلى إذن الإمام فقال قائلون لا يستقل آحاد الرعية بذلك لأنه يؤدي إلى تحريك الفتن وهيجان الفساد وخراب البلاد وقال آخرون لا يحتاج إلى الإذن وهو الأقيس لأنه إذا جاز للآحاد الأمر بالمعروف وأوائل درجاته تجر إلى ثوان والثواني إلى ثوالث وقد ينتهي لا محالة إلى التضارب والتضارب يدعو إلى التعاون فلا ينبغي أن يبالي بلوازم الأمر بالمعروف ومنتهاه تجنيد الجنود في رضا الله ودفع معاصيه ونحن نجوز للآحاد من الغزاة أن يجتمعوا ويقاتلوا من أرادوا من فرق الكفار قمعا لأهل الكفر فكذلك قمع أهل الفساد جائز لأن الكافر لا بأس بقتله والمسلم إن قتل فهو شهيد فكذلك الفاسق المناضل عن فسقه لا بأس بقتله والمحتسب المحق إن قتل مظلوما فهو شهيد وعلى الجملة فانتهاء الأمر إلى هذا من النوادر في الحسبة فلا يغير به قانون القياس بل يقال كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وبسلاحه وبنفسه وبأعوانه فالمسألة إذن محتملة كما ذكرناه فهذه درجات الحسبة فلنذكر آدابها والله الموفق باب آداب المحتسب قد ذكرنا تفاصيل الآداب في آحاد الدرجات ونذكر الآن جملها ومصادرها فنقول جميع آداب المحتسب مصدرها ثلاث صفات في المحتسب العلم والورع وحسن الخلق أما العلم فليعلم مواقع الحسبة وحدودها ومجاريها وموانعها ليقتصر على حد الشرع فيه والورع ليردعه عن مخالفة معلومة فما كل من علم عمل بعلمه بل ربما يعلم أنه مسرف في الحسبة وزائد على الحد المأذون فيه شرعا ولكن يحمله عليه غرض من الأغراض وليكن كلامه ووعظه مقبولا فإن الفاسق يهزأ به إذا احتسب ويورث ذلك جراءة عليه وأما حسن الخلق فليتمكن به من اللطف والرفق وهو أصل الباب وأسبابه والعلم والورع لا يكفيان فيه فإن الغضب إذا هاج لم يكف مجرد العلم والورع في قمعه ما لم يكن في الطبع قبوله بحسن الخلق وعلى التحقيق فلا يتم الورع إلا مع حسن الخلق والقدرة على ضبط الشهوة والغضب وبه يصبر المحتسب على ما أصابه في دين الله وإلا فإذا أصيب عرضه أو ماله أو نفسه بشتم أو ضرب نسي الحسبة وغفل عن دين الله واشتغل بنفسه بل ربما يقدم عليه ابتداء لطلب الجاه والاسم فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القربات وبها تندفع المنكرات وإن فقدت لم يندفع المنكر بل ربما كانت الحسبة أيضا منكرة لمجاوزة حد الشرع فيها ودل على هذه الآداب قوله صلى الله عليه وسلم لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه حليم فيما يأمر به حليم فيما ينهى عنه فقيه فيما يأمر به فقيه فيما ينهى عنه حديث لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا رفيق فيما يأمر به رفيق فيما ينهى عنه الحديث لم أجده هكذا وللبيهقي في الشعب من رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده من أمر بمعروف فليكن أمره بمعروف وهذا يدل على أنه لا يشترط أن يكون فقيها مطلقا بل فيما يأمر به وينهى عنه وكذا الحلم قال الحسن البصري رحمه الله تعالى إذا كنت ممن يأمر بالمعروف فكن من آخذ الناس به وإلا هلكت وقد قيل لا تلم المرء على فعله وأنت منسوب إلى مثله من ذم شيئا وأتى مثله فإنما يزرى على عقله ولسنا نعني بهذا أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعا بالفسق ولكن يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس فقد روي عن أنس رضي الله عنه قال قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله فقال صلى الله عليه وسلم بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله حديث أنس قلنا يا رسول الله لا نأمر بالمعروف حتى نعمل به كله ولا ننهى عن المنكر حتى نجتنبه كله فقال صلى الله عليه وسلم بل مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به كله وانهوا عن المنكر وإن لم تجتنبوه كله أخرجه الطبراني في المعجم الصغير والأوسط وفيه عبد القدوس بن حبيب أجمعوا على تركه وأوصى بعض السلف بنيه فقال إن إراد أحدكم أن يأمر بالمعروف فليوطن نفسه على الصبر وليثق بالثواب من الله فمن وثق بالثواب من الله لم يجد مس الأذى فإذن من آداب الحسبة توطين النفس على الصبر ولذلك قرن الله تعالى الصبر بالأمر بالمعروف فقال حاكيا عن لقمان يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك ومن الآداب تقليل العلائق حتى لا يكثر خوفه وقطع الطمع عن الخلائق حتى تزول عنه المداهنة فقد روى عن بعض المشايخ أنه كان له سنور وكان يأخذ من قصاب في جواره كل يوم شيئا من الغدد لسنوره فرأى على القصاب منكرا فدخل الدار أولا وأخرج السنور ثم جاء واحتسب على القصاب فقال له القصاب لا أعطينك بعد هذا شيئا لسنورك فقال ما احتسبت عليك إلا بعد إخراج السنور وقطع الطمع منك وهو كما قال فمن لم يقطع الطمع من الخلق لم يقدر على الحسبة ومن طمع في أن تكون قلوب الناس عليه طيبة وألسنتهم بالثناء عليه مطلقة لم تتيسر له الحسبة قال كعب الأحبار لأبي مسلم الخولاني كيف منزلتك بين قومك قال حسنة قال إن التوراة تقول إن الرجل إذا أمر بالمعروف ونهى عن المنكر ساءت منزلته عند قومه فقال أبو مسلم صدقت التوراة وكذب أبو مسلم ويدل على وجوب الرفق ما استدل به المأمون إذا وعظه واعظ وعنف له في القول فقاليا رجل ارفق فقد بعث الله من هو خير منك إلى من هو شر مني وأمره بالرفق فقال تعالى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر او يخشى فليكن اقتداء المحتسب في الرفق بالأنبياء صلوات الله عليهم فقد روى أبو أمامة أن غلاما شابا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا نبي الله تأذن لي في الزنا فصاح الناس به فقال النبي صلى الله عليه وسلم قربوه ادن فدنا حتى جلس بين يديه فقال النبي صلى الله عليه وسلم أتحبه لأمك فقال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم أتحبه لابنتك قال لا جعلني الله فداك قال كذلك الناس لا يحبونه لبناتهم أتحبه لأختك حديث أبي أمامة أن شابا قال يا رسول الله ائذن لي في الزنا فصاح الناس به الحديث رواه أحمد بإسناد جيد رجاله رجال الصحيح وزاد ابن عوف حتى ذكر العمة والخالة وهو يقول في كل واحد لا جعلني الله فداك وهو صلى الله عليه وسلم يقول كذلك الناس لا يحبونه وقالا جميعا في حديثهما أعني ابن عوف والراوي الآخر فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على صدره وقال اللهم طهر قلبه واغفر ذنبه وحصن فرجه فلم يكن شيء أبغض إليه منه يعني من الزنا وقيل للفضيل بن عياض رحمه الله إن سفيان بن عيينة قبل جوائز السلطان فقال الفضيل ما أخذ منهم إلا دون حقه ثم خلا به وعذله ووبخه فقال سفيان يا أبا علي إن لم نكن من الصالحين فإنا لنحب الصالحين وقال حماد بن سلمة إن صلة بن أشيم مر عليه رجل قد أسبل إزاره فهم أصحابه أن يأخذوه بشدة فقال دعوني أنا أكفيكم فقال يا ابن أخي إن لي إليك حاجة قال وما حاجتك يا عم قال أحب أن ترفع من إزارك فقال نعم وكرامة فرفع إزاره فقال لأصحابه لو أخذتموه بشدة لقال لا ولا كرامة وشتمكم وقال محمد بن زكريا الغلابي شهدت عبد الله بن محمد بن عائشة ليلة وقد خرج من المسجد بعد المغرب يريد منزله وإذا في طريقه غلام من قريش سكران وقد قبض على امرأة فجذبها فاستغاثت فاجتمع الناس عليه يضربونه فنظر إليه ابن عائشة فعرفه فقال للناس تنحوا عن ابن أخي ثم قال إلي يا ابن أخي فاستحى الغلام فجاء إليه فضمه إلى نفسه ثم قال له امض معي فمضى معه حتى صار إلى منزله فأدخله الدار وقال لبعض غلمانه بيته عندك فإذا أفاق من سكره فأعلمه بما كان منه ولا تدعه ينصرف حتى تأتيني به فلما أفاق ذكر له ما جرى فاستحيا منه وبكى وهم بالانصراف فقال الغلام قد أمر أن تأتيه فأدخله عليه فقال له أما استحييت لنفسك أما استحييت لشرفك أما ترى من ولدك فاتق الله وانزع عما أنت فيه فبكى الغلام منكسا رأسه ثم رفع رأسه وقال عاهدت الله تعالى عهدا يسألني عنه يوم القيامة أني لا أعود لشرب النبيذ ولا لشيء مما كنت فيه وأنا تائب فقال ادن مني فقبل رأسه وقال أحسنت يا بني فكان الغلام بعد ذلك يلزمه ويكتب عنه الحديث وكان ذلك ببركة رفقه ثم قال إن الناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويكون معروفهم منكرا فعليكم بالرفق في جميع أموركم تنالون به ما تطلبون وعن الفتح بن شخرف قال تعلق رجل بامرأة وتعرض لها وبيده سكين لا يدنو منه أحد إلا عقره وكان الرجل شديد البدن فبينا الناس كذلك والمرأة تصيح في يده إذ مر بشر بن الحارث فدنا منه وحك كتفه بكتف الرجل فوقع الرجل على الأرض ومشى بشر فدنوا من الرجل وهو يترشح عرقا كثيرا ومضت المرأة لحالها فسألوه ما حالك فقال ما أدري ولكن حاكني شيخ وقال لي إن الله عز وجل ناظر إليك وإلى ما تعمل فضعفت لقوله قدماي وهبته هيبة شديدة ولا أدري من ذلك الرجل فقالوا له هو بشر بن الحارث فقال واسوأتاه كيف ينظر إلى بعد اليوم وحم الرجل من يومه ومات يوم السابع فكذا كانت عادة أهل الدين في الحسبة وقد نقلنا فيها آثارا وأخبارا في باب البغض في الله والحب في الله من كتاب آداب الصحبة فلا نطول بالإعادة فهذا تمام النظر في درجات الحسبة وآدابها والله الموفق بكرمه والحمد لله على جميع نعمه الباب الثالث في المنكرات المألوفة في العادات فنشير إلى جمل منها ليستدل بها على أمثالها إذ لا مطمع في حصرها واستقصائها فمن ذلك منكرات المساجد اعلم أن المنكرات تنقسم إلى مكروهة وإلى محظورة فإذا قلنا هذا منكر مكروه فاعلم أن المنع منه مستحب والسكوت عليه مكروه وليس بحرام إلا إذا لم يعلم الفاعل أنه مكروه فيجب ذكره له لأن الكراهة حكم في الشرع يجب تبليغه إلى من لا يعرفه وإذا قلنا منكر محظور أو قلنا منكر مطلقا فنزيد به المحظور ويكون السكوت عليه مع القدرة محظورا فما يشاهد كثيرا في المساجد إساءة الصلاة بترك الطمأنينة في الركوع والسجود وهو منكر مبطل للصلاة بنص الحديث فيجب النهي عنه إلا عند الحنفي الذي يعتقد أن ذلك لا يمنع صحة الصلاة إذ لا ينفع النهي معه ومن رأى مسيئا في صلاته فسكت عليه فهو شريكه هكذا ورد به الأثر وفي الخبر ما يدل عليه إذ ورد في الغيبة أن المستمع شريك القائل حديث المغتاب والمستمع شريكان في الإثم تقدم في الصوم وكذلك كل ما يقدح في صحة الصلاة من نجاسة على ثوبه لا يراها أو انحراف عن القبلة بسبب ظلام أو عمى فكل ذلك تجب الحسبة فيه ومنها قراءة القرآن باللحن يجب النهي عنه ويجب تلقين الصحيح فإن كان المعتكف في المسجد يضيع أكثر أوقاته في أمثال ذلك ويشتغل به عن التطوع والذكر فليشتغل به فإن هذا أفضل له من ذكره وتطوعه لأن هذا فرض وهي قربة تتعدى فائدتها فهي أوشك من نافلة تقتصر عليه فائدتها وإن كان ذلك يمنعه عن الوراقة مثلا أو عن الكسب الذي هو طعمته فإن كان معه مقدار كفايته لزمه الاشتغال بذلك ولم يجز له ترك الحسبة لطلب زيادة الدنيا وإن احتاج إلى الكسب لقوت يومه فهو عذر له فيسقط الوجوب عنه لعجزه والذي يكثر اللحن في القرآن إن كان قادرا على التعلم فليمتنع من القراءة قبل التعلم فإنه عاص به وإن كان لا يطاوعه اللسان فإن كان أكثر ما يقرؤه لحنا فليتركه وليجتهد في تعلم الفاتحة وتصحيحها وإن كان الأكثر صحيحا وليس يقدر على التسوية فلا بأس له أن يقرأ ولكن ينبغي أن يخفض به الصوت حتى لا يسمع غيره ولمنعه سرا منه أيضا وجه ولكن إذا كان ذلك منتهى قدرته وكان له أنس بالقراءة وحرص عليها فلست أرى به باسا والله أعلم ومنها تراسل المؤذنين في الأذان وتطويلهم بمد كلماته وانحرافهم عن صوب القبلة بجميع الصدر في الحيعلتين أو انفراد كل واحد منهم بأذان ولكن من غير توقف إلى انقطاع أذان الآخر بحيث يضطرب على الحاضرين جواب الأذان لتداخل الأصوات فكل ذلك منكرات مكروهة يجب تعريفها فإن صدرت عن معرفة فيستحب المنع منها والحسبة فيها وكذلك إذا كان للمسجد مؤذن واحد وهو يؤذن قبل الصبح فينبغي أن يمنع من الأذان بعد الصبح فذلك مشوش للصوم والصلاة على الناس إلا إذا عرف أنه يؤذن قبل الصبح حتى لا يعول على أذانه في صلاة وترك سحور أو كان معه مؤذن آخر معروف الصوت يؤذن مع الصبح ومن المكروهات أيضا تكثير الأذان مرة بعد أخرى بعد طلوع الفجر في مسجد واحد في أوقات متعاقبة متقاربة إما من واحد أو جماعة فإنه لا فائدة فيه إذا لم يبق في المسجد نائم ولم يكن الصوت مما يخرج عن المسجد حتى ينبه غيره فكل ذلك من المكروهات المخالفة لسنة الصحابة والسلف ومنها أن يكون الخطيب لابسا لثوب أسود يغلب عليه الإبريسم أو ممسكا لسيف مذهب فهو فاسق والإنكار عليه واجب وأما مجرد السواد فليس بمكروه ولكنه ليس بمحبوب إذ أحب الثياب إلى الله تعالى البيض ومن قال أنه مكروه وبدعة أراد به أنه لم يكن معهودا في العصر الأول ولكن إذا لم يرد فيه نهي فلا ينبغي أن يسمى بدعة ومكروها ولكنه ترك للأحب ومنها كلام القصاص والوعاظ الذين يمزجون بكلامهم البدعة فالقاص إن كان يكذب في أخباره فهو فاسق والإنكار عليه واجب وكذا الواعظ المبتدع يجب منعه ولا يجوز حضور مجلسه إلا على قصد إظهار الرد عليه إما للكافة إن قدر عليه أو لبعض الحاضرين حواليه فإن لم يقدر فلا يجوز سماع البدع قال الله تعالى لنبيه فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ومهما كان كلامه مائلا إلى الإرجاء وتجرئة الناس على المعاصي وكان الناس يزدادون بكلامه جراءة وبعفو الله وبرحمته وثوقا يزيد بسببه رجاؤهم على خوفهم فهو منكر ويجب منعه عنه لأن فساد ذلك عظيم بل لو رجح خوفهم على رجائهم فذلك أليق وأقرب بطباع الخلق فإنهم إلى الخوف أحوج وإنما العدل تعديل الخوف والرجاء كما قال عمر رضي الله عنه لو نادى مناد يوم القيامة ليدخل النار كل الناس إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نادى مناد ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا لخفت أن أكون أنا ذلك الرجل ومهما كان الواعظ شابا متزينا للنساء في ثيابه وهيئته كثير الأشعار والإشارات والحركات وقد حضر مجلسه النساء فهذا منكر يجب المنع منه فإن الفساد فيه أكثر من الصلاح ويتبين ذلك منه بقرائن أحواله بل لا ينبغي أن يسلم الوعظ إلا لمن ظاهره الورع وهيئته السكينة والوقار وزيه زي الصالحين وإلا فلا يزداد الناس به إلا تماديا في الضلال ويجب أن يضرب بين الرجال والنساء حائل يمنع من النظر فإن ذلك أيضا مظنة الفساد والعادات تشهد لهذه المنكرات ويجب منع النساء من حضور المساجد للصلوات ومجالس الذكر إذا خيفت الفتنة بهن فقد منعتهن عائشة رضي الله عنها فقيل لها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعهن من الجماعات فقالت لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن بعده لمنعهن حديث عائشة لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثن أي النساء من بعده لمنعهن المساجد متفق عليه وأما اجتياز المرأة في المسجد مستترة فلا تمنع منه إلا أن الأولى أن لا تتخذ المسجد مجازا اصلا وقراءة القراء بين يدي الوعاظ مع التمديد والألحان على وجه يغير نظم القرآن ويجاوز حد التنزيل منكر مكروه شديد الكراهة أنكره جماعة من السلف ومنها الحلق يوم الجمعة لبيع الأدوية والأطعمة والتعويذات وكقيام السؤال وقراءتهم القرآن وإنشادهم الأشعار وما يجري مجراه فهذه الأشياء منها ما هو محرم لكونه تلبيسا وكذبا كالكذابين من طرقية الأطباء وكأهل الشعبذة والتلبيسات وكذا أرباب التعويذات في الأغلب يتوصلون إلى بيعها بتلبيسات على الصبيان والسوادية فهذا حرام في المسجد وخارج المسجد ويجب المنع منه بل كل بيع فيه كذب وتلبيس وإخفاء عيب على المشتري فهو حرام ومنها ما هو مباح خارج المسجد كالخياطة وبيع الأدوية والكتب والأطعمة فهذا في المسجد أيضا لا يحرم إلا بعارض وهو أن يضيق المحل على المصلين ويشوش عليهم صلاتهم فإن لم يكن شيء من ذلك فليس بحرام والأولى تركه ولكن شرط إباحته أن يجري في أوقات نادرة وأيام معدودة فإن اتخاذ المسجد دكانا على الدوام حرم ذلك ومنع منه فمن المباحات ما يباح بشرط القلة فإن كثر صار صغيرة كما أن من الذنوب ما يكون صغيرة بشرط عدم الإصرار فإن كان القليل من هذا لو فتح بابه لخيف منه أن ينجر إلى الكثير فليمنع منه وليكن هذا المنع إلى الوالي أو إلى القيم بمصالح المسجد من قبل الوالي لأنه لا يدرك ذلك بالاجتهاد وليس للآحاد المنع مما هو مباح في نفسه لخوفه أن ذلك يكثر ومنها دخول المجانين والصبيان والسكارى في المسجد ولا بأس بدخول الصبي المسجد إذا لم يلعب ولا يحرم عليه اللعب في المسجد ولا السكوت على لعبه إلا إذا اتخذ المسجد ملعبا وصار ذلك معتادا فيجب المنع منه فهذا مما يحل قليله دون كثيره ودليل حل قليله ما روي في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف لأجل عائشة رضي الله عنها حتى نظرت إلى الحبشة يزفنون ويلعبون بالدرق والحراب يوم العيد في المسجد ولا شك في أن الحبشة لو اتخذوا المسجد ملعبا لمنعوا منه ولم ير ذلك على الندرة والقلة منكرا حتى نظر إليه بل أمرهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم لتبصرهم عائشة تطييبا لقلبها إذ قال دونكم يا بني أرفدة كما نقلناه في كتاب السماع وأما المجانين فلا بأس بدخولهم المسجد إلا أن يخشى تلويثهم له أو شتمهم أو نطقهم مما هو فحش أو تعاطيهم لما هو منكر في صورته ككشف العورة وغيره وأما المجنون الهادىء الساكن الذي قد علم بالعادة سكونه وسكوته فلا يجب إخراجه من المسجد والسكران في معنى المجنون فإن خيف منه القذف أعني القيء أو الإيذاء باللسان وجب إخراجه وكذا لو كان مضطرب العقل فإنه يخاف ذلك منه وإن كان قد شرب ولم يسكر والرائحة منه تفوح فهو منكر مكروه شديد الكراهة وكيف لا ومن أكل الثوم والبصل هذا الحديث لم يخرجه العراقي وقد خرجه الشارح عن البخاري ومسلم وغيرهما فقد نهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حضور المساجد ولكن يحمل ذلك على الكراهة والأمر في الخمر أشد فإن قال قائل ينبغي أن يضرب السكران ويخرج من المسجد زجرا قلنا لا بل ينبغي القعود في المسجد ويدعى إليه ويؤمر بترك الشرب مهما كان في الحال عاقلا فأما ضربه للزجر فليس ذلك إلى الآحاد بل هو إلى الولاة وذلك عند إقراره أو شهادة شاهدين فأما لمجرد الرائحة فلا نعم إذا كان يمشي بين الناس متمايلا بحيث يعرف سكره فيجوز ضربه في المسجد وغير المسجد منعا له عن إظهار أثر السكر فإن إظهار أثر الفاحشة فاحشة والمعاصي يجب تركها وبعد الفعل يجب سترها وستر آثارها فإن كان مستترا مخفيا لأثره فلا يجوز أن يتجسس عليه والرائحة قد تفوح من غير شرب بالجلوس في موضع الخمر وبوصوله إلى الفم دون الابتلاع فلا ينبغي أن يعول عليه منكرات الأسواق من المنكرات المعتادة في الأسواق الكذب في المرابحة وإخفاء العيب فمن قال اشتريت هذه السلعة مثلا بعشرة وأربح فيها كذا وكان كاذبا فهو فاسق وعلى من عرف ذلك أن يخبر المشتري بكذبه فإن سكت مراعاة لقلب البائع كان شريكا له في الخيانة وعصى بسكوته وكذا إذا علم به عيبا فيلزمه أن ينبه المشتري عليه وإلا كان راضيا بضياع مال أخيه المسلم وهو حرام وكذا التفاوت في الذراع والمكيال والميزان يجب على كل من عرفه تغييره بنفسه أو رفعه إلى الوالي حتى يغيره ومنها ترك الإيجاب والقبول والاكتفاء بالمعاطاة ولكن ذلك في محل الاجتهاد فلا ينكر إلا على من اعتقد وجوبه وكذا في الشروط الفاسدة المعتادة بين الناس يجب الإنكار فيها فإنها مفسدة للعقود وكذا في الربويات كلها وهي غالبة وكذا سائر التصرفات الفاسدة ومنها بيع الملاهي وبيع أشكال الحيوانات المصورة في أيام العيد لأجل الصبيان فتلك يجب كسرها والمنع من بيعها كالملاهي وكذلك بيع الأواني المتخذة من الذهب والفضة وكذلك بيع ثياب الحرير وقلانس الذهب والحرير أعني التي لا تصلح إلا للرجال أو يعلم بعادة البلد أنه لا يلبسه إلا الرجال فكل ذلك منكر محظور وكذلك من يعتاد بيع الثياب المبتذلة المقصورة التي يلبس على الناس بقصارتها وابتذالها ويزعم أنها جديدة فهذا الفعل حرام والمنع منه واجب وكذلك تلبيس انخراق الثياب بالرفو وما يؤدي إلى الالتباس وكذلك جميع أنواع العقود المؤدية إلى التلبيسات وذلك يطول إحصاؤه فليقس بما ذكرناه ما لم نذكره منكرات الشوارع فمن المنكرات المعتادة فيها وضع الاسطوانات وبناء الدكات متصلة بالأبنية المملوكة وغرس الأشجار وإخراج الرواشن والأجنحة ووضع الخشب وأحمال الحبوب والأطعمة على الطرق فكل ذلك منكر إن كان يؤدي إلى تضييق الطرق واستضرار المارة وإن لم يؤد إلى ضرر أصلا لسعة الطريق فلا يمنع منه نعم يجوز وضع الحطب وأحمال الأطعمة في الطريق في القدر الذي ينقل إلى البيوت فإن ذلك يشترك في الحاجة إليه الكافة ولا يمكن المنع منه وكذلك ربط الدواب على الطريق بحيث يضيق الطريق وينجس المجتازين منكر يجب المنع منه إلا بقدر حاجة النزول والركوب وهذا لأن الشوارع مشتركة المنفعة وليس لأحد أن يختص بها إلا بقدر الحاجة والمرعى هو الحاجة التي ترد الشوارع لأجلها في العادة دون سائر الحاجات ومنها سوق الدواب وعليها الشوك بحيث يمزق ثياب الناس فذلك منكر إن أمكن شدها وضمها بحيث لا تمزق أو أمكن العدول بها إلى موضع واسع وإلا فلا منع إذ حاجة أهل البلد تمس إلى ذلك نعم لا تترك ملقاة على الشوارع إلا بقدر مدة النقل وكذلك تحميل الدواب من الأحمال ما لا تطيقه منكر يجب منع الملاك منه وكذلك ذبح القصاب إذا كان يذبح في الطريق حذاء باب الحانوت ويلوث الطريق بالدم فإنه منكر يمنع منه بل حقه أن يتخذ في دكانه مذبحا فإن في ذلك تضييقا بالطريق وإضرارا بالناس بسبب ترشيش النجاسة وبسبب استقذار الطباع للقاذورات وكذلك طرح القمامة على جواد الطرق وتبديد قشور البطيخ أو رش الماء بحيث يخشى منه التزلق والتعثر كل ذلك من المنكرات وكذلك إرسال الماء من الميازيب المخرجة من الحائط في الطريق الضيقة فإن ذلك ينجس الثياب أو يضيق الطريق فلا يمنع منه في الطرق الواسعة إذ العدول عنه ممكن فأما ترك مياه المطر والأوحال والثلوج في الطرق من غير كسح فذلك منكر ولكن ليس يختص به شخص معين إلا الثلج الذي يختص بطرحه على الطريق واحد والماء الذي يجتمع على الطريق من ميزاب معين فعلى صاحبه على الخصوص كسح الطريق إن كان من المطر فذلك حسبة عامة فعلى الولاة تكليف الناس القيام بها وليس للآحاد فيها إلا الوعظ فقط وكذلك إذا كان له كلب عقور على باب داره يؤذي الناس فيجب منعه منه وإن كان لا يؤذي إلا بتنجيس الطريق وكان يمكن الاحتراز عن نجاسته لم يمنع منه وإن كان يضيق الطريق ببسطه ذراعيه فيمنع منه بل يمنع صاحبه من أن ينام على الطريق أو يقعد قعودا يضيق الطريق فكلبه أولى بالمنع منكرات الحمامات منها الصورة التي تكون على باب الحمام أو داخل الحمام يجب إزالتها على كل من يدخلها إن قدر فإن كان الموضع مرتفعا لا تصل إليه يده فلا يجوز له الدخول إلا لضرورة فليعدل إلى حمام آخر فإن مشاهدة المنكر غير جائزة ويكفيه أن يشوه وجهها ويبطل به صورتها ولا يمنع من صور الأشجار وسائر النقوش سوى صورة الحيوان ومنها كشف العورات والنظر إليها ومن جملتها كشف الدلاك عن الفخذ وما تحت السرة لتنحية الوسخ بل من جملتها إدخال اليد تحت الإزار فإن مس عورة الغير حرام كالنظر إليها ومنها الانبطاح على الوجه بين يدي الدلاك لتغميز الأفخاذ والأعجاز فهذا مكروه إن كان مع حائل ولكن لا يكون محظورا إذا لم يخش من حركة الشهوة وكذلك كشف العورة للحجام الذمي من الفواحش فإن المرأة لا يجوز لها أن تكشف بدنها للذمية في الحمام فكيف يجوز لها كشف العورات للرجال ومنها غمس اليد في الأواني النجسة في المياه القليلة وغسل الإزار والطاس النجس في الحوض وماؤه قليل فإنه منجس للماء إلا على مذهب مالك فلا يجوز الإنكار فيه على المالكية ويجوز على الحنفية والشافعية وإن اجتمع مالكي وشافعي في الحمام فليس للشافعي منع المالكي من ذلك إلا بطريق الالتماس واللطف وهو أن يقول له إنا نحتاج أن نغسل اليد أولا ثم نغمسها في الماء وأما أنت فمستغن عن إيذائي وتفويت الطهارة علي وما يجري مجرى هذا فإن مظان الاجتهاد لا يمكن الحسبة فيها بالقهر ومنها أن يكون في مداخل بيوت الحمام ومجاري مياهها حجارة ملساء مزلقة يزلق عليها الغافلون فهذا منكر ويجب قلعه وإزالته وينكر على الحمامي إهماله فإنه يفضي إلى السقطة وقد تؤدي السقطة إلى انكسار عضو أو انخلاعه وكذلك ترك السدر والصابون المزلق على أرض الحمام منكر ومن فعل ذلك وخرج وتركه فزلق به إنسان وانكسر عضو من أعضائه وكان ذلك في موضع لا يظهر فيه بحيث يتعذر الاحتراز عنه فالضمان متردد بين الذي تركه وبين الحمامي إذ حقه تنظيف الحمام والوجه إيجاب الضمان على تاركه في اليوم الأول وعلى الحمامي في اليوم الثاني إذ عادة تنظيف الحمام كل يوم معتادة والرجوع في مواقيت إعادة التنظيف إلى العادات فليعتبر بها وفي الحمام أمور أخر مكروهة ذكرناها في كتاب الطهارة فلتنظر هناك منكرات الضيافة فمنها فرش الحرير للرجال فهو حرام وكذلك تبخير البخور في مجمرة فضة أو ذهب أو الشراب أو استعمال ماء الورد في أواني الفضة أو ما رءوسها من فضة ومنها إسدال الستور وعليها الصور ومنها سماع الأوتار أو سماع القينات ومنها اجتماع النساء على السطوح للنظر إلى الرجال مهما كان في الرجال شباب يخاف الفتنة منهم فكل ذلك محظور منكر يجب تغييره ومن عجز عن تغييره لزمه الخروج ومن لم يجز له الجلوس فلا رخصة له في الجلوس في مشاهدة المنكرات وأما الصور التي على النمارق والزرابي المفروشة فليس منكرا وكذلك على الأطباق والقصاع لا الأواني المتخذة على شكل الصور فقد تكون رءوس بعض المجامر على شكل طير فذلك حرام يجب كسر مقدار الصورة منه وفي المكحلة الصغيرة من الفضة خلاف وقد خرج أحمد بن حنبل عن الضيافة بسببها ومهما كان الطعام حراما أو كان الموضع مغصوبا أو كانت الثياب المفروشة حراما فهو من أشد المنكرات فإن كان من فيها من يتعاطى شرب الخمر وحده فلا يجوز الحضور إذ لا يحل حضور مجالس الشرب وإن كان مع ترك الشرب ولا يجوز مجالسة الفاسق في حالة مباشرته للفسق وإنما النظر في مجالسته بعد ذلك وأنه هل يجب بغضه في الله ومقاطعته كما ذكرناه في باب الحب والبغض في الله وكذلك إن كان فيهم من يلبس الحرير أو خاتم الذهب فهو فاسق لا يجوز الجلوس معه من غير ضرورة فإن كان الثوب على صبي غير بالغ فهذا في محل النظر والصحيح أن ذلك منكر ويجب نزعه عنه إن كان مميزا لعموم قوله عليه السلام هذان حرام على ذكور أمتي حديث هذان حرامان على ذكور أمتي أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه من حديث علي وقد تقدم في الباب الرابع من آداب الأكل وكما يجب منع الصبي من شرب الخمر لا لكونه مكلفا لكن لأنه يأنس به فإذا بلغ عسر عليه الصبر عنه فكذلك شهوة التزين بالحرير تغلب عليه إذا اعتاده فيكون ذلك بذرا للفساد يبذر في صدره فتنبت منه شجرة من الشهوة راسخة يعسر قلعها بعد البلوغ أما الصبي الذي لا يميز فيضعف معنى التحريم في حقه ولا يخلو عن احتمال والعلم عند الله فيه والمجنون في معنى الصبي الذي لا يميز نعم يحل التزين بالذهب والحرير للنساء من غير إسراف ولا أرى رخصة في تثقيب أذن الصبية لأجل تعليق حلق الذهب فيها فإن هذا جرح مؤلم ومثله موجب للقصاص فلا يجوز إلا لحاجة مهمة كالفصد والحجامة والختان والتزين بالحلق غير مهم بل في التقريط بتعليقه على الأذن وفي المخانق والأسورة كفاية عنه فهذا وإن كان معتادا فهو حرام والمنع منه واجب والاستئجار عليه غير صحيح والأجرة المأخوذة عليه حرام إلا أن يثبت من جهة النقل فيه رخصة ولم يبلغنا إلى الآن فيه رخصة ومنها أن يكون في الضيافة مبتدع يتكلم في بدعته فيجوز الحضور لمن يقدر على الرد عليه على عزم الرد فإن كان لا يقدر عليه لم يجز فإن كان المبتدع لا يتكلم ببدعته فيجوز الحضور مع إظهار الكراهة عليه والإعراض عنه كما ذكرناه في باب البغض في الله وإن كان فيها مضحك بالحكايات وأنواع النوادر فإن كان يضحك بالفحش والكذب لم يجز الحضور وعند الحضور يجب الإنكار عليه وإن كان ذلك بمزح لا كذب فيه ولا فحش فهو مباح أعني ما يقل منه فأما اتخاذه صنعة وعادة فليس بمباح وكل كذب لا يخفى أنه كذب ولا يقصد به التلبيس فليس من جملة المنكرات كقول الإنسان مثلا طلبتك اليوم مائة مرة وأعدت عليك الكلام ألف مرة وما يجري مجراه مما يعلم أنه ليس يقصد به التحقيق فذلك لا يقدح في العدالة ولا ترد الشهادة به وسيأتي حد المزاح المباح والكذب المباح في كتاب آفات اللسان من ربع المهلكات ومنها الإسراف في الطعام والبناء فهو منكر بل في المال منكران أحدهما الإضاعة والآخر الإسراف فالإضاعة تفويت مال بلا فائدة يعتد بها كإحراق الثوب وتمزيقه وهدم البناء من غير غرض وإلقاء المال في البحر وفي معناه صرف المال إلى النائحة والمطرب وفي أنواع الفساد لأنها فوائد محرمة شرعا فصارت كالمعدومة وأما الإسراف فقد يطلق لإرادة صرف المال إلى النائحة والمطرب والمنكرات وقد يطلق على الصرف إلى المباحات في جنسها ولكن مع المبالغة والمبالغة تختلف بالإضافة إلى الأحوال فنقول من لم يملك إلا مائة دينار مثلا ومعه عياله وأولاده ولا معيشة لهم سواه فأنفق الجميع في وليمة فهو مسرف يجب منعه قال تعالى ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا نزل هذا في رجل بالمدينة قسم جميع ماله ولم يبق شيئا لعياله فطولب بالنفقة فلم يقدر على شيء وقال تعالى ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكذلك قال عز وجل والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا فمن يسرف هذا الإسراف ينكر عليه ويجب على القاضي أن يحجر عليه إلا إذا كان الرجل وحده وكان له قوة في التوكل صادقة فله أن ينفق جميع ماله في أبواب البر ومن له عيال أو كان عاجزا عن التوكل فليس له أن يتصدق بجميع ماله وكذلك لو صرف جميع ماله إلى نقوش حيطانه وتزيين بنيانه فهو أيضا إسراف محرم وفعل ذلك ممن له مال كثير ليس بحرام لأن التزيين من الأغراض الصحيحة ولم تزل المساجد تزين وتنقش أبوابها وسقوفها مع أن نقش الباب والسقف لا فائدة فيه إلا مجرد الزينة فكذا الدور وكذا القول في التجمل بالثياب والأطعمة فذلك مباح في جنسه ويصير إسرافا باعتبار حال الرجل وثروته وأمثال هذه المنكرات كثيرة لا يمكن حصرها فقس بهذه المنكرات المجامع ومجالس القضاة ودواوين السلاطين ومدارس الفقهاء ورباطات الصوفية وخانات الأسواق فلا تخلو بقعة عن منكر مكروه أو محذور واستقصاء جميع المنكرات يستدعي استيعاب جميع تفاصيل الشرع أصولها وفروعها فلنقتصر على هذا القدر منها المنكرات العامة اعلم أن كل قاعد في بيته أينما كان فليس خاليا في هذا الزمان عن منكر من حيث التقاعد عن إرشاد الناس وتعليمهم وحملهم على المعروف فأكثر الناس جاهلون بالشرع في شروط الصلاة في البلاد فكيف في القرى والبوادي ومنهم الأعراب والأكراد والتركمانية وسائر أصناف الخلق وواجب أن يكون في مسجد ومحلة من البلد فقيه يعلم الناس دينهم وكذا في كل قرية وواجب على كل فقيه فرع من فرض عينه وتفرغ لفرض الكفاية أن يخرج إلى من يجاور بلده من أهل السواد ومن العرب والأكراد وغيرهم ويعلمهم دينهم وفرائض شرعهم ويستصحب مع نفسه زادا يأكله ولا يأكل من أطعمتهم فإن أكثرها مغصوب فإن قام بهذا الأمر واحد سقط الحرج عن الآخرين وإلا عم الحرج الكافة أجمعين أما العالم فلتقصيره في الخروج وأما الجاهل فلتقصيره في ترك التعلم وكل عامي عرف شروط الصلاة فعليه أن يعرف غيره وإلا فهو شريك في الإثم ومعلوم أن الإنسان لا يولد عالما بالشرع وإنما يجب التبليغ على أهل العلم فكل من تعلم مسألة واحدة فهو من أهل العلم بها ولعمري الإثم على الفقهاء أشد لأن قدرتهم فيه أظهر وهو بصناعتهم أليق لأن المحترفين لو تركوا حرفتهم لبطلت المعايش فهم قد تقلدوا أمرا لا بد منه في صلاح الخلق وشأن الفقيه وحرفته تبليغ ما بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن العلماء هم ورثة الأنبياء وللإنسان أن يقعد في بيته ولا يخرج إلى المسجد لأنه يرى الناس لا يحسنون الصلاة بل إذا علم ذلك وجب عليه الخروج للتعليم والنهي وكذا كل من تيقن أن في السوق منكرا يجري على الدوام أو في وقت بعينه وهو قادر على تغييره فلا يجوز له أن يسقط ذلك عن نفسه بالقعود في البيت بل يلزمه الخروج فإن كان لا يقدر على تغيير الجميع وهو محترز عن مشاهدته ويقدر على البعض لزمه الخروج لأن خروجه إذا كان لأجل تغيير ما يقدر عليه فلا يضره مشاهدة ما لا يقدر عليه وإنما يمنع الحضور لمشاهدة المنكر من غير غرض صحيح فحق على كل مسلم أن يبدأ بنفسه فيصلحها بالمواظبة على الفرائض وترك المحرمات ثم يعلم ذلك أهل بيته ثم يتعدى بعد الفراغ منهم إلى جيرانه ثم إلى أهل محلته ثم إلى أهل بلده ثم إلى أهل السوادي المكتنف ببلده ثم إلى أهل البوادي من الأكراد والعرب وغيرهم وهكذا إلى أقصى العالم فإن قام به الأدنى سقط عن الأبعد وإلا حرج به على كل قادر عليه قريبا كان أو بعيدا ولا يسقط الحرج ما دام يبقى على وجه الأرض جاهل بفرض من فروض دينه وهو قادر على أن يسعى إليه بنفسه أو بغيره فيعلمه فرضه وهذا شغل شاغل لمن يهمه أمر دينه يشغله عن تجزئة الأوقات في التفريعات النادرة والتعمق في دقائق العلوم التي هي من فروض الكفايات ولا يتقدم على هذا إلا فرض عين أو فرض كفاية هو أهم منه الباب الرابع في أمر الأمراء والسلاطين ونهيهم عن المنكر قد ذكرنا درجات الأمر بالمعروف وأن أوله التعريف وثانيه والوعظ وثالثه التخشين في القول ورابعه المنع بالقهر في الحمل على الحق بالضرب والعقوبة والجائز من جملة ذلك مع السلاطين الرتبتان الأوليان وهما التعريف والوعظ وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر وأما التخشين في القول كقوله يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه فلقد كان من عادة السلف التعرض للأخطار والتصريح بالإنكار من غير مبالاة بهلاك المهجة والتعرض لأنواع العذاب لعلمهم بأن ذلك شهادة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك حديث خير الشهداء حمزة بن عبد المطلب ثم رجل قام إلى رجل فأمره ونهاه في ذات الله فقتله على ذلك أخرجه الحاكم من حديث جابر وقال صحيح الإسناد وتقدم في الباب قبله وقال صلى الله عليه وسلم أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر حديث أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر تقدم ووصف النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم وتركه قوله الحق ماله من صديق حديث وصفه صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب بأنه قرن من حديد لا تأخذه في الله لومة لائم تركه قوله الحق ماله من صديق أخرجه الترمذي بسند ضعيف مقتصرا على آخر الحديث من حديث علي رحم الله عمر يقول الحق وإن كان مرا تركه الحق ماله من صديق وأما أول الحديث فرواه الطبراني إن عمر قال لكعب الأحبار كيف تجد نعتي قال أجد نعتك قرنا من حديد قال وما قرن من حديد قال أمير شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ولما علم المتصلبون في الدين أن أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى ومحتسبين لما يبذلونه من من مهجهم عند الله وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام ونقتصر الآن على حكايات يعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عدوانه فقال حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا وفرق جماعتنا وسب آلهتنا ولقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ثم قال أتسمعون يا معشر قريش أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح قال فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى أن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف يا أبا القاسم راشدا فوالله ما كنت جهولا قال فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر وأنا معهم فقال بعضهم لبعض ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد فأحاطوا به يقولون أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم قال فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم أنا الذي أقول ذلك قال فلقد رأيت رجل منهم أخذ بمجامع ردائه قال وقام أبو بكر الصديق رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه وإن ذلك لأشد ما رأيت قريشا بلغت منه حديث عروة قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما كانت تظهر من عداوته الحديث أخرجه بطوله البخاري مختصرا وابن حبان بتمامه وفي رواية أخرى عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء أبو بكر فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم حديث عبد الله بن عمرو بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث رواه البخاري وروى أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه أبو مسلم الخولاني فقال له يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك قال فغضب معاوية ونزل عن المنبر وقال لهم مكانكم وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال إن أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الغضب من الشيطان والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم فليغتسل حديث معاوية الغضب من الشيطان الحديث وفي أوله قصة رواها أبو نعيم في الحلية وفيه من لا أعرفه وإني دخلت فاغتسلت وصدق أبو مسلم أنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم وروى عن ضبة بن محصن العنزي قال كان علينا أبو موسى الأشعري أميرا بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه فصنع ذلك جمعا ثم كتب إلى عمر يشكوني يقول إن ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي فكتب إليه عمر أن أشخصه إلي قال فأشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب فخرج إلي فقال من أنت فقلت أنا ضبة فقال لي لا مرحبا ولا أهلا قلت أما المرحب فمن الله وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ولا شيء أتيته فقال ما الذي شجر بينك وبين عاملي قال قلت الآن أخبرك به إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ثم أنشأ يدعو لك فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له أين أنت من صاحبه تفضله عليه فصنع ذلك جمعا ثم كتب إليك يشكوني قال فاندفع عمر رضي الله عنه باكيا وهو يقول أنت والله أوفق منه وأرشد فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك قال قلت غفر الله لك يا أمير المؤمنين قال ثم اندفع باكيا وهو يقول والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه قلت نعم قال أما الليلة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هاربا من المشركين خرج ليلا فتبعه أبو بكر فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هذا يا أبا بكر ما أعرف هذا من أفعالك فقال يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك وأذكر الطلب فأكون خلفك ومرة عن يمينك ومرة عن يسارك لا آمن عليك قال فمشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت فلما رأى أبو بكر أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال والذي بعثكبالحق لا تدخله حتى أدخله فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك قال فدخل فلم ير فيه شيئا فحمله فأدخله وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه وجعلن يضربن أبا بكر في قدمه وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة لأبي بكر فهذه ليلته وأما يومه فلما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم نصلى ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحا فقلت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم فقال لي أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام فبماذا أتألفهم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه قال فقاتلنا عليه فكان والله رشيد الأمر فهذا يومه ثم كتب إلى أبي موسى يلومه حديث ضبة بن محصن كان علينا أبو موسى الأشعري أميرا بالبصرة وفيه من عمر أنه قال والله لليلة من أبي بكر ويوم خير من عمر وآل عمر فهل لك أن أحدثك بيومه وليلته فذكر ليلة الهجرة ويوم الردة بطوله رواه البيهقي في دلائل النبوة بإسناد ضعيف هكذا وقصة الهجرة رواها البخاري من حديث عائشة بغير هذا السياق واتفق عليها الشيخان من حديث أبي بكر بلفظ آخر ولهما من حديثه قال قلت يا رسول الله لو أن أحدهم نظر إلى قدميه أبصرنا تحت قدميه فقال : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما وأما قتاله لأهل الردة ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستخلف أبو بكر وكفر من كفر من العرب قال عمر لأبي بكر كيف تقاتل الناس الحديث وعن الأصمعي قال دخل عطاء بن أبي رباح على عبد الملك بن مروان وهو جالس على سريره وحواليه الأشراف من كل بطن وذلك بمكة في وقت حجه في خلافته فلما بصر به قام إليه وأجلسه معه على السرير وقعد بين يديه وقال له يا أبا محمد ما حاجتك فقال يا أمير المؤمنين اتق الله في حرم الله وحرم رسوله فتعاهده بالعمارة واتق الله في أولاد المهاجرين والأنصار فإنك بهم جلست هذا المجلس واتق الله في أهل الثغور فإنهم حصن المسلمين وتفقد أمور المسلمين فإنك وحدك المسئول عنهم واتق الله فيمن على بابك فلا تغفل عنهم ولا تغلق بابك دونهم فقال له أجل أفعل ثم نهض وقام فقبض عليه عبد الملك فقال يا ابا محمد إنما سألتنا حاجة لغيرك وقد قضيناها فما حاجتك أنت فقال ما لي إلى مخلوق حاجة ثم خرج فقال عبد الملك هذا وأبيك الشرف وقد روى أن الوليد بن عبد الملك قال لحاجبه يوما قف على الباب فإذا مر بك رجل فأدخله علي ليحدثني فوقف الحاجب على الباب مدة فمر به عطاء بن أبي رباح وهو لا يعرفه فقال له يا شيخ ادخل إلى أمير المؤمنين فإنه أمر بذلك فدخل عطاء على الوليد وعنده عمر بن عبد العزيز فلما دنا عطاء من الوليد قال السلام عليك يا وليد قال فغضب الوليد على حاجبه وقال له ويلك أمرتك أن تدخل إلى رجلا يحدثني ويسامرني فأدخلت إلى رجلا لم يرض أن يسميني بالإسم الذي اختاره الله لي فقال له حاجبه ما مر بي أحد غيره ثم قال لعطاء اجلس ثم أقبل عليه يحدثه فكان فيما حدثه به عطاء أن قال له بلغنا أن في جهنم واديا يقال له هبهب أعده الله لكل إمام جائر في حكمه فصعق الوليد من قوله وكان جالسا بين يدي عتبة باب المجلس فوقع على قفاه إلى جوف المجلس مغشيا عليه فقال عمر لعطاء قتلت أمير المؤمنين فقبض عطاء على ذراع عمر ابن عبد العزيز فغمزه غمرة شديدة وقال له يا عمر إن الأمر جد فجد ثم قام عطاء وانصرف فبلغنا عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه قال مكثت سنة أجد ألم غمزته في ذراعي وكان ابن أبي شميلة يوصف بالعقل والأدب فدخل على عبد الملك بن مروان فقال له عبد الملك تكلم قال بم أتكلم وقد علمت أن كل كلام تكلم به المتكلم عليه وبال إلا ما كان لله فبكى عبد الملك ثم قال يرحمك الله لم يزل الناس يتواعظون ويتواصون فقال الرجل يا أمير المؤمنين إن الناس في القيامة لا ينجون من غصص مرارتها ومعاينة الردى فيها إلا من أرضى الله بسخط نفسه فبكى عبد الملك ثم قال لا جرم لأجعلن هذه الكلمات مثالا نصب عيني ما عشت ويروى عن ابن عائشة أن الحجاج دعا بفقهاء البصرة وفقهاء الكوفة فدخلنا عليه ودخل الحسن البصري رحمه الله آخر من دخل فقال الحجاج مرحبا بأبي سعيد إلى إلي ثم دعا بكرسي فوضع إلى جنب سريره فقعد عليه فجعل الحجاج يذاكرنا ويسألنا إذ ذكر علي بن أبي طالب رضي الله عنه فنال منه ونلنا منه مقاربة له وفرقا من شره والحسن ساكت عاض على إبهامه فقال يا أبا سعيد مالي أراك ساكتا قال ما عسيت أن أقول قال أخبرني برأيك في أبي تراب قال سمعت الله جل ذكره يقول وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم فعلى ممن هدى الله من أهل الإيمان فأقول ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وختنه على ابنته وأحب الناس إليه وصاحب سوابق مباركات سبقت له من الله لن تستطيع أنت ولا أحد من الناس أن يحظرها عليه ولا يحول بينه وبينها وأقول إن كانت لعلى هناة فالله حسبه والله ما أجد فيه قولا أعدل من هذا فبسر وجه الحجاج وتغير وقام عن السرير مغضبا فدخل بيتا خلفه وخرجنا قال عامر الشعبي فأخذت بيد الحسن فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره فقال إليك عني يا عامر يقول الناس عامر الشعبي عالم أهل الكوفة أتيت شيطانا من شياطين الإنس تكلمه بهواه وتقاربه في رأيه ويحك يا عامر هلا اتقيت إن سئلت فصدقت أو سكت فسلمت قال عامر يا أبا سعيد قد قلتها وأنا أعلم ما فيها قال الحسن فذاك أعظم في الحجة عليك وأشد في التبعة قال وبعث الحجاج إلى الحسن فلما دخل عليه قال أنت الذي تقول قاتلهم الله قتلوا عباد الله على الدينار والدرهم قال نعم قال ما حملك على هذا قال ما أخذ الله على العلماء من المواثيق ليبيننه للناس ولا يكتمونه قال يا حسن أمسك عليك لسانك وإياك أن يبلغني عنك ما أكره فأفرق بين رأسك وجسدك وحكى أن حطيطا الزيات جيء به إلى الحجاج فلما دخل عليه قال أنت حطيط قال نعم سل عما بدا لك فإني عاهدت الله عند المقام على ثلاث خصال إن سئلت لأصدقن وإن ابتليت لأصبرن وإن عوفيت لأشكرن قال فما تقول في قال أقول إنك من أعداء الله في الأرض تنتهك المحارم وتقتل بالظنة قال فما تقول في أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان قال أقول إنه أعظم جرما منك وإنما أنت خطيئة من خطاياه قال فقال الحجاج ضعوا عليه العذاب قال فانتهى به العذاب إلى أن شقق له القصب ثم جعلوه على لحمه وشدوه بالحبال ثم جعلوا يمدون قصبة قصبة حتى انتحلوا لحمه فما سمعوه يقول شيئا قال فقيل للحجاج إنه في آخر رمق فقال أخرجوه فارموا به في السوق قال جعفر فأتيته أنا وصاحب له فقلنا له حطيط ألك حاجة قال شربة ماء فأتوه بشربة ثم مات وكان ابن ثمان عشرة سنة رحمة الله عليه وروى أن عمر بن هبيرة دعا بفقهاء أهل البصرة وأهل الكوفة وأهل المدينة وأهل الشام وقرائها فجعل يسألهم وجعل يكلم عامر الشعبي فجعل لا يسأله عن شيء إلا وجد عنده منه علما ثم أقبل على الحسن البصري فسأله ثم قال هما هذان هذا رجل أهل الكوفة يعني الشعبي وهذا رجل أهل البصرة يعني الحسن فأمر الحاجب فأخرج الناس وخلا بالشعبي والحسن فأقبل على الشعبي فقال يا أبا عمرو إني أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم فأنا أحب حفظهم وتعهد ما يصلحهم مع النصيحة لهم وقد يبلغني عن العصابة من أهل الديار الأمر أجد عليهم فيه فأقبض طائفة من عطائهم فأضعه في بيت المال ومن نيتي أن أرده عليهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قد قبضته على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا إنفاذ كتابه وإنما أنا رجل مأمور على الطاعة فهل على في هذا تبعة وفي أشباهه من الأمور والنية فيها على ما ذكرت قال الشعبي فقلت أصلح الله الأمير إنما السلطان والد يخطىء ويصيب قال فسر بقولي وأعجب به ورأيت البشر في وجهه وقال فلله الحمد ثم أقبل على الحسن فقال ما تقول يا أبا سعيد قال قد سمعت قول الأمير يقول إنه أمين أمير المؤمنين على العراق وعامله عليها ورجل مأمور على الطاعة ابتليت بالرعية ولزمني حقهم والنصيحة لهم والتعهد لما يصلحهم وحق الرعية لازم لك وحق عليك أن تحوطهم بالنصيحة وإني سمعت عبد الرحمن بن سمرة القرشي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة حديث الحسن عن عبد الرحمن بن سمرة من استرعى رعية فلم يحطها بالنصيحة حرم الله عليه الجنة رواه البغوي في معجم الصحابة بإسناد لين وقد اتفق عليه الشيخان بنحوه من رواية الحسن عن معقل بن يسار ويقول إني ربما قبضت من عطائهم إرادة صلاحهم واستصلاحهم وأن يرجعوا إلى طاعتهم فيبلغ أمير المؤمنين أني قبضتها على ذلك النحو فيكتب إلى أن لا ترده فلا أستطيع رد أمره ولا أستطيع إنفاذ كتابه وحق الله ألزم من حق أمير المؤمنين والله أحق أن يطاع ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق فأعرض كتاب أمير المؤمنين على كتاب الله عز وجل فإن وجدته موافقا لكتاب الله فخذ به وإن وجدته مخالفا لكتاب الله فانبذه يا ابن هبيرة اتق الله فإنه يوشك أن يأتيك رسول من رب العالمين يزيلك عن سريرك ويخرجك من سعة قصرك إلى ضيق قبرك فتدع سلطانك ودنياك خلف ظهرك وتقدم على ربك وتنزل على عملك يا ابن هبيرة إن الله ليمنعك من يزيد ولا يمنعك يزيد من الله وإن أمر الله فوق كل أمر وإنه لا طاعة في معصية الله وإني أحذرك بأسه الذي لا يرد عن القوم المجرمين فقال ابن هبيرة اربع على ظلعك أيها الشيخ وأعرض عن ذكر أمير المؤمنين فإن أمير المؤمنين صاحب العلم وصاحب الحكم وصاحب الفضل وإنما ولاه الله تعالى ما ولاه من أمر هذه الأمة لعلمه به وما يعلمه من فضله ونيته فقال الحسن يا ابن هبيرة الحساب من ورائك سوط بسوط وغضب بغضب والله بالمرصاد يا ابن هبيرة إنك إن تلق من ينصح لك في دينك ويحملك على أمر آخرتك خير من أن تلقى رجلا يغرك ويمنيك فقام ابن هبيرة وقد بسر وجهه وتغير لونه قال الشعبي فقلت يا أبا سعيد أغضبت الأمير وأوغرت صدره وحرمتنا معروفه وصلته فقال إليك عني يا عامر قال فخرجت إلى الحسن التحف والطرف وكانت له المنزلة واستخف بنا وجفينا فكان أهلا لما أدى إليه وكنا أهلا أن يفعل ذلك بنا فما رأيت مثل الحسن فيمن رأيت من العلماء إلا مثل الفرس العربي بين المقارف وما شهدنا مشهدا إلا برز علينا وقال لله عز وجل وقلنا مقاربة لهم قال عامر الشعبي وأنا أعاهد الله أن لا أشهد سلطانا بعد هذا المجلس فأحابيه ودخل محمد بن واسع على بلال بن أبي بردة فقال له ما تقول في القدر فقال جيرانك أهل القبور فتفكر فيهم فإن فيهم شغلا عن القدر وعن الشافعي رضي الله عنه قال حدثني عمي محمد بن علي قال إني لحاضر مجلس أمير المؤمنين أبي جعفر المنصور وفيه ابن أبي ذؤيب وكان والي المدينة الحسن بن زيد قال فأتى الغفاريون فشكوا إلى أبي جعفر شيئا من أمر الحسن بن زيد فقال الحسن يا أمير المؤمنين سل عنهم ابن أبي ذؤيب قال فسأله فقال ما تقول فيهم يا ابن أبي ذؤيب فقال أشهد أنهم أهل تحطم في أعراض الناس كثيرو الأذى لهم فقال أبو جعفر قد سمعتم فقال الغفاريون يا أمير المؤمنين سله عن الحسن بن زيد فقال يا ابن أبي ذؤيب ما تقول في الحسن بن زيد فقال أشهد عليه أنه يحكم بغير الحق ويتبع هواه فقال قد سمعت يا حسن ما قال فيك ابن أبي ذؤيب وهو الشيخ الصالح فقال يا أمير المؤمنين اسأله عن نفسك فقال ما تقول في قال تعفيني يا أمير المؤمنين قال أسألك بالله إلا أخبرتني قال تسألني بالله كأنك لا تعرف نفسك قال والله لتخبرني قال أشهد أنك أخذت هذا المال من غير حقه فجعلته في غير أهله واشهد أن الظلم ببابك فاش قال فجاء أبو جعفر من موضعه حتى وضع يده في قفا ابن أبي ذؤيب فقبض عليه ثم قال له أما والله لولا أني جالس ههنا لأخذت فارس والروم والديلم والترك بهذا المكان منك قال فقال ابن أبي ذؤيب يا أمير المؤمنين قد ولى أبو بكر وعمر فأخذا الحق وقسما بالسوية وأخذا بأقفاء فارس والروم وأصغرا آنافهم قال فخلى أبو جعفر قفاه وخلى سبيله وقال والله لولا أني أعلم أنك صادق لقتلتك فقال ابن أبي ذؤيب والله يا أمير المؤمنين إني لأنصح لك من ابنك المهدي قال فبلغنا أن ابن أبي ذؤيب لما انصرف من مجلس المنصور لقيه سفيان الثوري فقال له يا أبا الحرث لقد سرني ما خاطبت به هذا الجبار ولكن ساءني قولك له ابنك المهدي فقال يغفر الله لك يا أبا عبد الله كلنا مهدي كلنا كان في المهد وعن الأوزاعي عبد الرحمن بن عمرو قال بعث إلى أبو جعفر المنصور أمير المؤمنين وأنا بالساحل فأتيته فلما وصلت إليه وسلمت عليه بالخلافة رد علي واستجلسني ثم قال لي ما الذي أبطأ بك عنا يا أوزاعي قال قلت وما الذي تريد يا أمير المؤمنين قال أريد الأخذ عنكم والإقتباس منكم قال فقلت فانظر يا أمير المؤمنين أن لا تجهل شيئا مما أقول لك قال وكيف أجهله وأنا أسألك عنه وفيه وجهت إليك وأقدمتك له قال قلت أخاف أن تسمعه ثم لا تعمل به قال فصاح بي الربيع وأهوى بيده إلى السيف فانتهره المنصور وقال هذا مجلس مثوبة لا مجلس عقوبة حديث الأوزاعي مع المنصور وموعظته له وذكر فيها عشرة أحاديث مرفوعة والقصة بجملتها رواها ابن أبي الدنيا في كتاب مواعظ الخلفاء ورويناها في مشيخة يوسف بن كامل الخفاف ومشيخة ابن طبرزد وفي إسنادها أحمد بن عبيد بن ناصح قال ابن عدي يحدث بمناكير وهو عندي من أهل الصدق وقد رأيت سرد الأحاديث المذكورة في الموعظة لنذكر هل لبعضها طريق غير هذا الطريق وليعرف صحابي كل حديث أو كونه مرسلا فأولها فطابت نفسي وانبسطت في الكلام فقلت يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن بشر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله سيقت إليه فإن قبلها بشكر وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد بها إثما ويزداد الله بها سخطا عليه حديث عطية بن بشر أيما عبد جاءته موعظة من الله في دينه فإنها نعمة من الله الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في مواعظ الخلفاء يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عطية بن ياسر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أيما وال مات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة حديث عطية بن ياسر ايما وال بات غاشا لرعيته حرم الله عليه الجنة ياأمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله إن الله هو الحق المبين إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه في ذات يده محمودا عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق وأن تكون بالقسط له فيهم قائما ولعوراتهم ساترا لا تغلق عليك دونهم الأبواب ولا تقيم دونهم الحجاب تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء يا أمير أخرجه ابن أبي الدنيا فيه وابن عدي في الكامل في ترجمة أحمد بن عبيد يا أمير المؤمنين من كره الحق فقد كره الله إن الله هو الحق المبين إن الذي لين قلوب أمتكم لكم حين ولاكم أمورهم لقرابتكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان بهم رءوفا رحيما مواسيا لهم بنفسه في ذات يده محمودا عند الله وعند الناس فحقيق بك أن تقوم له فيهم بالحق وأن تكون بالقسط له فيهم قائما ولعوراتهم ساترا لاتغلق عليهم دونهم الأبواب ولا تقيم دونهم الحجاب تبتهج بالنعمة عندهم وتبتئس بما أصابهم من سوء يا أمير المؤمنين قد كنت في شغل شاغل من خاصة نفسك عن عامة الناس الذين أصبحت تملكهم أحمرهم وأسودهم مسلمهم وكافرهم وكل له عليك نصيب من العدل فكيف بك إذا انبعث منهم فئام وراء فئام وليس منهم أحد إلا وهو يشكو بلية أدخلتها عليه أو ظلامة سقتها إليه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن عروة بن رويم قال كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين فأتاه جبرائيل عليه السلام فقال له يا محمد ما هذه الجريدة التي كسرت بها قلوب أمتك وملأت قلوبهم رعبا حديث عروة بن رويم كانت بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم جريدة يستاك بها ويروع بها المنافقين الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فيه وهو مرسل وعروة ذكره ابن حبان في ثقات التابعين فكيف بمن شقق أستارهم وسفك دماءهم وخرب ديارهم وأجلاهم عن بلادهم وغيبهم الخوف منه يا أمير المؤمنين حدثني مكحول عن زياد عن حارثة عن حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيا لم يتعمده فأتاه جبريل عليه السلام فقال يا محمد إن الله لم يبعثك جبارا ولا متكبرا فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال اقتص مني فقال الأعرابي قد أحللتك بأبي أنت وأمي وما كنت لأفعل ذلك أبدا ولو أتيت على نفسي فدعا له بخير حديث حبيب بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا إلى القصاص من نفسه في خدش خدشه أعرابيا لم يتعمده الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فية وروى أبو داود والنسائي من حديث عمر قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتص من نفسه وللحاكم من رواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أبيه طعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خاصرة أسيد بن حضير فقال أوجعتني قال اقتص الحديث قال صحيح الإسناد يا أمير المؤمنين رض نفسك لنفسك وخذ لها الأمان من ربك وارغب في جنة عرضها السموات والأرض التي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لقيد قوس أحدكم من الجنة خير له من الدنيا وما فيها حديث لقيد قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها أخرجه ابن أبي الدنيا من رواية الأوزاعي معضلا لم يذكر إسناده ورواه البخاري من حديث أنس بلفظ لقاب يا أمير المؤمنين إن الملك لو بقي لمن قبلك لم يصل إليك وكذا لا يبقى لك كما لم يبق لغيرك يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها قال الصغيرة التبسم والكبيرة الضحك فكيف بما عملته الأيدي وحصدته الألسن يا أمير المؤمنين بلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لو ماتت سخلة على شاطئ الفرات ضيعة لخشيت أن أسأل عنها فكيف بمن حرم عدلك وهو على بساطك يا أمير المؤمنين أتدري ما جاء في تأويل هذه الآية عن جدك يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله قال الله تعالى في الزبور يا داود إذا قعد الخصمان بين يديك فكان لك في أحدهما هوى فلا تتمنين في نفسك أن يكون الحق له فيفلح على صاحبه فأمحوك عن نبوتي ثم لا تكون خلفتي ولا كرامة يا داود إنما جعلت رسلي إلى عبادي رعاء كرعاء الإبل لعلمهم بالرعاية ورفقهم بالسياسة ليجبروا الكسير ويدلوا الهزيل على الكلأ والماء يا أمير المؤمنين إنك قد بليت بأمر لو عرض على السموات والأرض والجبال لأبين أن يحملنه وأشفقن منه يا أمير المؤمنين حدثني يزيد بن جابر عن عبد الرحمن بن عمرة الأنصاري أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعمل رجلا من الأنصار على الصدقة فرآه بعد أيام مقيما فقال له ما منعك من الخروج إلى عملك أما علمت أن لك مثل أجر المجاهد في سبيل الله قال لا قال وكيف ذلك قال إنه بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ما من وال يلي شيئا من أمور الناس إلا أتى به يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه لا يفكها إلا عدله فيوقف على جسر من النار ينتفض به ذلك الجسر انتفاضة تزيل كل عضو منه عن موضعه ثم يعاد فيحاسب فإن كان محسنا نجا بإحسانه وإن كان مسيئا انخرق به ذلك الجسر فيهوى به في النار سبعين خريفا حديث عبد الرحمن بن عمر أن عمر استعمل رجلا من الأنصار على الصدقة الحديث وفيه مرفوعا ما من وال يلي شيئا من أمور الناس إلا أتى الله يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا فيه من هذا الوجه ورواه الطبراني من رواية سويد بن عبد العزيز عن يسار بن أبي الحكم عن أبي وائل أن عمر استعمل بشر بن عاصم فذكر أخصر منه وأن بشرا سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم يذكر فيه سلمان فقال له عمر رضي الله عنه ممن سمعت هذا قال من أبي ذر وسلمان فأرسل إليهما عمر فسألهما فقالا نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر واعمراه من يتولاها بما فيها فقال أبو ذر رضي الله عنه من سلت الله أنفه وألصق خده بالأرض قال فأخذ المنديل فوضعه على وجهه ثم بكى وانتحب حتى أبكاني ثم قلت يا أمير المؤمنين قد سأل جدك العباس النبي صلى الله عليه وسلم إمارة مكة أو الطائف أو اليمن فقال له النبي صلى الله عليه وسلم يا عباس يا عم النبي نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها حديث يا عباس يا عم النبي نفس تنجيها خير من إمارة لا تحصيها أخرجه ابن أبي الدنيا هكذا معضلا بغير إسناد ورواه البيهقي من حديث جابر متصلا ومن رواية ابن المنكدر مرسلا وقال هذا هو المحفوظ مرسلا نصيحة منه لعمه وشفقة عليه وأخبره أنه لا يغنى عنه من الله شيئا إذ أوحى الله إليه وأنذر عشيرتك الأقربين فقال يا عباس ويا صفية عمي النبي ويا فاطمة بنت محمد إني لست أغني عنكم من الله شيئا إن لي عملي ولكم عملكم حديث يا عباس ويا صفية ويا فاطمة لا أغني عنكم من الله شيئا لي عملي ولكم عملكم أخرجه ابن أبي الدنيا هكذا معضلا دون إسناد ورواه البخاري من حديث أبي هريرة متصلا دون قوله لي عملي ولكم عملكم وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لا يقيم أمر الناس إلا حصيف العقل أريب العقد لا يطلع منه على عورة ولا يخاف منه على حرة ولا تأخذه في الله لومة لائم وقال الأمراء أربعة فأمير قوي ظلف نفسه وعماله فذلك كالمجاهد في سبيل الله يد الله باسطة عليه بالرحمة وأمير فيه ضعف ظلف نفسه وأرتع عماله لضعفه فهو على شفا هلاك إلا أن يرحمه الله وأمير ظلف عماله وأرتع نفسه فذلك الحطمة الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم شر الرعاة الحطمة فهو الهالك وحده حديث شر الرعاة الحطمة رواه مسلم من حديث عائذ بن عمرو المزني متصلا وهو عند ابن أبي الدنيا عن الأوزاعي معضلا كما ذكره المصنف وأمير أرتع نفسه وعماله فهلكوا جميعا وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن جبرائيل عليه السلام أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتيتك حين أمر الله بمنافخ النار فوضعت على النار تسعر ليوم القيامة فقال له يا جبريل صف لي النار فقال إن الله تعالى أمر بها فأوقد عليها ألف عام حتى احمرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اصفرت ثم أوقد عليها ألف عام حتى اسودت فهي سوداء مظلمة لا يضيء جمرها ولا يطفأ لهبها والذي بعثك بالحق لو أن ثوبا من ثياب أهل النار أظهر لأهل الأرض لماتوا جميعا ولو أن ذنوبا من شرابها صب في مياه الأرض جميعا لقتل من ذاقه ولو أن ذراعا من السلسلة التي ذكرها الله وضع على جبال الأرض جميعا لذابت وما استقلت ولو أن رجلا أدخل النار ثم أخرج منها لمات أهل الأرض من نتن ريحه وتشويه خلقه وعظمه فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى جبريل عليه السلام لبكائه فقال أتبكي يا محمد وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال أفلا أكون عبدا شكورا ولم بكيت يا جبريل وأنت الروح الأمين أمين الله على وحيه قال أخاف أن أبتلي بما ابتلي به هاروت وماروت فهو الذي منعني من اتكالي على منزلتي عند ربي فأكون قد أمنت مكره فلم يزالا يبكيان حتى نوديا من السماء يا جبريل ويا محمد إن الله قد آمنكما أن تعصياه فيعذبكما وفضل محمد على سائر الأنبياء كفضل جبريل على سائر الملائكة حديث بلغني أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أتيتك حين أمر الله بمنافيخ النار وضعت على النار تسعر ليوم القيامة الحديث بطوله أخرجه ابن أبي الدنيا فيه هكذا معضلا بغير إسناد وقد بلغني يا أمير المؤمنين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال اللهم إن كنت تعلم أني أبالي إذا قعد الخصمان بين يدي على من مال الحق من قريب أو بعيد فلا تمهلني طرفة عين يا أمير المؤمنين إن أشد الشدة القيام لله بحقه وإن أكرم الكرم عند الله التقوى وأنه من طلب العز بطاعة الله رفعه الله وأعزه ومن طلبه بمعصية الله أذله الله ووضعه فهذه نصيحتي إليك والسلام عليك ثم نهضت فقال لي إلى أين فقلت إلى الولد والوطن بإذن أمير المؤمنين إن شاء الله فقال قد أذنت لك وشكرت لك نصيحتك وقبلتها والله الموفق للخير والمعين عليه وبه أستعين وعليه أتوكل وهو حسبي ونعم الوكيل فلا تخلني من مطالعتك إياي بمثل هذا فإنك المقبول القول غير المتهم في النصيحة قلت أفعل إن شاء الله قال محمد بن مصعب فأمر له بمال يستعين به على خروجه فلم يقبله وقال أنا في غنى عنه وما كنت لأبيع نصيحتي بعرض من الدنيا وعرف المنصور مذهبه فلم يجد عليه في ذلك وعن ابن المهاجر قال قدم أمير المؤمنين المنصور مكة شرفها الله حاجا فكان يخرج من دار الندوة إلى الطواف في آخر الليل يطوف ويصلي ولا يعلم به فإذا طلع الفجر رجع إلى دار الندوة وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فيصلى بالناس فخرج ذات ليلة حين أسحر فبينا هو يطوف إذ سمع رجلا عند الملتزم وهو يقول اللهم إني أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الظلم والطمع فأسرع المنصور في مشيه حتى ملأ مسامعه من قوله ثم خرج فجلس ناحية من المسجد وأرسل إليه فدعاه فأتاه الرسول وقال له أجب أمير المؤمنين فصلى ركعتين واستلم الركن وأقبل مع الرسول فسلم عليه فقال له المنصور ما هذا الذي سمعتك تقوله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع والظلم فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني وأقلقني فقال يا أمير المؤمنين إن أمنتني على نفسي أنبأتك بالأمور من أصولها وإلا اقتصرت على نفسي ففيها لي شغل شاغل فقال له أنت آمن على نفسك فقال الذي دخله الطمع حتى حال بينه وبين الحق وإصلاح ما ظهر من البغي والفساد في الأرض أنت فقال ويحك وكيف يدخلني الطمع والصفراء والبيضاء في يدي والحلو والحامض في قبضتي قال وهل دخل أحدا من الطمع ما دخلك يا أمير المؤمنين إن الله تعالى استرعاك أمور المسلمين وأموالهم فأغفلت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم وجعلت بينك وبينهم حجابا من الجص والآجر وأبوابا من الحديد وحجبة معهم السلاح ثم سجنت نفسك فيها منهم وبعثت عمالك في جمع الأموال وجبايتها واتخذت وزراء وأعوانا ظلمة إن نسيت لم يذكروك وإن ذكرت لم يعينوك وقويتهم على ظلم الناس بالأموال والكراع والسلاح وأمرت بأن لا يدخل عليك من الناس إلا فلان وفلان نفر سميتهم ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الملهوف ولا الجائع ولا العاري ولا الضعيف ولا الفقير ولا أحد إلا وله في هذا المال حق فلما رآك هؤلاء النفر الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك وأمرت أن لا يحجبوا عنك تجبى الأموال ولا تقسمها قالوا هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه وقد سخر لنا فائتمروا على أن لا يصل إليك من علم أخبار الناس شيء إلا ما أرادوا وأن لا يخرج لك عامل فيخالف لهم أمرا إلا أقصوه حتى تسقط منزلته ويصغر قدره فلما انتشر ذلك عنك وعنهم أعظمهم الناس وهابوهم وكان أول من صانعهم عمالك بالهدايا والأموال ليتقووا بهم على ظلم رعيتك ثم فعل ذلك ذوو القدرة والثروة من رعيتك لينالوا ظلم من دونهم من الرعية فامتلأت بلاد الله بالطمع بغيا وفسادا وصار هؤلاء القوم شركاءك في سلطانك وأنت غافل فإن جاء متظلم حيل بينه وبين الدخول إليك وإن أراد رفع صوته أو قصته إليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك ووقفت للناس رجلا ينظر في مظالمهم فإن جاء ذلك الرجل فبلغ بطانتك سألوا صاحب المظالم أن لا يرفع مظلمته وإن كانت للمتظلم به حرمة وإجابة لم يمكنه مما يريد خوفا منهم فلا يزال المظلوم يختلف إليه ويلوذ به ويشكو ويستغيث وهو يدفعه ويعتل عليه فإذا جهد وأخرج وظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا ليكون نكالا لغيره وأنت تنظر ولا تنكر ولا تغير فما بقاء الإسلام وأهله على هذا ولقد كانت بنو أمية وكانت العرب لا ينتهي إليهم المظلوم إلا رفعت ظلامته إليهم فينصف ولقد كان الرجل يأتي من أقصى البلاد حتى يبلغ باب سلطانهم فينادي يا أهل الإسلام فيبتدرونه مالك مالك فيرفعون مظلمته إلى سلطانهم فينتصف ولقد كنت يا أمير المؤمنين أسافر إلى أرض الصين وبها ملك فقدمتها مرة وقد ذهب سمع ملكهم فجعل يبكي فقال له وزراؤه مالك تبكي لا بكت عيناك فقال أما إني لست أبكي على المصيبة التي نزلت بي ولكن أبكي لمظلوم يصرخ بالباب فلا أسمع صوته ثم قال أما إن كان قد ذهب سمعي فإن بصري لم يذهب نادوا في الناس ألا لا يلبس ثوبا أحمر إلا مظلوم فكان يركب الفيل ويطوف طرفي النهار هل يرى مظلوما فينصفه هذا يا أمير المؤمنين مشرك بالله قد غلبت رأفته بالمشركين ورقته على شح نفسه في ملكه وأنت مؤمن بالله وابن عم نبي الله لا تغلبك رأفتك بالمسلمين ورقتك على شح نفسك فإنك لا تجمع الأموال إلا لواحد من ثلاثة إن قلت اجمعها لولدي فقد أراك الله عبرا في الطفل الصغير يسقط من بطن أمه وماله على الأرض مال وما من مال إلا ودونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله تعالى يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس إليه ولست الذي تعطي بل الله يعطي من يشاء وإن قلت أجمع المال لأشيد سلطاني فقد أراك الله عبرا فيمن كان قبلك ما أغنى عنهم ما جمعوه من الذهب والفضة وما أعدوا من الرجال والسلاح والكراع وما ضرك وولد أبيك ما كنتم فيه من قلة الجدة والضعف حين أراد الله بكم ما أراد وإن قلت أجمع المال لطلب غاية هي أجسم من الغاية التي أنت فهيا فوالله ما فوق ما أنت فيه إلا منزلة لا تدرك إلا بالعمل الصالح يا أمير المؤمنين هل تعاقب من عصاك من رعيتك بأشد من القتل قال لا قال فكيف تصنع بالملك الذي خولك الله وما أنت عليه من ملك الدنيا وهو تعالى لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن يعاقب من عصاه بالخلود في العذاب الأليم وهو الذي يرى منك ما عقد عليه قلبك وأضمرته جوارحك فماذا تقول إذا انتزع الملك الحق المبين ملك الدنيا من يدك ودعاك إلى الحساب هل يغني عنك عنده شيء مما كنت فيه مما شححت عليه من ملك الدنيا فبكى المنصور بكاء شديدا حتى نحب وارتفع صوته ثم قال يا ليتني لم أخلق ولم أك شيئا ثم قال كيف احتيالي فيما خولت فيه ولم أر من الناس إلا خائنا قال يا أمير المؤمنين عليك بالإئمة الأعلام المرشدين قال ومن هم قال العلماء قال قد فروا مني قال هربوا منك مخافة أن تحملهم على ما ظهر من طريقتك من قبل عمالك ولكن افتح الأبواب وسهل الحجاب وانتصر للمظلوم من الظالم وامنع المظالم وخذ الشيء مما حل وطاب واقسمه بالحق والعدل وأنا ضامن على أن من هرب منك أن يأتيك فيعاونك على صلاح أمرك ورعيتك فقال المنصور اللهم وفقني أن أعمل بما قال هذا الرجل وجاء المؤذنون فسلموا عليه وأقيمت الصلاة فخرج فصلى بهم ثم قال للحرسى عليك بالرجل إن لم تأتني به لأضربن عنقك واغتاظ عليه غيظا شديدا فخرج الحرسى يطلب الرجل فبينا هو يطوف فإذا هو بالرجل يصلي في بعض الشعاب فقعد حتى صلى ثم قال يا ذا الرجل أما تتقي الله قال بلى قال أما تعرفه قال بلى قال فانطلق معي إلى الأمير فقد آلى أن يقتلني إن لم آته بك قال ليس لي إلى ذلك من سبيل قال يقتلني قال لا قال كيف قال تحسن تقرأ قال لا فأخرج من مزود كان معه رقا مكتوبا فيه شيء فقال خذه فاجعله في جيبك فإن فيه دعاء الفرج قال وما دعاء الفرج قال لا يرزقه إلا الشهداء قلت رحمك الله قد أحسنت إلي فإن رأيت أن تخبرني ما هذا الدعاء وما فضله قال من دعا به مساء وصباحا هدمت ذنوبه ودام سروره ومحيت خطاياه واستجيب دعاؤه وبسط له رزقه وأعطى أمله وأعين على عدوه وكتب عند الله صديقا ولا يموت إلا شهيدا تقول اللهم كما لطفت في عظمتك دون اللطفاء وعلوت بعظمتك على العظماء وعلمت ما تحت أرضك كعلمك بما فوق عرشك وكان وساوس الصدور كالعلانية عندك وعلانية القول كالسر في علمك وانقاد كل شيء لعظمتك وخضع كل ذي سلطان لسلطانك وصار أمر الدنيا والآخرة كله بيدك اجعل لي من كل هم أمسيت فيه فرجا ومخرجا اللهم إن عفوك عن ذنوبي وتجاوزك عن خطيئتي وسترك على قبيح عملي أطمعني أن أسألك مالا أستوجبه مما قصرت فيه أدعوك آمنا وأسألك مستأنسا وإنك المحسن إلى وأنا المسيء إلى نفسي فيما بيني وبينك تتودد إلى بنعمك وأتبغض إليك بالمعاصي ولكن الثقة بك حملتني على الجراءة عليك فعد بفضلك وإحسانك على إنك أنت التواب الرحيم قال فأخذته فصيرته في جيبي ثم لم يكن لي هم غير أمير المؤمنين فدخلت فسلمت عليه فرفع رأسه فنظر إلي وتبسم ثم قال ويلك وتحسن السحر فقلت لا والله يا أمير المؤمنين ثم قصصت عليه أمري مع الشيخ فقال هات الرق الذي أعطاك ثم جعل يبكي وقال وقد نجوت وأمر بنسخه وأعطاني عشرة آلاف ثم قال أتعرفه قلت لا قال ذلك الخضر عليه السلام وعن أبي عمران الجوني قال لما ولى هارون الرشيد الخلافة زاره العلماء فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتقشف وكان مؤاخيا لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديما فهجره سفيان ولم يزره فاشتاق هرون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه فاشتد ذلك على هرون فكتب إليه كتابا يقول فيه بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هرون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر أما بعد يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني وقد كتبت لك كتابا شوقا مني إليك شديدا وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته فإذا ورد عليه كتابي فالعجل العجل فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون سفيان الثوري وخشونته فقال على برجل من الباب فأدخل عليه رجل يقال له عباد الطالقاني فقال يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور ثم سل عن سفيان الثوري فإذا رأيته فالق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان فقيل له هو في المسجد قال عباد فأقبلت إلى المسجد فلما رآني قام قائما وقال أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير قال عباد فوقعت الكلمة في قلبي فجرحت فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رءوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلى رأسه وردوا السلام على برءوس الأصابع فبقيت واقفا فما منهم أحد يعرض على الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال يأخذه بعضكم يقرؤه فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده قال عباد فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فقيل له يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي فقال اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزي به وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلي به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا فيفسد علينا ديننا فقيل له ما نكتب فقال اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم من العبد المذنب سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هرون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان أما بعد فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدا بين يدي الله تعالى يا هرون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام أم هل رضى بذلك خلق من رعيتك فشد يا هرون مئزرك وأعد للمسألة جوابا وللبلاء جلبابا واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ورضيت لنفسك أن تكون ظالما وللظالمين إماما يا هرون قعدت على السرير ولبست الحرير واسبلت سترا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك يظلمون الناس ولا ينصفون يشربون الخمور ويضربون من يشربها ويزنون ويحدون الزاني ويسرقون ويقطعون السارق أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس فكيف بك يا هرون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى احشرو الذين ظلموا وأزواجهم أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار كأني بك يا هرون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية فاتق الله يا هرون في رعيتك واحفظ محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته وأحسن الخلافة عليهم وأعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحد بعد واحد فمنهم من تزود زادا نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته وإني أحسبك يا هرون ممن خسر دنياه وآخرته فإياك إياك أن تكتب لي كتابا بعد هذا فلا أجيبك عنه والسلام قال عباد فألقى إلي الكتاب منشورا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة وقد وقعت الموعظة من قلبي فناديت يا أهل الكوفة فأجابوني فقلت لهم يا قوم من يشتري رجلا هرب من الله إلى الله فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم فقلت لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية قال فأتيت بذلك ونزعت ما كان على من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هرون حافيا راجلا فهزأ بي من كان على باب الخليفة ثم استؤذن لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائما وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ويقول انتفع الرسول وخاب المرسل مالي وللدنيا ولملك يزول عني سريعا ثم ألقيت الكتاب إليه منشورا كما دفع إلي فأقبل هرون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق فقال بعض جلسائه يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن وكنت تجعله عبرة لغيره فقال هرون اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هرون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفى رحمه الله فرحم الله عبدا نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غدا من عمله فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق وعن عبد الله بن مهران قال حج الرشيد فوافى الكوفة فأقام بها أياما ثم ضرب بالرحيل فخرج الناس وخرج بهلول المجنون فيمن خرج بالكناسة والصبيان يؤذونه ويولعون به إذ أقبلت هوادج هرون فكف الصبيان عن الولوع به فلما جاء هرون نادى بأعلى صوته يا أمير المؤمنين فكشف هرون السجاف بيده عن وجهه فقال لبيك يا بهلول فقال يا أمير المؤمنين حدثنا أيمن بن نائل عن قدامة بن عبد الله العامري قال رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفا من عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا إليك إليك حديث قدامة بن عبد الله العامري رأيت النبي صلى الله عليه وسلم منصرفا عن عرفة على ناقة له صهباء لا ضرب ولا طرد ولا أليك إليك أخرجه الترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه دون قوله منصرفا من عرفة وإنما قالوا يرمى الجمرة وهو الصواب وقد تقدم في الباب الثاني وتواضعك في سفرك هذا يا أمير المؤمنين خير لك من تكبرك وتجبرك قال فبكى هرون حتى سقطت دموعه على الأرض ثم قال يا بهلول زدنا رحمك الله قال نعم يا أمير المؤمنين رجل آتاه الله مالا وجمالا فأنفق من ماله وعف في جماله كتب في خالص ديوان الله تعالى مع الأبرار قال أحسنت يا بهلول ودفع له جائزة فقال اردد الجائزة إلى من أخذتها منه فلا حاجة لي فيها قال يا بهلول فإن كان عليك دين قضيناه قال يا أمير المؤمنين هؤلاء أهل العلم بالكوفة متوافرون قد اجتمعت آراؤهم أن قضاء الدين بالدين لا يجوز قال يا بهلول فنجرى عليك ما يقوتك أو يقيمك قال فرفع بهلول رأسه إلى السماء ثم قال يا أمير المؤمنين أنا وأنت من عيال الله فمحال أن يذكرك وينساني قال فأسبل هرون السجاف ومضى وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال دخلت على الحرث المحاسبي رحمه الله فقلت له يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك فقال كان هذا مرة قلت له فاليوم قال أكاتم حالي إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأحتن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فيها فرح ما أعلنت بها ولقد كنت ليلة قاعدا في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم على ثم قعد بين يدي فقلت له من أنت فقال أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهادا فأي شيء عملك قال قلت له كتمان المصائب واستجلاب الفوائد قال فصاح وقال ما علمت أن أحدا بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته قال الحرث فأردت أن أزيد عليه فقلت له أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم قال فصاح صيحة غشى عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه فعلمت إزالة عقله فأخرجت له ثوبا جديدا وقلت له هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج فقلت له أين تريد فقال لي قم معي فلم يزل يمشي حتى دخل على المأمون فسلم عليه وقال يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم استغفر الله من تقصيري فيك أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب فأقبل عليه المأمون وقال من أنت قال أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظا فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم قال فأمر بضرب عنقه فأخرج وأنا قاعد على الباب ملفوفا في ذلك الثوب ومناد ينادي من ولي هذا فليأخذ قال الحرث فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله فأقمت في مسجد بالمقابر محزونا على الفتى فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن وهو يقول يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم قلت وما فعلوا قال الساعة يلقونك فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت من أنتم قالوا الكاتمون أحوالهم حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده وعن أحمد بن إبراهيم المقرى قال كان أبو الحسين النوري رجلا قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه وكان إذا رأى منكرا غيره ولو كان فيه تلفه فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقا فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار لطف فقرأه وأنكره لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئا يعبر عنه بلطف فقال للملاح إيش في هذه الدنان قال وإيش عليك امض في شغلك فلما سمع النوري من الملاح هذا القول ازداد تعطشا إلى معرفته فقال أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان قال وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد يريد أن يتمم به مجلسه فقال النوري وهذا خمر قال نعم فقال أحب أن نعطيني ذلك المدري فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه أعطه حتى أنظر ما يصنع فلما صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على آخرها إلا دنا واحدا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ ابن بشر أفلح فقبض على النوري وأشخصه إلى حضرة المعتضد وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله قال أبو الحسين فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال من أنت قلت محتسب قال ومن ولاك الحسبة قلت الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين قال فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال ما الذي حملك على ما صنعت فقلت شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه قال فأطرق مفكرا في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان فقلت في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن فقال هات خبرني فقلت يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن فاستشعرت نفسي كبرا على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال فقال المعتضد اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر قال أبو الحسين فقلت يا أمير المؤمنين بغض إلى التغيير لأني كنت أغير عن وأنا الآن أغير عن شرطي فقال المعتضد ما حاجتك فقلت يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالما فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفا من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد فهذه كانت سيرة العلماء وعادتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقلة مبالاتهم بسطوة السلاطين لكونهم اتكلوا على فضل الله تعالى أن يحرسهم ورضوا بحكم الله تعالى أن يرزقهم الشهادة فلما أخلصوا لله النية أثر كلامهم في القلوب القاسية فلينها وأزال قساوتها وأما الآن فقد قيدت الأطماع ألسن العلماء فسكتوا وإن تكلموا لم تساعد أقوالهم أحوالهم فلم ينجحوا ولو صدقوا وقصدوا حق العلم لأفلحوا ففساد الرعايا بفساد الملوك وفساد الملوك بفساد العلماء وفساد العلماء بإستيلاء حب المال والجاه ومن استولى عليه حب الدنيا لم يقدر على الحسبة على الأراذل فكيف على الملوك والأكابر والله المستعان على كل حال تم كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحمد الله وعونه وحسن توفيقه.