كتاب المراقبة والمحاسبة

Iḥyāʾ ʿUlūm Al-Dīn

وهو الكتاب الثامن من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت الرقيب على كل جارحة بما اجترحت المطلع على ضمائر القلوب إذا هجست الحسيب على خواطر عباده إذا اختلجت الذى لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات والأرض تحركت أو سكنت المحاسب على النقير والقطمير والقليل والكثير من الأعمال وإن خفيت المتفضل بقبول طاعات العباد وان صغرت المتطول بالعفو عن من معاصيهم وإن كثرت وإنما يحاسبهم لتعلم كل نفس ما أحضرت وتنظر فيما قدمت وأخرت فتعلم انه لولا لزومها للمراقبة والمحاسبة في الدنيا لشفيت في صعيد القيامة وهلكت وبعد المجاهدة والمحاسبة والمراقبة لولا فضله بقبول بضاعتها المزجاة لخابت وخسرت فسبحان من عمت نعمته كافة العباد وشملت واستغرقت رحمته الخلائق في الدنيا والآخرة وغمرت فبنفحات فضله اتسعت القلوب للإيمان وانشرحت وبيمن توفيقه تقيدت الجوارح بالعبادات وتأدبت وبحسن هدايته انجلت عن القلوب ظلمات الجهل وانقشعت وبتأييده ونصرته انقطعت مكايد الشيطان واندفعت وبلطف عنايته تترجح كفة الحسنات إذا ثقلت وبتيسيره تيسرت من الطاعات ما تيسرت فمنه العطاء والجزاء والإبعاد والإدناء والإسعاد والإشقاء والصلاة والسلام علي محمد سيد الأنبياء وعلى اله سادة الأصفياء وعلى أصحابه قادة الأتقياء أما بعد فقد قال الله تعالى ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وان كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين وقال تعالى ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة الا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا وقال تعالى يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا أحصاه الله ونسوه والله على كل شىء شهيد وقال تعالى يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره وقال تعالى ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وقال تعالى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه وقال تعالى واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه فعرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله تعالى لهم بالمرصاد وأنهم سيناقشون في الحساب ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات وتحققوا أنه لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ومحاسبتها في الخطرات واللحظات فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه وحضر عند السؤال جوابه وحسن منقلبه ومآبه ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته وقادته إلى الخزى والمقت سيئاته فلما انكشف لهم ذلك علموا أنه لا ينجيهم منه إلا طاعة الله وقد أمرهم بالصبر والمرابطة فقال عز من قائل يا أيها الذين آمنو اصبروا وصابروا ورابطوا فرابطوا أنفسهم أولا بالمشارطة ثم بالمراقبة ثم بالمحاسبة ثم بالمعاقبة ثم بالمجاهدة ثم بالمعاتبة فكانت لهم في المرابطة ست مقامات ولا بد من شرحها وبيان حقيقتها وفضيلتها وتفصيل الأعمال فيها وأصل ذلك المحاسبة ولكن كل حساب فبعد مشارطة ومراقبة ويتبعه عند الخسران المعاتبة والمعاقبة فلنذكر شرح هذه المقامات وبالله التوفيق.

المقام الاول من المرابطة: المشارطة

اعلم أن مطالب المتعاملين في التجارات المشتركين في البضائع عند المحاسبة سلامة الربح وكما أن التاجر يستعين بشريكه فيسلم إليه المال حتى يتجر ثم يحاسبه فكذلك العقل هو التاجر في طريق الآخرة وإنما مطالبة وربحه تزكية النفس لأن بذلك فلاحها قال الله تعالى قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها وإنما فلاحها بالأعمال الصالحة والعقل يستعين بالنفس في هذه التجارة إذ يستعملها ويستسخرها فيما يزكيها كما يستعين التاجر بشريكه وغلامه الذي يتجر في ماله وكما أن الشريك يصير خصما منازعا يجاذبه في الربح فيحتاج إلى أن يشارطه أولا ويراقبه ثانيا ويحاسبه ثالثا ويعاقبه أو يعاتبه رابعا فكذلك العقل يحتاج إلى مشارطة النفس أولا فيوظف عليها الوظائف ويشرط عليها الشروط ويرشدها إلى طريق الفلاح ويحزم عليها الأمر بسلوك تلك الطرق ثم لا يغفل عن مراقبتها لحظة فإنه لو أهملها لم ير منها إلا الخيانة وتضييع رأس المال كالعبد الخائن إذا خلا له الجو وانفرد بالمال ثم بعد الفراغ ينبغي أن يحاسبها ويطالبها بالوفاء بما شرط عليها فإن هذه تجارة ربحها الفردوس الأعلى وبلوغ سدرة المنتهى مع الأنبياء والشهداء فتدقيق الحساب في هذا مع النفس أهم كثيرا من تدقيقه في أرباح الدنيا مع أنها محتقرة بالإضافة إلى نعيم العقبى ثم كيفما كانت فمصيرها إلى التصرم والانقضاء ولا خير في خير لا يدوم بل شر لا يدوم خير من خير لا يدوم لأن الشر الذي لا يدوم إذا انقطع بقى الفرح بانقطاعه دائما وقد انقضى الشر والخير الذي لا يدوم يبقى الأسف على انقطاعه دائما وقد انقضى الخير ولذلك قيل أشد الغم عندي في سرور تيقن عنه صاحبه انتقالا فختم على كل ذى حزم آمن بالله واليوم الآخر أن لا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها فإن كل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة لا عوض لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز لا يتناهى نعيمه أبد الآباد فانقباض هذه الأنفاس ضائعة أو مصروفة إلى ما يجلب الهلاك خسران عظيم هائل لا تسمح به نفس عاقل فإذا أصبح العبد وفرغ من فريضة الصبح ينبغى أن يفرغ قلبه ساعة لمشارطه النفس كما أن التاجر عند تسليم البضاعة إلى الشريك العامل يفرغ المجلس لمشارطته فيقول للنفس ما لي بضاعة إلا العمر ومهما فني فقد فنى رأس المال ووقع اليأس عن التجارة وطلب الربح وهذا اليوم الجديد قد أمهلني الله فيه وأنسأ في أجلى وأنعم على به ولو توفانى لكنت أتمنى أن يرجعنى إلى الدنيا يوما واحدا حتى أعمل فيه صالحا فاحسبي أنك قد توفيت ثم قد رددت فإياك ثم إياك أن تضيعي هذا اليوم فإن كل نفس من الأنفاس جوهرة لا قيمة لها وأعلمي يا نفس أن اليوم والليلة أربع وعشرون ساعة وقد ورد في الخبر أنه ينشر للعبد بكل يوم وليلة أربع وعشرون خزانة مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة نورا من حسناته التي عملها في تلك الساعة فيناله من الفرح والسرور والاستبشار بمشاهدة تلك الأنوار التي هي وسيلته عند الملك الجبار ما لو وزع على أهل النار لأدهشهم ذلك الفرح عن الإحساس بألم النار ويفتح له خزانة أخرى سوداء مظلمة يفوح منها نتنها ويغشاه ظلامها وهي الساعة التي عصى فيها فيناله من الهول والفزع ما لو قسم على أهل الجنة لتنغص عليهم نعيمها ويفتح له خزانة أخرى فارغة ليس فيها ما يسره ولا ما يسؤه حديث ينشر للعبد كل يوم وليلة أربع وعشرون خزانه مصفوفة فيفتح له منها خزانة فيراها مملوءة من حسناته الحديث بطوله لم أجد له أصلا وهي الساعة التي نام فيها أو غفل أو اشتغل بشيء من مباحات الدنيا فيتحسر على خلوها ويناله من غبن ذلك ما ينال القادر على الربح الكثير والملك الكبير إذا أهمله وتساهل فيه حتى فاته وناهيك به حسرة وغبنا وهكذا تعرض عليه خزائن أوقاته طول عمره فيقول لنفسه اجتهدى اليوم في أن تعمرى خزانتك ولا تدعيها فارغة عن كنوزك التي هي أسباب ملكك ولا تميلى إلى الكسل والدعه والاستراحة فيفوتك من درجات عليين ما يدركه غيرك وتبقى عندك حسرة لا تفارقك وإن دخلت الجنة فألم الغبن وحسرته لا يطاق وإن كان دون ألم النار وقد قال بعضهم هب أن المسىء قد عفى عنه أليس قد فاته ثواب المحسنين أشار به إلى الغبن والحسرة وقال الله تعالى يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن فهذه وصيته لنفسه في أوقاته ثم ليستأنف لها وصية في أعضائه السبعة وهي العين والأذن واللسان والبطن والفرج واليد والرجل وتسليمها إليها فإنها رعايا خادمة لنفسه في هذه التجارة وبها تتم أعمال هذه التجارة وإن لجهنم سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم وإنما تتعين تلك الأبواب لمن عصى الله تعالى بهذه الأعضاء فيوصيها بحفظها عن معاصيها أما العين فيحفظها عن النظر إلى وجه من ليس له بمحرم أو إلى عورة مسلم أو النظر إلى مسلم بعين الاحتقار بل عن كل فضول مستغنى عنه فإن الله تعالى يسأل عبده عن فضول النظر كما يسأله عن فضول الكلام ثم إذا صرفها عن هذا لم تقنع به حتى يشغلها بما فيه تجارتها وربحها وهو ما خلقت له من النظر إلى عجائب صنع الله بعين الاعتبار والنظر إلى أعمال الخير للاقتداء والنظر في كتاب الله وسنة رسوله ومطالعة كتب الحكمة للاتعاظ والاستفادة وهكذا ينبغى أن يفصل الأمر عليها في عضو عضو لا سيما اللسان والبطن أما اللسان فلأنه منطلق بالطبع ولا مؤنة عليه في الحركة وجنايته عظيمة بالغيبة والكذب والنميمة وتزكية النفس ومذمة الخلق والأطعمة واللعن والدعاء على الأعداء والمماراة في الكلام وغير ذلك مما ذكرناه في كتاب آفات اللسان فهو بصدد ذلك كله مع أنه خلق للذكر والتذكير وتكرار العلم والتعليم وإرشاد عباد الله إلى طريق الله وإصلاح ذات البين وسائر خيراته فليشترط على نفسه أن لا يحرك اللسان طول النهار إلا في الذكر فنطق المؤمن ذكر ونظره وعبرة وصمته فكرة و ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد وأما البطن فيكلفه ترك الشره وتقليل الأكل من الحلال واجتناب الشبهات ويمنعه من الشهوات ويقتصر على قدر الضرورة ويشرط على نفسه أنها إن خالفت شيئا من ذلك عاقبها بالمنع عن شهوات البطن ليفوتها أكثر مما نالته بشهواتها هكذا يشرط عليها في جميع الأعضاء واستقصاء ذلك يطول ولا تخفى معاصى الأعضاء وطاعاتها ثم يستأنف وصيتها في وظائف الطاعات التي تتكرر عليه في اليوم والليلة ثم النوافل التي يقدر عليها ويقدر على الاستكثار منها ويرتب لها تفصيلها وكيفيتها وكيفية الاستعداد لها بأسبابها وهذه شروط يفتقر إليها في كل يوم ولكن إذا تعود الإنسان شرط ذلك على نفسه أياما وطاوعته نفسه في الوفاء بجميعها استغنى عن المشارطة فيها وإن أطاعت في بعضها بقيت الحاجة إلى تجديد المشارطة فيما بقى ولكن لا يخلو كل يوم عن مهم جديد وواقعة حادثة لها حكم جديد ولله عليه في ذلك حق ويكثر هذا على من يشتغل بشيء من أعمال الدنيا من ولاية أو تجارة أو تدريس إذ قلما يخلو يوم عن واقعة جديدة يحتاج إلى أن يقضى حق الله فيها فعليه أن يشترط على نفسه الاستقامة فيها والانقياد للحق في مجاريها ويحذرها مغبة الإهمال ويعظها كما يوعظ العبد الآبق المتمرد فإن النفس بالطبع متمردة عن الطاعات مستعصية عن العبودية ولكن الوعظ والتأديب يؤثر فيها وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين فهذا وما يجرى مجراه هو أول مقام المرابطة مع النفس وهي محاسبة قبل العمل والمحاسبة تارة تكون بعد العمل وتارة قبله للتحذير قال الله تعالى واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه وهذا للمستقبل وكل نظر في كثرة ومقدار لمعرفة زيادة ونقصان فإنه يسمى محاسبة فالنظر فيما بين يدي العبد في نهاره ليعرف زيادته من نقصانه من المحاسبة وقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا وقال تعالى يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا وقال تعالى ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ماتوسوس به نفسه ذكر ذلك تحذيرا وتنبيها للاحتراز منه في المستقبل وروى عبادة بن الصامت أنه عليه السلام قال لرجل سأله أن يوصيه ويعظه إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه وإن كان غيا فانته عنه حديث عبادة بن الصامت إذا أردت أمرا فتدبر عاقبته الحديث تقدم وقال بعض الحكماء إذا أردت أن يكون العقل غالبا للهوى فلا تعمل بقضاءالشهوة حتى تنظر العاقبة فإن مكث الندامة في القلب أكثر من مكث خفة الشهوة وقال لقمان إن المؤمن إذا أبصر العاقبة أمن الندامة وروى شداد بن أوس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله حديث الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت الحديث تقدم دان نفسه أي حاسبها ويوم الدين يوم الحساب وقوله أئنا لمدينون أي لمحاسبون وقال عمر رضى الله عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وتهيئوا للعرض الأكبر وكتب إلى أبى موسى الأشعري حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة وقال لكعب كيف تجدها في كتاب الله قال ويل لديان الأرض من ديان السماء فعلاه بالدرة وقال إلا من حاسب نفسه فقال كعب ياأمير المؤمنين إنها إلى جنبها في التوراة ما بينهما حرف إلا من حاسب نفسه وهذا كله إشارة إلى المحاسبة للمستقبل إذ قال من دان نفسه يعمل لما بعد الموت ومعناه وزن الأمور أولا وقدرها ونظر فيها وتدبرها ثم أقدم عليها فباشرها المرابطة الثانية: المراقبة إذا أوصى الإنسان نفسه وشرط عليها ما ذكرناه فلا يبقى إلا المراقبة لها عند الخوض في الأعمال وملاحظاتها بالعين الكالئة فإنها إن تركت طغت وفسدت ولنذكر فضيلة المراقبة ثم درجاتها أما الفضيلة فقد سأل جبريل عليه السلام عن الإحسان فقال أن تعبد الله كأنك تراه حديث متفق عليه من حديث أبى هريرة ورواه مسلم من حديث عمر وقد تقدم وقال عليه السلام أعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك حديث اعبد الله كأنك تراه الحديث تقدم وقد قال تعالى أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت وقال تعالى ألم يعلم بأن الله يرى وقال الله تعالى إن الله كان عليكم رقيبا وقال تعالى والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون والذين هم بشهاداتهم قائمون وقال ابن المبارك لرجل راقب الله تعالى فسأله عن تفسيره فقال كن أبدا كأنك ترى الله عز وجل وقال عبد الواحد بن زيد إذا كان سيدي رقيبا على فلا أبالى بغيره وقال أبو عثمان المغربي أفضل ما يلزم الإنسان نفسه في هذه الطريقة المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم وقال ابن عطاء أفضل الطاعات مراقبة الحق على دوام الأوقات وقال الجريري أمرنا هذا مبنى على أصلين أن تلزم نفسك المراقبة لله عز وجل ويكون العلم على ظاهرك قائما وقال أبو عثمان قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظا لنفسك وقلبك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله رقيب على باطنك وحكى أنه كان لبعض المشايخ من هذه الطائفة تلميذ شاب وكان يكرمه ويقدمه فقال له بعض أصحابه كيف تكرم هذا وهو شاب ونحن شيوخ فدعا بعدة طيور وناول كل واحد منهم طائرا وسكينا وقال ليذبح كل واحد منكم طائره في موضع لا يراه أحد ودفع إلى الشاب مثل ذلك وقال له كما قال لهم فرجع كل واحد بطائره مذبوحا ورجع الشاب والطائر حي في يده فقال ما لك لم تذبح كما ذبح أصحابك فقال لم أجد موضعا لا يرانى فيه أحد إذ الله مطلع على فى كل مكان فاستحسنوا منه هذه المراقبة وقالوا حق لك أن تكرم وحكى أن زليخا لما همت بيوسف عليه السلام قامت فغطت وجه صنم كان لها فقال يوسف مالك أتستحيين من مراقبة جماد ولا أستحيى من مراقبة الملك الجبار وحكى عن بعض الأحداث أنه راود جارية عن نفسها فقالت له ألا تستحيى فقال ممن أستحيى وما يرانا إلا الكواكب قالت فأين مكوكبها وقال رجل للجنيد بم أستعين على غض البصر فقال بعلمك أن نظر الناظر إليك أسبق من نظرك إلى المنظور إليه وقال الجنيد إنما يتحقق بالمراقبة من يخاف على فوت حظه من ربه عز وجل وعن مالك بن دينار قال جنات عدن من جنات الفردوس وفيها حور خلقن من ورد الجنة قيل له ومن يسكنها قال يقول الله عز وجل وإنما يسكن جنات عدن الذين إذا هموا بالمعاصي ذكروا عظمتي فراقبوني والذين انثنت أصلابهم من خشيتي وعزتي وجلالى إنى لأهم بعذاب أهل الأرض فإذا نظرت إلى أهل الجوع والعطش من مخافتي صرفت عنهم العذاب وسئل المحاسبي عن المراقبة فقال أولها علم القلب بقرب الله تعالى وقال المرتعش المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة ويروى أن الله تعالى قال لملائكته أنتم موكلون بالظاهر وأنا الرقيب على الباطن وقال محمد بن علي الترمذي اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره إليك وأجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمة عنك وأجعل طاعتك لمن لا تستغنى عنه وأجعل خضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه وقال سهل لم يتزين القلب بشىء أفضل ولا أشرف من علم العبد بأن الله شاهدة حيث كان وسئل بعضهم عن قوله تعالى رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه فقال معناه ذلك لمن راقب ربه عز وجل وحاسب نفسه وتزود لمعاده وسئل ذو النون بم ينال العبد الجنة فقال بخمس استقامة ليس فيها روغان واجتهاد ليس معه سهوومراقبة الله تعالى في السر والعلانية وانتظار الموت بالتأهب له ومحاسبة نفسك قبل أن تحاسب وقد قيل إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب وأن غدا إذا للناظرين قريب وقال حميد الطويل لسليمان بن علي عظنى فقال لئن كنت إذا عصيت الله خاليا ظننت أنه يراك لقد اجترأت على أمر عظيم ولئن كنت تظن أنه لا يراك فلقد كفرت وقال سفيان الثورى عليك بالمراقبة ممن لا تخفى عليه خافية وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة وقال فرقد السنجى إن المنافق ينظر فإذا لم ير أحدا دخل مدخل السوء وإنما يراقب الناس ولا يراقب الله تعالى وقال عبد الله بن دينار خرجت مع عمر ابن الخطاب رضى الله عنه إلى مكة فعرسنا في بعض الطريق فانحدر عليه راع من الجبل فقال له يا راعى بعنى شاة من هذه الغنم فقال إنى مملوك فقال قل لسيدك أكلها الذئب قال فأين الله قال فبكى عمر رضى الله عنه ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه وقال أعتقتك في الدنيا هذه الكلمة وأرجو أن تعتقك في الآخرة.

بيان حقيقة المراقبة ودرجاتها

أعلم أن حقيقة المراقبة هي ملاحظة الرقيب والصراف الهم إليه فمن احترز من أمر من الأمور بسبب غيره يقال أنه يراقب فلانا ويراعى جانبه ويعنى بهذه المراقبة حالة للقلب يثمرها نوع من المعرفة وتثمر تلك الحالة أعمالا في الجوارح وفي القلب أما الحالة فهي مراعاة القلب للرقيب واشتغاله به والتفاته إليه وملاحظتهإياه وانصرافه إليه وأما المعرفة التي تثمر هذه الحالة فهو العلم بأن الله مطلع على الضمائر عالم بالسرائر رقيب على أعمال العباد قائم على كل نفس بما كسبت وأن سر القلب في حقه مكشوف كما أن ظاهر البشرة للخلق مكشوف بل اشد من ذلك فهذه المعرفة إذا صارت يقينا أعنى أنها خلت عن الشك ثم استولت بعد ذلك على القلب قهرته فرب علم لا شك فيه لا يغلب على القلب كالعلم بالموت فإذا استولت على القلب استجرت القلب إلى مراعاة جانب الرقيب وصرفت همه إليه والموقنون بهذه المعرفة هم المقربون وهم ينقسمون إلى الصديقين وإلى أصحاب اليمين فمراقبتهم على درجتين الدرجة الأولى مراقبة المقربين من الصديقين وهي مراقبة التعظيم والإجلال وهو أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال ومنكسرا تحت الهيبة فلا يبقى فيه متسع للالتفات إلى الغير أصلا وهذه مراقبة لا نطول النظر في تفصيل أعمالها فإنها مقصورة على القلب أما الجوارح فإنها تتعطل عن التلفت إلى المباحات فضلا عن المحظورات وإذا تحركت بالطاعات كانت كالمستعملة بها فلا تحتاج إلى تدبير وتثبيت في حفظها على سنن السداد بل يسدد الرعية من ملك كلبة الراعى والقلب هو الراعى فإذا صار مستغرقا بالمعبود صارت الجوارح مستعملة جارية على السداد والاستقامة من غير تكلف وهذا هو الذي صار همه هما واحدا فكفاه الله سائر الهموم ومن نال هذه الدرجة فقد يغفل عن الخلق حتى لا يبصر من يحضر عنده وهو فاتح عينيه ولا يسمع ما يقال له مع أنه لا صمم به وقد يمر على ابنه مثلا فلا يكلمه حتى كان بعضهم يجري عليه ذلك فقال لمن عاتبه إذا مررت بي فحركنى ولا تستبعد هذا فإنك تجد نظير هذا في القلوب المعظمة لملوك الأرض حتى إن خدم الملك قد لا يحسون بما يجري عليهم في مجالس الملوك لشدة استغراقهم بهم بل قد يشتغل القلب بمهم حقير من مهمات الدنيا فيغوص الرجل في الفكر فيه ويمشى فربما يجاوز الموضع الذي قصده وينسى الشغل الذي نهض له وقد قيل لعبد الواحد ابن زيد هل تعرف في زمانك هذا رجلا قد اشتغل بحاله عن الخلق فقال ما أعرف إلا رجلا سيدخل عليكم الساعة فما كان إلا سريعا حتى دخل عتبه الغلام فقال له عبد الواحد بن زيد من أين جئت يا عتبه فقال من موضع كذا وكان طريقه على السوق فقال من لقيت في الطريق فقال ما رأيت أحدا ويروى عن يحيى بن زكريا عليهما السلام أنه مر بامرأة فدفعها فسقطت على وجهها فقيل له لم فعلت هذا فقال ما ظننتها إلا جدارا وحكى عن بعضهم أنه قال مررت بجماعة يترامون وواحد جالس بعيدا منهم فتقدمت إليه فأردت أن أكلمه فقال ذكر الله تعالى أشهى فقلت وحدك فقال معي ربي وملكاي فقلت من سبق من هؤلاء فقال من غفر الله له فقلت أين الطريق فأشار نحو السماء وقام ومشى وقال أكثر خلقك شاغل عنك فهذا كلام مستغرق بمشاهدة الله تعالى لا يتكلم إلا منه ولا يسمع إلا فيه فهذا لا يحتاج إلى مراقبة لسانة وجوارحه فإنها لا تتحرك إلا بما هو فيه ودخل الشبلى على أبي الحسين النووي وهو معتكف فوجده ساكنا حسن الاجتماع لا يتحرك من ظاهرة شيء فقال له من أين أخذت هذه المراقبة والسكون فقال من سنور كانت لنا فكانت إذا أرادت الصيد رابطت رأس الحجر لا تتحرك لها شعرة وقال أبو عبد الله بن خفيف خرجت من مصر أريد الرملة للقاء أبي على الروذبارى فقال لي عيسى بن يونس المصري المعروف بالزاهد وأن في صور شابا وكهلا قد اجتمعا على حال المراقبة فلو نظرت إليهما نظرة لعلك تستفيد منهما فدخلت صورا وأنا جائع عطشان وفي وسطى خرقة وليس على كتفي شيء فدخلت المسجد فإذا بشخصين قاعدين مستقبلى القبلة فسلمت عليهما فما أجابانى فسلمت ثانية وثالثة فلم أسمع الجواب فقلت نشدتكما بالله إلا رددتما على السلام فرفع الشاب رأسه من مرقعته فنظر إلى وقال يا ابن خفيف الدنيا قليل ومابقى من القليل إلا القليل فخذ من القليل الكثير يا ابن خفيف ما أقل شغلك حتى تتفرغ إلى لقائنا قال فأخذ بكليتي ثم طأطأ رأسه في المكان فبقيت عندهما حتى صلينا الظهر والعصر فذهب جوعي وعطشي وعنائي فلما كان وقت العصر قلت عظنى فرفع رأسه إلى وقال يا ابن خفيف نحن أصحاب المصائب ليس لنا لسان العظة فبقيت عندهما ثلاثة أيام لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا رأيتهما أكلا شيئا ولا شربا فلما كان اليوم الثالث قلت في سري أحلفهما أن يعظاني لعلى أن أنتفع اضطرها فرفع الشاب رأسه وقال لي يا ابن خفيف عليك بصحبة من يذكرك الله رؤيته وتقع هيبته على قلبك يعظك بلسان فعله ولا يعظك بلسان قوله والسلام قم عنا فهذه درجة المراقبين الذين غلب على قلوبهم الإجلال والتعظيم فلم يبق فيهم متسع لغير ذلك الدرجة الثانية مراقبة الورعين من أصحاب اليمين وهم قوم غلب يقين اطلاع الله على ظاهرهم وباطنهم وعلى قلوبهم ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال إنها مع ممارسة الأعمال لا تخلو عن المراقبة نعم غلب عليهم الحياء من الله فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه ويمتنعون عن كل ما يفتضحون به في القيامة فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعا عليهم فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة وتعرف اختلاف الدرجتين بالمشاهدات فإنك في خلوتك قد تتعاطى أعمالا فيحضرك صبي أو امرأة فتعلم أنه مطلع عليك فتستحيى منه فتحسن جلوسك وتراعى أحوالك لا عن إجلال وتعظيم بل عن حياء فإن مشاهدته وإن كانت لا تدهشك ولا تستغرقك فإنها تهيج الحياء منك وقد يدخل عليك ملك من الملوك أو كبير من الأكابر فيستغرقك التعظيم حتى تترك كل ما أنت فيه شغلا به لا حياء منه فهكذا تختلف مراتب العباد في مراقبة الله تعالى ومن كان في هذه الدرجة فيحتاج أن يراقب جميع حركاته وسكناته وخطراته ولحظاته وبالجملة جميع اختياراته وله فيها نظران نظر قبل العمل ونظر في العمل أما قبل العمل فلينظر أن ما ظهر له وتحرك بفعله خاطره أهو لله خاصة أو هو في هوى النفس ومتابعة الشيطان فيتوقف فيه ويتثبت حتى ينكشف له ذلك بنور الحق فإن كان لله تعالى أمضاه وإن كان لغير الله استحيا من الله وانكف عنه ثم لام نفسه على رغبته فيه وهمه به وميله إليه وعرفها سوء فعلها وسعيها في فضيحتها وأنها عدوة نفسها إن لم يتداركها الله بعصمته وهذا التوقف في بداية الأمور إلى حد البيان واجب محتوم لا محيص لأحد عنه فإن في الخبر إنه ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وإن صغرت ثلاثة دواوين الديوان الأول لم والثاني كيف والثالث لمن حديث ينشر للعبد في كل حركة من حركاته وان صغرت ثلاثة دواوين الأول لم والثاني كيف والثالث لمن لم أقف له على أصل ومعنى لم أي لم فعلت هذا أكان عليك أن تفعله لمولاك أو ملت إليه بشهوتك وهواك فإن سلم منه بأن كان عليه أن يعمل ذلك لمولاه سئل عن الديوان الثاني فقيل له كيف فعلت هذا فإن لله في كل عمل شرطا وحكما لا يدرك قدره ووقته وصفته إلا بعلم فيقال له كيف فعلت أبعلم محقق أم بجهل وظن فإن سلم من هذا نشر الديوان الثالث وهو المطالبة بالإخلاص فيقال له لمن عملت ألوجه الله خالصا وفاء بقولك لا إله إلا الله فيكون أجرك على الله أو لمراءاة خلق مثلك فخذ أجرك منه أم عملته لتنال عاجل دنياك فقد وفيناك نصيبك من الدنيا أم عملته بسهو وغفلة فقد سقط أجرك وحبط عملك وخاب سعيك وإن عملت لغيري فقد استوجبت مقتى وعقابي إذ كنت عبدا لي تأكل رزقي وتترفه بنعمتي ثم تعمل لغيري أما سمعتني أقول إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه ويحك أما سمعتني أقول ألا لله الدين الخالص فإذا عرف العبد أنه بصدد هذه المطالبات والتوبيخات طالب نفسه قبل أن تطالب وأعد للسؤال جوابا وليكن الجواب صوابا فلا يبدئ ولا يعيد إلا بعد التثبت ولايحرك جفنا ولا أنمله إلا بعد التأمل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ إن الرجل ليسئل عن كحل عينيه وعن فته الطين بأصبعيه وعن لمسه ثوب أخيه حديث قال لمعاذ إن الرجل ليسأل عن كحل عينيه وقال الحسن كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كان لله أمضاه وقال الحسن رحم الله تعالى عبدا وقف عند همه فإن كان لله مضى وإن كان لغيره تأخر وقال في حديث سعد حين أوصاه سلمان اتق الله عند همك إذا هممت حديث سعد حين أوصاه سلمان أن اتق الله عند همك إذا هممت أخرجه أحمد والحاكم وصححه وهذا القدر منه موقوف وأوله مرفوع تقدم وقال محمد بن علي إن المؤمن وقاف متأن يقف عند همه ليس كحاطب ليل فهذا هو النظر الأول في هذه المراقبة ولا يخلص من هذا إلا العلم المتين والمعرفة الحقيقة بأسرار الأعمال وأغوار النفس ومكايد الشيطان فمتى لم يعرف نفسه وربه وعدوة إبليس ولم يعرف ما يوافق هواه ولم يميز بينه وبين ما يحبه الله ويرضاه في نيته وهمته وفكرته وسكونه وحركته فلا يسلم في هذه المراقبة بل الأكثرون يرتكبون الجهل فيما يكرهه الله تعالى وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ولا تظنن أن الجاهل بما يقدر على التعلم فيه يعذر هيهات بل طلب العلم فريضة على كل مسلم ولهذا كانت ركعتان من عالم أفضل من ألف ركعة من غير عالم لأنه يعلم آفات النفوس ومكايد الشيطان ومواضع الغرور فيتقى ذلك و الجاهل لا يعرفه فكيف يحترز منه فلا يزال الجاهل في تعب والشيطان منه في فرح وشماته فنعوذ بالله من الجهل والغفلة فهو رأس كل شقاوة وأساس كل خسران فحكم الله تعالى على كل عبد أن يراقب نفسه عند همه بالفعل وسعيه بالجارحة فيتوقف عن الهم وعن السعي حتى ينكشف له بنور العلم أنه لله تعالى فيمضيه أو هو لهوى النفس فيتقيه ويزجر القلب عن الفكر فيه وعن الهم به فإن الخطوة الأولى في الباطل إذا لم تدفع أورثت الرغبة والرغبة تورث الهم والهم يورث جزم القصد والقصد يورث الفعل والفعل يورث البوار والمقت فينبغى أن تحسم مادة الشر من منبعه الأول وهو الخاطر فإن جميع ما وراءه يتبعه ومهما أشكل على العبد ذلك وأظلمت الواقعة فلم ينكشف له فيتفكر في ذلك بنور العلم ويستعيذ بالله من مكر الشيطان بواسطة الهوى فإن عجز عن الاجتهاد والفكر بنفسه فيستضىء بنور علماء الدين وليفر من العلماء المضلين المقبلين على الدنيا فراره من الشيطان بل أشد فقد أوحى الله تعالى إلى داود عليه السلام لاتسأل عنى عالما أسكره حب الدنيا فيقطعك عن محبتي أولئك قطاع الطريق على عبادي فالقلوب المظلمة بحب الدنيا وشدة الشرة والتكآلب عليها محجوبة عن نور الله تعالى فإن مستضاء أنوار القلوب حضرة الربوبية فكيف يستضئ بها من أستدبرها وأقبل على عدوها وعشق بغيضها ومقيتها وهي شهوات الدنيا فلتكن همه المريد أولا في أحكام العلم أو في طلب عالم معرض عن الدنيا أو ضعيف الرغبة فيها إن لم يجد من هو عديم الرغبة فيها وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يحب البصر الناقد عند ورود الشبهات والعقل الكامل عند هجوم الشهوات أخرجه أبو نعيم في الحلية من حديث عمران بن حصين وفيه حفص بن عمر العدنى ضعفه الجمهور جمع بين الأمرين وهما متلازمان حقا فمن ليس له عقل وازع عن الشهوات فليس له بصر ناقد في الشبهات ولذلك قال عليه السلام من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا حديث من قارف ذنبا فارقه عقل لا يعود إليه أبدا تقدم ولم أجده فما قدر العقل الضعيف الذي سعد الآدمي به حتى يعمد إلى محوه ومحقه بمقارنة الذنوب ومعرفة آفات الأعمال قد اندرست في هذه الأعصار فإن الناس كلهم قد هجروا هذه العلوم واشتغلوا بالتوسط بين الخلق في الخصومات الثائرة في اتباع الشهوات وقالوا هذا هو الفقة وأخرجوا هذا العلم الذي هو فقه الدين عن جملة العلوم وتجردوا لفقه الدنيا الذى ما قصد به الا دفع الشواغل عن القلوب ليتفرغ لفقه الدين فكان فقه الدنيا من الدين بواسطة هذا الفقه وفي الخبر أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتى عليكم زمان خيركم فيه المتثبت حديث أنتم اليوم في زمان خيركم فيه المسارع وسيأتي عليكم زمان خيركم فيه المتثبت لم أجده ولهذا توقف طائفة من الصحابة في القتال مع أهل العراق وأهل الشام لما أشكل عليهم الأمر كسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وأسامة ومحمد بن مسلمة وغيرهم فمن لم يتوقف عند الاشتباه كان متبعا لهواه معجبا برأيه وكان ممن وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب كل ذى رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك وكل من خاض في شبهه بغير تحقيق فقد خالف قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم حديث فإذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا الحديث تقدم وقوله عليه السلام إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث حديث إياكم والظن الحديث تقدم وأراد به ظنا بغير دليل كما يستفتى بعض العوام قلبه فيما أشكل عليه ويتبع ظنه ولصعوبة هذا الأمر وعظمة كان دعاء الصديق رضى الله تعالى عنه اللهم أرني الحق حقا وارزقنى اتباعه وأرني الباطل باطلا وارزقنى اجتنابه ولا تجعله متشابها على فأتبع الهوى وقال عيسى عليه السلام الأمور ثلاثة أمر استبان رشده فاتبعه وأمر استبان غيه فاجتنبه وأمر أشكل عليك فكله إلى عالمه حديث قال عيسى الأمور ثلاثة الحديث أخرجه الطبراني من حديث ابن عباس بإسناد ضعيف وقد كان من دعاء النبى صلى الله عليه وسلم اللهم إني أعوذ بك أن أقول في الدين بغير علم حديث اللهم إني أعوذ بك أن أقول في الدين بغير علم لم أجده فأعظم نعمة الله على عباده هو العلم وكشف الحق والإيمان عبارة عن نوع كشف وعلم ولذلك قال تعالى امتنانا على عبده وكان فضل الله عليك عظيما وأراد به العلم وقال تعالى فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون وقال تعالى إن علينا للهدى وقال ثم إن علينا بيانه وقال وعلى الله قصد السبيل وقال على كرم الله وجهه الهوى شريك العمى ومن التوفيق التوقف عند الحيرة ونعم طارد الهم اليقين وعاقبة الكذب الندم وفي الصدق السلامة رب بعيد أقرب من قريب وغريب من لم يكن له حبيب والصديق من صدق غيبه ولا يعدمك من حبيب سوء ظن نعم الخلق التكرم والحياء سبب إلى كل جميل وأوثق العرا التقوى واوثق سبب أخذت به سبب بينك وبين الله تعالى إنما لك من دنياك ما أصلحت به مثواك والرزق رزقان رزق تطلبه ورزق يطلبك فان لم تأته أتاك وإن كنت جازعا على ما أصيب مما في يديك فلا تجزع على ما لم يصل إليك واستدل على ما لم يكن بما كان فإنما الأمور أشباه والمرء يسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه فما نالك من دنياك فلا تكثرن به فرحا وما فاتك منها فلا تتبعه نفسك أسفا وليكن سرورك بما قدمت وأسفك على ما خلفت وشغلك لآخرتك وهمك فيما بعد الموت وغرضنا من نقل هذه الكلمات قوله ومن التوفيق التوقف عند الحيرة فإذن النظر الأول للمراقب نظره في الهم والحركة أهي لله أم للهوى وقد قال صلى الله عليه وسلم ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم ولا يرائى بشىء من عمله وإذا عرض له أمران أحدهما للدنيا والآخر للآخرة آثر الآخرة على الدنيا حديث ثلاث من كن فيه استكمل إيمانه لا يخاف في الله لومة لائم الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبى هريرة وقد تقدم وأكثر ما ينكشف له في حركاته أن يكون مباحا ولكن لا يعنيه فيتركه لقوله صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه حديث من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه تقدم النظر الثاني للمرقبة عند الشروع في العمل وذلك بتفقد كيفية العمل ليقضى حق الله فيه ويحسن النية في إتمامه ويكمل صورته ويتعاطاه على اكمل ما يمكنه وهذا ملازم له في جميع أحواله فإنه لا يخلو في جميع أحواله عن حركة وسكون فإذا راقب الله تعالى في جميع ذلك قدر على عبادة الله تعالى فيها بالنية وحسن الفعل ومراعاة الأدب فإن كان قاعدا مثلا فينبغى أن يقعد مستقبل القبلة لقوله صلى الله عليه وسلم خير المجالس ما استقبل به القبلة حديث خير المجالس ما استقبل به القبلة أخرجه الحاكم من حديث ابن عباس وقد تقدم ولا يجلس متربعا إذ لا يجالس الملوك كذلك وملك الملوك مطلع عليه قال إبراهيم بن أدهم رحمه الله جلست مرة متربعا فسمعت هاتفا يقول هكذا تجالس الملوك فلم أجلس بعد ذلك متربعا وإن كان ينام فينام على اليد اليمنى مستقبل القبلة مع سائر الآداب التي ذكرناها في موضعها فكل ذلك داخل في المراقبة بل لو كان في قضاء الحاجة فمراعاته لآدابها وفاء بالمراقبة فإذن لا يخلو العبد أما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال ومراعاة الأدب وحراستها عن الآفات وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والإقلاع والحياء والاشتغال بالتفكر وإن كان في مباح فمراقبته بمراعاة الأدب ثم بشهود المنعم في النعمة وبالشكر عليها ولا يخلو العبد في جملة أحواله عن بلية لا بد له من الصبر عليها ونعمة لا بد له من الشكر عليها وكل ذلك من المراقبة بل لا ينفك العبد في كل حال من فرض لله تعالى عليه أما فعل يلزمه مباشرته أو محظور يلزمه تركه أو ندب حث عليه ليسارع به إلى مغفرة الله تعالى ويسابق به عباد الله أو مباح فيه صلاح جسمه وقلبه وفيه عون له على طاعته ولكل واحد من ذلك حدود لابد من مراعاتها بدوام المراقبة ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه فينبغي أن يتفقد العبد نفسه في جميع أوقاته في هذه الأقسام الثلاثة فإذا كان فارغا من الفرائض وقدر على الفضائل فينبغي أن يلتمس أفضل الأعمال ليشتغل بها فإن من فاته مزيد ربح وهو قادر على دركه فهو مغبون والأرباح تنال بمزايا الفضائل فبذلك يأخذ العبد من دنياه لآخرته كما قال تعالى ولا تنس نصيبك من الدنيا وكل ذلك إنما يمكن بصبر ساعة واحدة فإن الساعات ثلاث ساعة مضت لا تعب فيها على العبد كيفما انقضت في مشقة أو رفاهية وساعة مستقبلة لم تأت بعد لا يدري العبد أيعيش إليها أم لا ولا يدرى ما يقضى الله فيها وساعة راهنة ينبغي أن يجاهد فيها نفسه ويراقب فيها ربه فإن لم تأته الساعة الثانية لم يتحسر على فوات هذه الساعة وإن أتته الساعة الثانية استوفى حقه منها كما استوفى من الاولى ولا يطول أمله خمسين سنة فيطول عليه العزم على المراقبة فيها بل يكون ابن وقته كأنه في آخر أنفاسه فلعله آخر أنفاسه وهو لا يدرى وإذا أمكن أن يكون آخر أنفاسه فينبغى أن يكون على وجه لا يكره أن يدركه الموت وهو على تلك الحالة وتكون جميع أحواله مقصورة على ما رواه أبو ذر رضى الله تعالى عنه من قوله عليه السلام لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم حديث أبى ذر لا يكون المؤمن ظاعنا إلا في ثلاث تزود لمعاد الحديث أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم وصححه صلى الله عليه وسلم أنه قال انه في صحف موسى وقد تقدم وما روى عنه أيضا في معناه وعلى العاقل أن تكون له أربعة ساعات ساعة يناجى فيها ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يتفكر فيها في صنع الله تعالى وساعة يخلو فيها للمطعم والمشرب حديث وعلى العاقل أن يكون له ثلاث ساعات ساعة يناجى بها ربه الحديث وهي بقية حديث أبى ذر الذى قبله فإن في هذه الساعة عونا له على بقية الساعات ثم هذه الساعات التي هو فيها مشغول الجوارح بالمطعم والمشرب لا ينبغى أن يخلو عن عمل هو أفضل الأعمال وهو الذكر والفكر فإن الطعام الذى يتناوله مثلا فيه من العجائب ما لو تفكر فيه وفطن له كان ذلك أفضل من كثير من أعمال الجوارح والناس فيه أقسام قسم ينظرون إليه بعين التبصر والاعتبار فينظرون في عجائب صنعته وكيفية ارتباط قوام الحيوانات به وكيفية تقدير الله لأسبابه وخلق الشهوات الباعثة عليه وخلق الآلات المسخرة للشهوة فيه كما فصلنا بعضه في كتاب الشكر وهذا مقام ذوى الألباب وقسم ينظرون فيه بعين المقت والكراهة ويلاحظون وجه الاضطرار إليه وبودهم لو استغنوا عنه ولكن يرون أنفسهم مقهورين فيه مسخرين لشهواته وهذا مقام الزاهدين وقوم يرون في الصنعة الصانع ويترقون منها إلى صفات الخالق فتكون مشاهدة ذلك سببا لتذكر أبواب من الفكر تنفتح عليهم بسببه وهو أعلى المقامات وهو من مقامات العارفين وعلامات المحبين إذ المحب إذا رأي صنعة حبيبه وكتابه وتصنيفه نسى الصنعة واشتغل قلبه بالصانع وكل ما يتردد العبد فيه صنع الله تعالى فله في النظر منه إلى الصانع مجال رحب إن فتحت له أبواب الملكوت وذلك عزيز جدا وقسم رابع ينظرون إليه بعين الرغبة والحرص فيتأسفون على ما فاتهم منه ويفرحون بما حضرهم من جملته ويذمون منه مالا يوافق هواهم ويعيبونه ويذمون فاعله فيذمون الطبيخ والطباخ ولا يعلمون أن الفاعل للطبيخ والطباخ ولقدرته ولعلمه هو الله تعالى وأن من ذم شيئا من خلق الله بغير إذن فقد ذم الله ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر حديث لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر أخرجه مسلم من حديث أبى هريرة فهذه المرابطة الثانية بمراقبة الأعمال على الدوام والاتصال وشرح ذلك يطول وفيما ذكرناه تنبيه على المنهاج لمن أحكم الأصول المرابطة الثالثة محاسبة النفس بعد العمل ولنذكر فضيلة المحاسبة ثم حقيقتها أما الفضيلة فقد قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد وهذه إشارة إلى المحاسبة على ما مضى من الأعمال ولذلك قال عمر رضى الله تعالى عنه حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا وفي الخبر انه عليه السلام جاءه رجل فقال يا رسول الله أوصنى فقال أمستوص أنت فقال نعم قال إذا هممت بأمر فتدبر عاقبته فإن كان رشدا فامضه وإن كان غيا فانته عنه وفي الخبر وينبغى للعاقل أن يكون له أربع ساعات ساعة يحاسب فيها نفسه وقال تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون والتوبة نظر في الفعل بعد الفراغ منه بالندم عليه وقد قال صلى الله عليه وسلم إنى لاستغفر الله تعالى وأتوب إليه في اليوم مائة مرة حديث اني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مائة مره تقدم غير مرة وقال تعالى إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون وعن عمر رضى الله عنه انه كان يضرب قدميه بالدره إذا جنه الليل ويقول لنفسه ماذا عملت اليوم وعن ميمون ابن مهران انه قال لا يكون العبد من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة شريكه والشريكان يتحاسبان بعد العمل وروى عن عائشة رضى الله تعالى عنها أن أبا بكر رضوان الله عليه قال لها عند الموت ما أحد من الناس أحب إلي من عمر ثم قال لها كيف قلت فأعادت عليه ما قال فقال لا أحد أعز على من عمر فانظر كيف نظر بعد الفراغ من الكلمة فتدبرها وأبدلها بكلمة غيرها وحديث أبى طلحة حين شغله الطائر في صلاته فتدبر ذلك فجعل حائطه صدقة لله تعالى ندما ورجاء للعوض مما فاته حديث ابى طلحة: حين شغله الطائر عن صلاته فجعل حديقته صدقه تقدم غير مرة وفي حديث ابن سلام أنه حمل حزمة من حطب فقيل له يا أبا يوسف قد كان في بنيك وغلمانك ما يكفونك هذا فقال أردت أن أجرب نفسي هل تنكره وقال الحسن المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبه ثم فسر المحاسبة فقال إن المؤمن يفجؤه الشيء يعجبه فيقول والله إنك لتعجبني وإنك من حاجتي ولكن هيهات حيل بيني وبينك وهذا حساب قبل العمل ثم قال ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه فيقول ماذا أردت بهذا والله لا أعذر بهذا والله لا أعود لهذا أبدا إن شاء الله وقال أنس بن مالك سمعت عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه يوما وقد خرج وخرجت معه حتى دخل حائطا فسمعته يقول وبيني وبينه جدار وهو في الحائط عمر ابن الخطاب أمير المؤمنين بخ بخ والله لتتقين الله أو ليعذبنك وقال الحسن في قوله تعالى ولا أقسم بالنفس اللوامة قال لا يلقى المؤمن إلا يعاتب نفسه ماذا أردت بكلمتي ماذا أردت بأكلتي ماذا أردت بشربتي والفاجر يمضى قدما لا يعاتب نفسه وقال مالك بن دينار رحمه الله تعالى رحم الله عبدا قال لنفسه ألست صاحبة كذا ألست صاحبة كذا ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله تعالى فكان له قائدا وهذا من معاتبة النفس كما سيأتي في موضعه وقال ميمون بن مهران التقى أشد محاسبة لنفسه من سلطان غاشم ومن شريك شحيح وقال إبراهيم التيمي مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعالج سلاسلها وأغلالها فقلت لنفسي يا نفس أي شيء تريدين فقالت أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاقلت فأنت في الأمنية فاعملي وقال مالك بن دينار سمعت الحجاج يخطب وهو يقول رحم الله امرأ حاسب نفسه قبل أن يصير الحساب إلى غيره رحم الله امرأ أخذ بعنان عمله فنظر ماذا يريد به رحم الله امرأ نظر في مكياله رحم الله امرأ نظر في ميزانه فما زال يقول حتى أبكانى وحكى صاحب للأحنف ابن قيس قال كنت أصحبه فكان عامة صلاته بالليل الدعاء وكان يجئ إلى المصباح فيضع أصبعه فيه حتى يحس بالنار ثم يقول لنفسه ياحنيف ما حملك على ما صنعت يوم كذا ما حملك على ما صنعت يوم كذا.

بيان حقيقة المحاسبة بعد العمل

أعلم أن العبد كما يكون له وقت في أول النهار يشارط فيه نفسه على سبيل التوصية بالحق فينبغى أن يكون له في آخر النهار ساعة يطالب فيها النفس ويحاسبها على جميع حركاتها وسكناتها كما يفعل التجار في الدنيا مع الشركاء في آخر كل سنة أو شهر أو يوم حرصا منهم على الدنيا وخوفا من أن يفوتهم منها ما لو فاتهم لكانت الخيرة لهم في فواته ولو حصل ذلك لهم فلا يبقى إلا أياما قلائل فكيف لا يحاسب العاقل نفسه فيما يتعلق به خطر الشقاوة والسعادة أبد الآباد ما هذه المساهلة إلا عن الغفلة والخذلان وقلة التوفيق نعوذ بالله من ذلك ومعنى المحاسبة مع الشريك أن ينظر في رأس المال وفي الربح والخسران ليتبين له الزيادة من النقصان فإن كان من فضل حاصل استوفاه وشكره وإن كان من خسران طالبه بضمانه وكلفه تداركه في المستقبل فكذلك رأس مال العبد في دينه الفرائض وربحه النوافل والفضائل وخسرانه المعاصي وموسم هذه التجارة جملة النهار ومعامله نفسه الأمارة بالسوء فيحاسبها على الفرائض أولا فإن أداها على وجهها شكر الله تعالى عليه ورغبها في مثلها وإن فوتها من أصلها طالبها بالقضاء وإن أداها ناقصة كلفها الجبران بالنوافل وإن ارتكب معصية اشتغل بعقوبتها وتعذيبها ومعاتبتها ليستوفى منها ما يتدارك به ما فرط كما يصنع التاجر بشريكه وكما أنه يفتش في حساب الدنيا عن الحبة والقيراط فيحفظ مداخل الزيادة والنقصان حتى لا يغبن في شيء منها فينبغى أن يتقى غبينة النفس ومكرها فإنها خداعة ملبسة مكارة فليطالبها أولا بتصحيح الجواب عن جميع ماتكلم به طول نهاره وليتكفل بنفسه من الحساب ما سيتولاه غيره في صعيد القيامة وهكذا عن نظره بل عن خواطره وأفكاره وقيامه وقعوده وأكله وشربه ونومه حتى عن سكوته أنه لم سكت وعن سكونه لم سكن فإذا عرف مجموع الواجب على النفس وصح عنده قدر أدى الواجب فيه كان ذلك القدر محسوبا له فيظهر له الباقي على نفسه فليثبته عليها وليكتبه على صحيفة قلبه كما يكتب الباقي الذي على شريكه على قلبه وفي جريدة حسابه ثم النفس غريم يمكن أن يستوفى منه الديون أما بعضها فبالغرامة والضمان وبعضها برد عينه وبعضها بالعقوبة لها على ذلك ولا يمكن شيء من ذلك إلى بعد تحقيق الحساب وتمييز الباقي من الحق الواجب عليه فإذا حصل ذلك اشتغل بعده بالمطالبة والاستيفاء ثم ينبغي أن يحاسب النفس على جميع العمر يوما يوما وساعة ساعة في جميع الأعضاء الظاهرة والباطنة كما نقل عن توبه ابن الصمة وكان بالرقة وكان محاسبا لنفسه فحسب يوما فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرون ألف يوم وخمسمائة يوم فصرخ وقال يا ويلتي ألقى الملك بأحد وعشرين ألف ذنب فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب ثم خر مغشيا عليه فإذا هو ميت فسمعوا قائلا يقول يا لك ركضة إلى الفردوس الأعلى فهكذا ينبغى أن يحاسب نفسه على الأنفاس وعلى معصيته بالقلب والجوارح في كل ساعة ولو رمى العبد بكل معصية حجرا في داره لامتلأت داره في مدة يسيرة قريبة من عمره ولكنه يتساهل في حفظ المعاصى والملكان يحفظان عليه ذلك أحصاه الله ونسوه المرابطة الرابعة في معاقبة النفس على تقصيرها مهما حاسب نفسه فلم تسلم عن مقارفه معصية وارتكاب تقصير في حق الله تعالى فلا ينبغى أن يهملها فإنه أن أهملها سهل عليه مقارفة المعاصي وأنست بها نفسه وعسر عليه فطامها وكان ذلك بسبب هلاكها بل ينبغي أن يعاقبها فإذا أكل لقمة شبهة بشهوة نفس ينبغى أن يعاقب البطن بالجوع وإذا نظر إلى غير محرم ينبغي أن يعاقب العين بمنع النظر وكذلك يعاقب كل طرف من أطراف بدنه بمنعه عن شهواته هكذا كانت عادة سالكي طريق الآخرة فقد روى عن منصور بن إبراهيم أن رجلا من العباد كلم امرأة فلم يزل حتى وضع يده على فخذها ثم ندم فوضع يده على النار حتى يبست وروى أنه كان في بني إسرائيل رجل يتعبد في صومعته فمكث كذلك زمانا طويلا فأشرف ذات يوم فإذا هو بامرأة فافتتن بها وهم بها فأخرج رجله لينزل إليها فأدركه الله بسابقه فقال ما هذا الذي أريد أن أصنع فرجعت إليه نفسه وعصمه الله تعالى فندم فلما أراد أن يعيد رجله إلى الصومعة قال هيهات هيهات رجل خرجت تريد أن تعصى الله تعود في صومعتي لا يكون والله له ذلك أبدا فتركها معلقة في الصومعة تصيبها الأمطار والرياح والثلج والشمس حتى تقطعت فسقطت فشكر الله له ذلك وأنزل في بعض كتبه ذكره ويحكى عن الجنيد قال سمعت ابن الكريبي يقول أصابتني ليلة جنابة فاحتجت أن أغتسل وكانت ليلة باردة فوجدت في نفسي تأخرا وتقصيرا فحدثتني نفسي بالتأخير حتى أصبح وأسخن الماء أو أدخل الحمام ولا أعنى على نفسي فقلت واعجبا أنا أعامل الله في طول عمري فيجب له على حق فلا أجد في المسارعة وأجد الوقوف والتأخر آليت أن لا أغتسل إلا في مرقعتي هذه وآليت أن لا أنزعها ولا أعصرها ولا أجففها في الشمس ويحكى أن غزوان وأبا موسى كانا في بعض مغازيهما فتكشفت جارية فنظر إليها غزوان فرفع يده فلطم عينه حتى بقرت وقال إنك للحاظة إلى ما يضرك ونظر بعضهم نظرة واحدة امرأة فجعل على نفسه أن لا يشرب الماء البارد طول حياته فكان يشرب الماء الحار لينغص على نفسه العيش ويحكى أن حسان بن أبي سنان مر بغرفة فقال متى بنيت هذه ثم أقبل على نفسه فقال تسألين عما لا يعنيك لأعاقبنك بصوم سنة فصامها وقال مالك بن ضيغم جاء رباح القيسي يسأل عن أبي بعد العصر فقلنا إنه نائم فقال أنوم هذه الساعة هذا وقت نوم ثم ولى منصرفا فأتبعناه رسولا وقلنا له ألا نوقظه لك فجاء الرسول وقال هو أشغل من أن يفهم عني شيئا أدركته وهو يدخل المقابر وهو يعاتب نفسه ويقول أقلت وقت نوم هذه الساعة أفكان هذا عليك ينام الرجل متى شاء وما يدريك أن هذا ليس وقت نوم تتكلمين بما لا تعلمين أما إن لله على عهدا لا أنقضه أبدا لا أوسدك الأرض لنوم حولا إلا لمرض حائل أو لعقل زائل سوأة لك أما تستحين كم توبخين وعن غيك لا تنتهين قال وجعل يبكى وهو لا يشعر بمكاني فلما رأيت ذلك انصرفت وتركته ويحكى عن تميم الداري أنه نام ليلة لم يقم فيها يتهجد فقام سنة لم ينم فيها عقوبة للذي صنع وعن طلحة رضى الله تعالى عنه قال انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء فكان يقول لنفسه ذوقى ونار جهنم أشد حرا أجيفة بالليل بطالة بالنهار فبينما هو كذلك إذ أبصر النبي صلى الله عليه وسلم في ظل شجرة فأتاه فقال غلبتني نفسي فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكن لك بد من الذي صنعت أما لقد فتحت لك أبواب السماء ولقد باهى الله بك الملائكة ثم قال لأصحابه تزودوا من أخيكم فجعل الرجل يقول له يا فلان أدع لي يا فلان ادع لى فقال النبي صلى الله عليه وسلم عمهم فقال اللهم أجعل التقوى زادهم واجمع على الهدى أمرهم فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم سدده فقال الرجل اللهم أجعل الجنة مآبهم حديث طلحة: انطلق رجل ذات يوم فنزع ثيابه وتمرغ في الرمضاء وكان يقول لنفسه: ونار جهنم أشد حراالحديث بطوله أخرجه ابن أبي الدنيا في محاسبة النفس من رواية ليث بن أبي سليم عنه وهذا منقطع أو مرسل ولا أدري من طلحة هذا وقال حذيفة بن قتاده قيل لرجل كيف تصنع بنفسك في شهواتها فقال ما على وجه الأرض نفس أبغض إلى منها فكيف أعطيها شهواتها ودخل ابن السماك على داود الطائي حين مات وهو في بيته على التراب فقال: يا داود سجنت نفسك قبل أن تسجن وعذبت نفسك قبل أن تعذب فاليوم ترى ثواب من كنت تعمل له وعن وهب بن منبه: أن رجلا تعبد زمانا ثم بدت له إلى الله تعالى حاجة فقام سبعين سبتا يأكل في كل سبت إحدى عشرة تمرة ثم سأل حاجته فلم يعطها فرجع إلى نفسه وقال منك أتيت لو كان فيك خير لأعطيت حاجتك فنزل إليه ملك وقال يا ابن آدم ساعتك هذه خير من عبادتك التي مضت وقد قضى الله حاجتك وقال عبد الله بن قيس كنا في غزاة لنا فحضر العدو فصيح في الناس فقاموا إلى المصاف في يوم شديد الريح وإذا رجل أمامي وهو يخاطب نفسه ويقول أي نفسي ألم أشهد مشهد كذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت ألم أشهد مشهد كذا وكذا فقلت لي أهلك وعيالك فأطعتك ورجعت والله لأعرضنك اليوم على الله أخذك أو تركك فقلت لأرمقنه اليوم فرمقته فحمل الناس على عدوهم فكان في أوائلهم ثم أن العدو حمل على الناس فانكشفوا فكان في موضعه حتى انكشفوا مرات وهو ثابت يقاتل فوالله ما زال ذاك دأبه حتى رأيته صريعا فعددت به وبدابته ستين أو أكثر من ستين طعنة وقد ذكرنا حديث أبى طلحة لما اشتغل قلبه في الصلاة بطائر في حائطه فتصدق بالحائط كفارة لذلك وإن عمر كان يضرب قدميه بالدره كل ليلة ويقول ماذا عملت اليوم وعن مجمع أنه رفع رأسه إلى السطح فوقع بصره على امرأة فجعل على نفسه أن لا يرفع رأسه إلى السماء ما دام في الدنيا وكان الأحنف بن قيس لا يفارقه المصباح بالليل فكان يضع أصبعه عليه ويقول لنفسه ما حملك على أن صنعت يوم كذا كذا وأنكر وهيب بن الورد شيئا على نفسه فنتف شعرات على صدره حتى عظم ألمه ثم جعل يقول لنفسه ويحك إنما أريد بك الخير ورأى محمد بن بشر داود الطائى وهو يأكل عند إفطاره خبزا بغير ملح فقال له لو اكلته بملح فقال أن نفسى لتدعوني الى الملح منذ سنة ولا ذاق دواد ملحا ما دام في الدنيا فكذا كانت عقوبة أولى الحزم لأنفسهم والعجب انك تعاقب عبدك وأمتك واهلك وولدك على ما يصدر منهم من سوء خلق وتقصير في أمر وتخاف انك لو تجاوزت عنهم لخرج أمرهم عن الاختيار وبغوا عليك ثم تهمل نفسك وهى أعظم عدو لك واشد طغيانا عليك وضررك من طغيانها أعظم من ضررك من طغيان أهلك فان غايتهم أن يشوشوا عليك معيشة الدنيا ولو عقلت لعلمت ان العيش عيش الآخرة وان فيه النعيم المقيم الذى لا آخر له ونفسك هى التي تنغص عليك عيش الآخرى فهى بالمعاقبة أولى من غيرها المرابطة الخامسة: المجاهدة وهو انه إذا حاسب نفسه فرآها قد قارفت معصية فينبغى ان يعاقبها بالعقوبات التي مضت وان رآها تتوانى بحكم الكسل في شىء من الفضائل أو ورد من الأوراد فينبغى أن يؤدبها بتثقيل الأوراد عليها ويلزمها فنونا من الوظائف جبرا لما فات منه وتداركالما فرط فهكذا كان يعمل عمال الله تعالى فقد عاقب عمر بن الخطاب نفسه حين فاتته صلاة العصر في جماعة بأن تصدق بأرض كانت له قيمتها مائتا ألف درهم وكان ابن عمر اذا فاتته صلاة في جماعة أحيا تلك الليلة وأخر ليلة صلاة المغرب حتى طلع كوكبان فأعتق رقبتين وفات ابن أبى ربيعة ركعتا الفجر فاعتق رقبة وكان بعضهم يجعل على نفسه صوم سنة أو الحج ما شيا أو التصدق بجميع ماله كل ذلك مرابطه للنفس ومؤاخذة لها بما فيه نجاتها فإن قلت إن كانت نفسى لا تطاوعنى على المجاهدة والمواظبة على الأوراد فما سبيل معالجتها فأقول سبيلك في ذلك ان تسمعها ما ورد في الأخبار من فضل المجتهدين الأخبار الواردة في حق المجتهدين أخرجها أبو داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص من قام بعشر آيات لم يكتب من الغافلين ومن قام بمائة آية كتب من القانتين ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين وله وللنسائي وابن ماجه من حديث أبى هريرة بإسناد صحيح رحم الله رجلا قام من الليل فصلى وايقظ امرأته وللترمذى من حديث بلال عليكم بقيام الليل فانه دأب الصالحين قبلكم الحديث وقال غريب ولا يصح وقد تقدم في الأوراد مع غيره من الأخبار في ذلك ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله مجتهد في العبادة فتلاحظ أقواله وتقتدى به وكان بعضهم يقول كنت إذا اعترتنى فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع والى اجتهاده فعملت على ذلك أسبوعا إلا أن هذا العلاج قد تعذر اذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الاولين فينبغى ان يعدل من المشاهدة الى السماع فلا شىء انفع من سماع أحوالهم ومطالعة اخبارهم وما كانوا فيه من الجهد الجهيد وقد انقضى تعبهم وبقى ثوابهم ونعيمهم ابد الاباد لا ينقطع فما اعظم ملكهم وما أشد حسرة من لا يقتدى بهم فيمتع نفسه أياما قلائل بشهوات مكدرة ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله تعالى من ذلك ونحن نورد من اوصاف المجتهدين وفضائلهم ما يحرك رغبة المريد في الاجتهاد اقتداء بهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رحم الله اقواما يحسبهم الناس مرضى وما هم بمرضى حديث رحم الله أقواما تحسبهم مرضى وما بمرضى لم أجد له أصلا في حديث مرفوع لا لكن رواه أحمد في الزهد موقوفا على في كلام له قال فيه ينظر اليهم الناظر فيقول مرضى وما بالقوم من مرض قال الحسن أجهدتهم العبادة قال الله تعالى والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة قال الحسن يعملون ما عملوا من أعمال البر ويخافون أن لا ينجيهم ذلك من عذاب الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم طوبي لمن طال عمره وحسن عمله حديث طوبي لمن طال عمره وحسن عمله أخرجه الطبراني من حديث عبد الله بن بشر وفيه بقية رواه بصيغة عن وهو مدلس وللترمذى من حديث أبى بكرة خير الناس من طال عمره وحسن عمله وقال حسن صحيح وقد تقدم ويروى ان الله تعالى يقول لملائكته ما بال عبادي مجتهدين فيقولون الهنا خوفتهم شيئا فخافوه وشوقتهم الى شىء فاشتاقوا إليه فيقول الله تبارك وتعالى فكيف لو رآنى عبادى لكانوا اشد اجتهادا وقال الحسن أدركت أقواما وصحبت طوائف منهم ما كانوا يفرحون بشىء من الدنيا أقبل ولا يتأسفون على شىء منها أدبر ولهى كانت أهون في أعينهم من هذا التراب الذى تطئونه بارجلكم أن كان احدهم ليعيش عمره كله ما طوى له ثوب ولا أمر أهله بصنعة طعام قط ولا جعل بينه وبين الأرض شيئا قط وأدركتهم عاملين بكتاب ربهم وسنة نبيهم إذا جنهم الليل فقيام على أطرافهم يفترشون وجوههم تجرى دموعهم على خدودهم يناجون ربهم في فكاك رقابهم إذا عملوا الحسنة فرحوا بها ودأبوا في شكرها وسألوا الله ان يتقبلها وإذا عملوا السيئة أحزنتهم وسألوا الله تعالى أن يغفرها لهم والله ما زالوا كذلك وعلى ذلك ووالله ما سلموا من الذنوب ولا نجوا الا بالمغفرة ويحكى أن قوما دخلوا على عمر بن عبد العزيز يعودونه في مرضه واذا فيهم شاب ناحل الجسم فقال عمر له يا فتى ما الذى بلغ بك ما أرى فقال يا أمير المؤمنين اسقام وأمراض فقال سألتك بالله الا صدقتنى فقال يا أمير المؤمنين ذقت حلاوة الدنيا فوجدتها مرة وصغر عندى زهرتها وحلاوتها واستوى عند ذهبها وحجرها وكأنى أنظر إلى عرش ربى والناس يساقون إلى الجنة والنار فأظمأت لذلك نهارى وأسهرت ليلى وقليل حقير كل ما إنا فيه في جنب ثواب الله وعقابه وقال أبو نعيم كان داود الطائى يشرب الفتيت ولا يأكل الخبز فقيل له في ذلك فقال بين مضغ الخبز وشرب الفتيت قراءة خمسين آية ودخل رجل عليه يوما فقال ان في سقف بيتك جذعا مكسورا فقال يا ابن أخى ان لى في البيت منذ عشرين سنة ما نظرت الى السقف وكانوا يكرهون فضول النظر كما يكرهون فضول الكلام وقال محمد بن عبد العزيز جلسنا إلى أحمد بن رزين من غدوة إلى العصر فما التفت يمنه ولا يسرة فقيل له في ذلك فقال ان الله عز وجل خلق العينين لينظر بهما العبد الى عظمة الله تعالى فكل من نظر بغير اعتبار كتبت عليه خطيئة وقالت امرأة مسروق ما كان يوجد مسروق إلا وساقاه منتفختان من طول الصلاة وقالت والله ان كنت لاجلس خلفه فابكى رحمة له وقال أبو الدرداء لولا ثلاث ما أحببت العيش يوما واحدا الظمأ لله بالهواجر والسجود لله في جوف الليل ومجالسة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر وكان الأسود بن يزيد يجتهد في العبادة ويصوم فى الحر حتى يخضر جسده ويصفر فكان علقمة بن قيس يقول له لم تعذب نفسك فيقول كرامتها أريد وكان يصوم حتى يخضر جسده ويصلى حتى يسقط فدخل عليه أنس بن مالك والحسن فقالا له إن الله عز وجل لم يأمرك بكل هذا فقال إنما أنا عبد مملوك لا أدع من الاستكانة شيئا الا جئت به وكان بعض المجتهدين يصلى كل يوم الف ركعة حتى أقعد من رجليه فكان يصلى جالسا ألف ركعة فإذا صلى العصر احتبى ثم قال عجبت للخليقة كيف أرادت بك بدلا منك عجبت للخليقة كيف أنست بسواك بل عجبت للخليقة كيف استنارت قلوبها بذكر سواك وكان ثابت البنانى قد حببت إليه الصلاة فكان يقول اللهم ان كنت أذنت لأحد أن يصلى لك في قبره فائذن لي أن أصلى في قبرى وقال الجنيد ما رأيت أعبد من السرى اتت عليه ثمان وتسعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت وقال الحارث بن سعد مر قوم براهب فرأوا ما يصنع بنفسه من شدة اجتهاده فكلموه في ذلك فقال وما هذا عند ما يراد بالخلق من ملاقاة الأهوال وهم غافلون قد اعتكفوا على حظوظ أنفسهم ونسوا حظهم الأكبر من ربهم فبكى القوم عن آخرهم وعن أبى محمد المغازلى قال جاور أبو محمد الجريرى بمكة سنة فلم ينم ولم يتكلم ولم يستند إلى عمود ولا الى حائط ولم يمد رجليه فعبر عليه أبو بكر الكتانى فسلم عليه وقال له يا أبا محمد بم قدرت علىاعتكافك هذا فقال علم صدق باطنى فأعاننى على ظاهرى فاطرق الكتاني ومشى مفكرا وعن بعضهم قال دخلت على فتح الموصلى فرأيته قد مد كفيه

 يبكى حتى رأيت الدموع تنحدر من بين أصابعه فدنوت منه فإذا دموعه قد خالطها صفرة فقلت ولم بالله يا فتح بكيت الدم فقال لولا أنك أحلفتنى بالله ما أخبرتك نعم بكيت دما فقلت له على ماذا بكيت الدموع فقال على تخلفى عن واجب حق الله تعالى وبكيت الدم على الدموع لئلا يكون ما صحت لى الدموع قال فرأيته بعد موته في المنام فقلت ما صنع الله بك قال غفر لى فقلت له فماذا صنع في دموعك فقال قربنى ربى عز وجل وقال لى يا فتح الدمع على ماذا قلت يارب على تخلفى عن واجب حقك فقال والدم على ماذا فقلت على دموعى أن لا تصح لى فقال لى يا فتح ما أردت بهذا كله وعزتى وجلالى لقد صعد حافظاك أربعين سنة بصحيفتك ما فيها خطيئة وقيل إن قوما أرادوا سفرا فحادوا عن الطريق فانتهوا إلى راهب منفرد عن الناس فنادوه فأشرف عليهم من صومعته فقالوا يا راهب إنا قد أخطأنا الطريق فكيف الطريق فأومأ برأسه إلى السماء فعلم القوم ما أراد فقالوا يا راهب إنا سائلوك فهل أنت مجيبنا فقال سلوا ولا تكثروا فإن النهار لن يرجع والعمر لا يعود والطالب حثيث فعجب القوم من كلامه فقالوا يا راهب علام الخلق غدا عند مليكهم فقال على نياتهم فقالوا أوصنا فقال تزودوا على قدر سفركم فإن خير الزاد ما بلغ البغية ثم أرشدهم إلى الطريق وأدخل رأسه في صومعته وقال عبد الواحد بن زيد مررت بصومعة راهب من رهبان الصين فناديته يا راهب فلم يجبنى فناديته الثانية فلم يجبنى فناديته الثالثة فأشرف على وقال يا هذا ما أنا براهب إنما الراهب من رهب الله في سمائه وعظمه في كبريائه وصبر على بلائه ورضى بقضائه وحمده على آلائه وشكره على نعمائه وتواضع لعظمته وذل لعزته واستسلم لقدرته وخضع لمهابته وفكر في حسابه وعقابه فنهاره صائم وليله قائم قد أسهره ذكر النار ومسألة الجبار فذلك هو الراهب وأما أنا فكلب عقور حسبت نفسى فى هذه الصومعة عن الناس لئلا أعقرهم فقلت يا راهب فما الذى قطع الخلق عن الله تعالى بعد أن عرفوه فقال يا أخى لم يقطع الخلق عن الله تعالى إلا حب الدنيا وزينتها لأنها محل المعاصى والذنوب والعاقل من رمى بها عن قلبه وتاب إلى الله تعالى من ذنبه وأقبل على ما يقربه من ربه وقيل لداود الطائى لو سرحت لحيتك فقال إنى إذن لفارغ وكان أويس القرنى يقول هذه ليلة الركوع فيحيى الليل كله في ركعة وإذا كانت الليلة الآتية قال هذه ليلة السجود فيحيى الليل كله في سجدة وقيل لما تاب عتبة الغلام كان لا يتهنأ بالطعام والشراب فقالت له أمه لو رفقت بنفسك قال الرفق أطلب دعينى أتعب قليلا وأتنعم طويلا وحج مسروق فما نام قط إلا ساجدا وكان سفيان الثورى يقول عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى وقال عبد الله بن داود كان أحدهم إذا بلغ أربعين سنة طوى فراشه أى كان لا ينام طول الليل وكان كهمس بن الحسن يصلى كل يوم ألف ركعة ثم يقول لنفسه قومى يا مأوى كل شر فلما ضعف اقتصر على خمسمائة ثم كان يبكى ويقول ذهب نصف عملى وكانت ابنة الربيع بن خثيم تقول له يا أبت مالى أرى الناس ينامون وأنت لا تنام فيقول يا ابنتاه إن أباك يخاف البيات ولما رأت أم الربيع ما يلقى الربيع من البكاء والسهر نادته يا بنى لعلك قتلت قتيلا قال نعم يا أماه قالت فمن هو حتى نطلب أهله فيعفو عنك فوالله لو يعلمون ما أنت فيه لرحموك وعفوا عنك فيقول يا أماه هى نفسى وعن عمر ابن أخت بشر بن الحارث قال سمعت خالى بشر بن الحارث يقول لأمى يا أختى جوفي وخواصرى تضرب على فقالت له أمى يا أخى أتأذن لى حتى أصلح لك قليل حساء بكف دقيق عندى تتحساه يرم جوفك فقال لها ويحك أخاف أن يقول أين لك هذا الدقيق فلا أدرى إيش أقول له فبكت أمى وبكى معهما وبكيت معهم قال عمر ورأت أمى ما ببشر من شدة الجوع وجعل يتنفس نفسا ضعيفا فقالت له أمى يا أخى ليت أمك لم تلدنى فقد والله تقطعت كبدى مما أرى بك فسمعته يقول لها وأنا فليت أمى لم تلدنى وإذ ولدتنى لم يدر ثديها على قال عمر وكانت أمى تبكى عليه الليل والنهار وقال الربيع أتيت أويسا فوجدته جالسا حتى صلى الفجر ثم جلس فجلست فقلت لا أشغله عن التسبيح فمكث مكانه حتى صلى الظهر ثم قام إلى الصلاة حتى صلى العصر ثم جلس موضعه حتى صلى المغرب ثم ثبت مكانه حتى صلى العشاء ثم ثبت مكانه حتى صلى الصبح ثم جلس فغلبته عيناه فقال اللهم إنى أعوذ بك من عين نوامة ومن بطن لا تشبع فقلت حسبى هذا منه ثم رجعت ونظر رجل إلى أويس فقال يا أبا عبد الله ما لى أراك كأنك مريض فقال وما لأويس أن لا يكون مريضا يطعم المريض وأويس غير طاعم وينام المريض وأويس غير نائم وقال أحمد بن حرب يا عجبا لمن يعرف أن الجنة تزين فوقه وأن النار تسعر تحته كيف ينام بينهما وقال رجل من النساك أتيت إبراهيم ابن أدهم فوجدته قد صلى العشاء فقعدت أرقبه فلف نفسه بعباءة ثم رمى بنفسه فلم ينقلب من جنب إلى جنب الليل كله حتى طلع الفجر وأذن المؤذن فوثب إلى الصلاة ولم يحدث وضوءا فحاك ذلك في صدرى فقلت له رحمك الله قد نمت الليل كله مضطجعا ثم لم تجدد الوضوء فقال كنت الليل كله جائلا في رياض الجنة أحيانا وفي أودية النار أحيانا فهل في ذلك نوم وقال ثابت البنانى أدركت رجالا كان أحدهم يصلى فيعجز عن أن يأتى فراشه إلا حبوا وقيل مكث أبو بكر بن عياش أربعين سنة لا يضع جنبه على فراش ونزل الماء في إحدى عينيه فمكث عشرين سنة لا يعلم به أهله وقيل كان ورد سمنون في كل يوم خمسمائة ركعة وعن أبى بكر المطوعى قال كان وردى في شبيبتى كل يوم وليلة أقرأ فيه قل هو الله أحد إحدى وثلاثين ألف مرة أو أربعين ألف مرة شك الراوى وكان منصور بن المعتمر إذا رأيته قلت رجل أصيب بمصيبة منكسر الطرف منخفض الصوت رطب العينين إن حركته جاءت عيناه بأربع ولقد قالت له أمه ما هذا الذى تصنع بنفسك تبكى الليل عامته لا تسكت لعلك يا بنى أصبت نفسا لعلك قتلت قتيلا فيقول يا أمه أنا أعلم بما صنعت بنفسى وقيل لعامر ابن عبد الله كيف صبرك على سهر الليل وظمأ الهواجر فقال هل هو إلا أنى صرفت طعام النهار إلى الليل ونوم الليل إلى النهار وليس في ذلك خطير أمر وكان يقول ما رأيت مثل الجنة نام طالبها ولا مثل النار نام هاربها وكان إذا جاء الليل قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يصبح فإذا جاء النهار قال أذهب حر النار النوم فما ينام حتى يمسى فإذا جاء الليل قال من خاف أدلج وعند الصباح يحمد القوم السرى وقال بعضهم صحبت عامر بن عبد القيس أربعة أشهر فما رأيته نام بليل ولا نهار ويروى عن رجل من أصحاب على بن أبى طالب رضى الله تعالى عنه أنه قال صليت خلف على رضى الله تعالى عنه الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه وعليه كآبة فمكث حتى طلعت الشمس ثم قلب يده وقال والله لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وما أرى اليوم شيئا يشبههم كانوا يصبحون شعثا غبرا صفرا قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم وكأن القوم باتوا غافلين يعنى من كان حوله وكان أبو مسلم الخولانى قد علق سوطا في مسجد بيته يخوف به نفسه وكان يقول لنفسه قومى فوالله لأزحفن بك زحفا حتى يكون الكلل منك لا منى فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه ويقول أنت أولى بالضرب من دابتى وكان يقول أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يستأثروا به دوننا كلا والله لنزاحمهم عليه زحاما حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالا وكان صفوان بن سليم قد تعقدت ساقاه من طول القيام وبلغ من الاجتهاد ما لو قيل له القيامة غدا ما وجد متزايدا وكان إذا جاء الشتاء اضطجع على السطح ليضر به البرد وإذا كان في الصيف اضطجع داخل البيوت ليجد الحر فلا ينام وانه مات وهو ساجد وانه كان يقول اللهم إني أحب لقاءك فأحب لقائي وقال القاسم بن محمد غدوت يوما وكنت إذا غدوت بدأت بعائشة رضي الله عنها أسلم عليها فغدوت يوما إليها فإذا هى تصلى صلاة الضحى وهى تقرأ فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم وتبكى وتدعو وتردد الآية فقمت حتى مللت وهى كما هى فلما رأيت ذلك ذهبت إلى السوق فقلت أفرغ من حاجتى ثم أرجع ففرغت من حاجتى ثم رجعت وهى كما هى تردد الآية وتبكى وتدعو وقال محمد بن إسحاق لما ورد علينا عبد الرحمن ابن الأسود حاجا اعتلت إحدى قدميه فقام يصلى على قدم واحدة حتى صلى الصبح بوضوء العشاء وقال بعضهم ما أخاف من الموت إلا من حيث يحول بينى وبين قيام الليل وقال على بن أبى طالب كرم الله وجهه سيما الصالحين صفرة الألوان من السهر وعمش العيون من البكاء وذبول الشفاه من الصوم عليهم غبرة الخاشعين وقيل للحسن ما بال المتهجدين أحسن الناس وجوها فقال لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم نورا من نوره وكان عامر بن عبد القيس يقول إلهى خلقتنى ولم تؤامرنى وتميتنى ولا تعلمنى وخلقت معى عدوا وجعلته يجرى منى مجرى الدم وجعلته يرانى ولا أراه ثم قلت لى استمسك إلهى كيف أستمسك إن لم تمسكنى إلهى في الدنيا الهموم والأحزان وفي الآخرة العقاب والحساب فأين الراحة والفرح وقال جعفر بن محمد كان عتبة الغلام يقطع الليل بثلاث صيحات كان إذا صلى العتمة وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا مضى ثلث الليل صاح صيحة ثم وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا مضى الثلث الثانى صاح صيحة ثم وضع رأسه بين ركبتيه يتفكر فإذا كان السحر صاح صيحة قال جعفر بن محمد فحدثت به بعض البصريين فقال لا تنظر إلى صياحه ولكن انظر إلى ما كان فيه بين الصيحتين حتى صاح وعن القاسم بن راشد الشيبانى قال كان زمعة نازلا عندنا بالمحصب وكان له أهل وبنات وكان يقوم فيصلى ليلا طويلا فإذا كان السحر نادى بأعلى صوته أيها الركب المعرسون أكل هذا الليل ترقدون أفلا تقومون فترحلون فيتواثبون فيسمع من ههنا باك ومن ههنا داع من ههنا قارئ ومن ههنا متوضئ فإذا طلع الفجر نادى بأعلى صوته عند الصباح يحمد القوم السرى وقال بعض الحكماء إن لله عبادا أنعم عليهم فعرفوه وشرح صدورهم فأطاعوه وتوكلوا عليه فسلموا الخلق والأمر إليه فصارت قلوبهم معادن لصفاء اليقين وبيوتا للحكمة وتوابيت للعظمة وخزائن للقدرة فهم بين الخلق مقبلون ومدبرون وقلوبهم تجول في الملكوت وتلوذ بمحجوب الغيوم ثم ترجع ومعها طوائف من لطائف الفوائد وما لا يمكن واصفا أن يصفه فهم في باطن أمورهم كالديباج حسنا وهم الظاهر مناديل مبذولون لمن أرادهم تواضعا وهذه طريقة لا يبلغ إليها بالتكلف وإنما هو فضل الله يؤتيه من يشاء وقال بعض الصالحين بينما أنا أسير في بعض جبال بيت المقدس إذ هبطت إلى واد هناك فإذا أنا بصوت قد علا وإذا تلك الجبال تجيبه لها دوى عال فاتبعت الصوت فإذا أنا بروضة عليها شجر ملتف وإذا أنا برجل قائم فيها يردد هذه الآية يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا إلى قوله ويحذركم الله نفسه قال فجلست خلفه أسمع كلامه وهو يردد هذه الآية إذ صاح صيحة خر مغشيا عليه فقلت وا أسفاه هذا لشقائى ثم انتظرت إفاقته فأفاق بعد ساعة فسمعته وهو يقول أعوذ بك من مقام الكذابين أعوذ بك من أعمال البطالين أعوذ بك من إعراض الغافلين ثم قال لك خشعت قلوب الخائفين وإليك فزعت آمال المقصرين ولعظمتك ذلت قلوب العارفين ثم نفض يده فقال مالى وللدنيا وما للدنيا وما لى عليك يا دنيا بأبناء جنسك وألاف نعيمك إلى محبيك فاذهبى وإياهم فاخدعى ثم قال أين القرون الماضية وأهل الدهور السالفة في التراب يبلون وعلى الزمان يفنون فناديته يا عبد الله أنا منذ اليوم خلفك أنتظر فراغك فقال وكيف يفرغ من يبادر الأوقات وتبادره يخاف سبقها بالموت إلى نفسه أم كيف يفرغ من ذهبت أيامه وبقيت آثامه ثم قال أنت لها ولكل شدة أتوقع نزولها ثم لها عنى ساعة وقرأ وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ثم صاح صيحة أخرى أشد من الأولى وخر مغشيا عليه فقلت قد خرجت روحه فدنوت منه فإذا هو يضطرب ثم أفاق وهو يقول من أنا ما خطرى هب لى إساءتى من فضلك وجللنى بسترك واعف عن ذنوبى بكرم وجهك إذا وقفت بين يديك فقلت له بالذى ترجوه لنفسك وتثق به إلا كلمتنى فقال عليك بكلام من ينفعك كلامه ودع كلام من أو بقته ذنوبه إنى لفى هذا الموضع مذ شاء الله أجاهد إبليس ويجاهدنى فلم يجد عونا على ليخرجنى مما أنا فيه غيرك فإليك عنى يا مخدوع فقد عطلت على لسانى وميلت إلى حديثك شعبة من قلبى وأنا أعوذ بالله من شرك ثم أرجو أن يعيذنى من سخطه ويتفضل على برحمته قال فقلت هذا ولى الله أخاف أن أشغله فأعاقب فى موضعى هذا فانصرفت وتركته وقال بعض الصالحين بينما أنا أسير في مسير لى إذ ملت إلى شجرة لأستريح تحتها فإذا أنا بشيخ قد أشرف على فقال لى يا هذا قم فإن الموت لم يمت ثم هام على وجه فاتبعته فسمعته وهو يقول كل نفس ذائقة الموت اللهم بارك لى في الموت فقلت وفيما بعد الموت فقال من أيقن بما بعد الموت شمر مئزر الحذر ولم يكن له في الدنيا مستقر ثم قال يا من لوجهه عنت الوجوه بيض وجهى بالنظر إليك واملأ قلبى من المحبة لك وأجرنى من ذلك التوبيخ غدا عندك فقد آن لى الحياء منك وحان لى الرجوع عن الإعراض عنك قم قال لولا حلمك لم يسعنى أجلى ولولا عفوك لم ينبسط فيما عندك أملى ثم مضى وتركنى وقد أنشدوا في هذا المعنى نحيل الجسم مكتئب الفؤاد تراه بقمة أو بطن وادى ينوح على معاص فاضحات يكدر ثقلها صفو الرقاد فإن هاجت مخاوفه وزادت فدعوته أغثنى يا عمادى فأنت بما ألاقيه عليم كثير الصفح عن زلل العباد وقيل أيضا ألذ من التلذذ بالغوانى إذا أقبلن في حلل حسان منيب فر من أهل ومال يسيح إلى مكان من مكان ليخمل ذكره ويعيش فردا ويظهر في العبادة بالأمانى تلذذه التلاوة أين ولى وذكر بالفؤاد وباللسان وعند الموت يأتيه بشير يبشر بالنجاة من الهوان فيدرك ما أراد وما تمنى من الراحات في غرف الجنان وكان كرز بن وبرة يختم القرآن في كل يوم ثلاث مرات ويجاهد نفسه في العبادات غاية المجاهدة فقيل له قد أجهدت نفسك فقال كم عمر الدنيا فقيل سبعة آلاف سنة فقال كم مقدار يوم القيامة فقيل خمسون ألف سنة فقال كيف يعجز أحدكم أن يعمل سبع يوم حتى يأمن ذلك اليوم يعنى أنك لو عشت عمر الدنيا واجتهدت سبعة آلاف سنة وتخلصت من يوم واحد كان مقداره خمسين ألف سنة لكان ربحك كثيرا وكنت بالرغبة فيه جديرا فكيف وعمرك قصير والآخرة لا غاية لها فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مرابطة النفس ومراقبتها فمهما تمردت نفسك عليك وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء فإنه قد عز الآن وجود مثلهم ولو قدرت على مشاهدة من اقتدى بهم فهو أنجع في القلب وأبعث على الاقتداء فليس الخبر كالمعاينة وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء فإن لم تكن إبل فمعزى وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في الدين وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء وتؤثر مخالفة العقلاء فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات وقل لها يا نفس لا تستنكفى أن تكونى أقل من امرأة فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها ولنذكر الآن نبذة من أحوال المجتهدات فقد روى عن حبيبة العدوية أنها كانت إذا صلت العتمة قامت على سطح لها وشدت عليها درعها وخمارها ثم قالت إلهى قد غارت النجوم ونامت العيون وغلقت الملوك أبوابها وخلا كل حبيب بحبيبه وهذا مقامى بين يديك ثم تقبل على صلاتها فإذا طلع الفجر قالت إلهى هذا الليل قد أدبر وهذا النهار قد أسفر فليت شعرى أقبلت منى ليلتى فأهنا أم رددتها على فأعزى وعزتك لهذا دأبى ودأبك ما أبقيتنى وعزتك لو انتهرتنى عن بابك ما برحت لما وقع في نفسى من جودك وكرمك ويروى عن عجزة أنها كانت تحيى الليل وكانت مكفوفة البصر فإذا كان في السحر نادت بصوت لها محزون إليك قطع العابدون دجى الليالى يستبقون إلى رحمتك وفضل مغفرتك فبك يا إلهى أسألك لا بغيرك أن تجعلنى في أول زمرة السابقين وأن ترفعنى لديك في عليين في درجة المقربين وان تلحقنى بعبادك الصالحين فأنت أرحم الرحماء وأعظم العظماء وأكرم الكرماء يا كريم ثم تخر ساجدة فيسمع لها وجبة ثم لا تزال تدعو وتبكى إلى الفجر وقال يحيى بن بسطام كنت أشهد مجلس شعوانة فكنت أرى ما تصنع من النياحة والبكاء فقلت لصاحب لى لو أتيناها إذا خلت فأمرناها بالرفق بنفسها فقال أنت وذاك قال فأتينا فقلت لها لو رفقت بنفسك وأقصرت عن هذا البكاء شيئا فكان لك أقوى على ما تريدين قال فبكت ثم قالت والله لوددت أنى أبكى حتى تنفد دموعى ثم أبكى دما حتى لا تبقى قطرة من دم في جارحة من جوارحى وأنى لى بالبكاء وأنى لى بالبكاء فلم تزل تردد وأنى لى بالبكاء حتى غشى عليها وقال محمد بن معاذ حدثتنى امرأة من المتعبدات قالت رأيت في منامى كأنى أدخلت الجنة فإذا أهل الجنة قيام على أبوابهم فقلت ما شأن أهل الجنة قيام فقال لى قائل خرجوا ينظرون إلى هذه المرأة التى زخرفت الجنان لقدومها فقلت ومن هذه المرأة فقيل أمة سوداء من أهل الأيكة يقال لها شعوانة قالت فقلت أختى والله قالت فبينما أنا كذلك إذ أقبل بها على نجيبة تطير بها في الهواء فلما رأيتها ناديت يا أختى أما ترين مكانى من مكانك فلو دعوت لى مولاك فألحقنى بك قالت فتبسمت إلى وقالت لم يأن لقدومك ولكن احفظى عنى اثنتين ألزمى الحزن قلبك وقدمى محبة الله على هواك ولا يضرك متى مت وقال عبد الله بن الحسن كانت لى جارية رومية وكنت بها معجبا فكانت في بعض الليالى نائمة إلى جنبى فانتبهت فالتمستها فلم أجدها فقمت أطلبها فإذا هى ساجدة وهي تقول بحبك لي الا ما غفرت لي ذنوبي فقلت لها لا تقولي بحبك لي ولكن قولي بحبى لك فقالت يا مولاي بحبه لي أخرجني من الشرك إلى الاسلام وبحبه لي أيقظ عيني وكثير من خلقه نيام وقال أبو هاشم القرشي قدمت علينا امرأة من أهل اليمن يقال لها سرية فنزلت في بعض ديارنا قال فكنت أسمع لها من الليل أنينا وشهيقا فقلت يوما لخادم لي أشرف على هذه المرأة ماذا تصنع قال فأشرف عليها فما رآها تصنع شيئيا غير أنها لا ترد طرفها عن السماء وهي مستقبلة القبلة تقول خلقت سرية ثم غذيتها بنعمتك من حال إلى حال وكل أحوالك لها حسنة وكل بلائك عندها جميل وهي مع ذلك متعرضة لسخطك بالتوثب على معاصيك فلتة بعد فلتة أتراها تظن أنك لا ترى فعالها وأنت عليم خبير وأنت على كل شيء قدير وقال ذو النون المصري خرجت ليلة من وادي كنعان فلما علوت الوادي إذا سواد مقبل على وهو يقول وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون ويبكي فلما قرب مني السواد اذا هي امرأة عليها جبة صوف وبيدها ركوة فقالت لي من أنت غير فزعة مني فقلت رجل غريب فقالت يا هذا وهل يوجد مع الله غربة قال فبكيت لقولها فقالت ما الذي أبكاك فقلت قد وقع الدواء على داء قد قرح فأسرع في نجاحه قالت فإن كنت صادقا فلم بكيت قلت يرحمك الله والصادق لا يبكي قالت لا قلت ولم ذاك قالت لأن البكاء راحة القلب فسكت متعجبا من قولها وقال أحمد بن علي استأذنا على عفيرة فحجبتنا فلازمنا الباب فلما علمت ذلك قامت لتفتح الباب لنا فسمعتها وهي تقول اللهم إني أعوذ بك ممن جاء يشغلني عن ذكرك ثم فتحت الباب ودخلنا عليها فقلنا لها يا أمة الله ادعي لنا فقالت جعل الله قراءكم في بيتى المغفرة ثم قالت لنا مكث عطاء السلمى أربعين سنة فكان لا ينظر إلى السماء فحانت منه نظرة فخر مغشيا عليه فأصابه فتق في بطنه فيا ليت عفيرة إذا رفعت رأسها لم تعص وياليتها إذا عصت لم تعد وقال بعض الصالحين خرجت يوما إلى السوق ومعى جارية حبشية فاحتبستها في موضع بناحية السوق وذهبت في بعض حوائجى وقلت لا تبرحى حتى أنصرف إليك قال فانصرفت فلم أجدها في الموضع فانصرفت إلى منزلى وأنا شديد الغضب عليها فلما رأتنى عرفت الغضب في وجهى فقالت يا مولاى لا تعجل على إنك أجلستنى في موضع لم أر فيه ذاكرا لله تعالى فخفت أن يخسف بذلك الموضع فعجبت لقولها وقلت لها أنت حرة فقالت ما صنعت كنت أخدمك فيكون لى أجران وأما الآن فقد ذهب عنى أحدهما وقال ابن العلاء السعدى كانت لى ابنة عم يقال لها بريرة تعبدت وكانت كثيرة القراءة في المصحف فكلما أتت على آية فيها ذكر النار بكت فلم تزل تبكى حتى ذهبت عيناها من البكاء فقال بنو عمها انطلقوا بنا إلى هذه المرأة حتى نعدلها في كثرة البكاء قال فدخلنا عليها فقلنا يا بريرة كيف أصبحت قالت أصبحنا أضيافا منيخين بأرض غربة ننتظر متى ندعى فنجيب فقلنا لها ما هذا البكاء قد ذهبت عيناك منه فقالت إن يكن لعينى عند الله خير فما يضرهما ما ذهب منهما في الدنيا وإن كان لهما عند الله شر فسيزيدهما بكاء أطول من هذا ثم أعرضت قال فقال القوم قوموا بنا فهى والله في شىء غير ما نحن فيه وكانت معاذة العدوية إذا جاء النهار تقول هذا يومى الذى أموت فيه فما تطعم حتى تمسى فإذا جاء الليل تقول هذه الليلة التى أموت فيها فتصلى حتى تصبح وقال أبو سليمان الدارانى بت ليلة عند رابعة فقامت إلى محراب لها وقمت أنا إلى ناحية من البيت فلم تزل قائمة إلى السحر فلما كان السحر قلت ما جزاء من قوانا على قيام هذه الليلة قالت جزاؤه أن تصوم له غدا وكانت شعوانة تقول في دعائها إلهى ما أشوقنى إلى لقائك وأعظم رجائى لجزائك وأنت الكريم الذى لا يخيب لديك أمل الآملين ولا يبطل عندك شوق المشتاقين إلهى إن كان دنا أجلى ولم يقربنى منك عمل فقد جعلت الاعتراف بالذنب وسائل عللى فإن عفوت فمن أولى منك بذلك وإن عذبت فمن أعدل منك هنالك إلهى قد جرت على نفسى في النظر لها وبقى لها حسن نظرك فالويل لها إن لم تسعدها إلهى إنك لم تزل بى برا أيام حياتى فلا تقطع عنى برك بعد مماتى ولقد رجوت ممن تولانى في حياتى بإحسانه أن يسعفنى عند مماتى بغفرانه إلهى كيف أيأس من حسن نظرك بعد مماتى ولم تولنى إلا الجميل في حياتى إلهى إن كانت ذنوبى قد أخافتنى فإن محبتى لك قد أجارتنى فتول من أمرى ما أنت أهله وعد بفضلك على من غره جهله إلهى لو أردت إهانتى لما هديتنى ولو أردت فضيحتى لم تسترنى فمتعنى بما له هديتنى وأدم لى ما به سترتنى إلهى ما أظنك تردنى في حاجة أفنيت فيها عمرى إلهى لولا ما قارفت من الذنوب ما خفت عقابك ولولا ما عرفت من كرمك ما رجوت ثوابك وقال الخواص دخلنا على رحلة العابدة وكانت قد صامت حتى اسودت وبكت حتى عميت وصلت حتى أقعدت وكانت تصلى قاعدة فسلمنا عليها ثم ذكرناها شيئا من العفو ليهون عليها الأمر قال فشهقت ثم قالت علمى بنفسى قرح فؤادى وكلم كبدى والله لوددت أن الله لم يخلقنى ولم أك شيئا مذكورا ثم أقبلت على صلاتها فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين لينبعث نشاطك ويزيد حرصك وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك على سبيل الله وحكايات المجتهدين غير محصورة وفيما ذكرناه كفاية للمعتبر وإن أردت مزيدا فعليك بالمواظبة على مطالعة كتاب حلية الأولياء فهو مشتمل على شرح أحوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم وبالوقوف عليه يستبين لك بعدك وبعد أهل عصرك من أهل الدين فإن حدثتك نفسك بالنظر إلى أهل زمانك وقالت إنما تيسر الخير في ذلك الزمانلكثرة الأعوان والآن فإن خالفت أهل زمانك رأوك مجنونا وسخروا بك فوافقهم فيما هم فيه وعليه فلا يجرى عليك إلا ما يجرى عليهم والمصيبة إذا عمت طابت فإياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها وقل لها أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبى في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم وتستجهلينهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك فإذا كنت تتركين موافقتهم خوفا من الغرق وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال ومن أين تطيب المصيبة إذا عمت ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم حيث قالو إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك وحملها على الاجتهاد فاستعصت أن لا تترك معاتبتها وتوبيخها وتعريفها سوء نظرها لنفسها فعساها تنزجر عن طغيانها المرابطة السادسة في توبيخ النفس ومعاتبتها أعلم أن أعدى عدوك نفسك التى بين جنبيك وقد خلقت أمارة بالسوء ميالة إلى الشر فرارة من الخير وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها ومنعها عن شهواتها وفطامها عن لذاتها فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك وإن لازمتها بالتوبيخ والمعاتبة والعذل والملامة كانت نفسك هى النفس اللوامة التى أقسم الله بها ورجوت أن تصير النفس المطمئنة المدعوة إلى أن تدخل فى زمرة عباد الله راضية مرضية قال تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها ولا تشتغلن بوعظ غيرك ما لم تشتغل أولا بوعظ نفسك أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام يا ابن مريم عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس إلا فاستحى منى وقال تعالى وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها وأنها أبدا تتعزر بفطنتها وهدايتها ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الحمق فتقول لها يا نفس ما أعظم جهلك تدعين الحكمة

 والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقا أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار وأنك صائرة إلى إحداهما على القرب فما لك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم وعساك اليوم تختطفين أو غدا فأراك ترين الموت بعيدا ويراه الله قريبا أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب وأن البعيد ما ليس بآت أما تعلمين أن الموت يأتى بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأة وأنه لا يأتى في شىء دون شىء ولا في شتاء دون صيف ولا في صيف دون شتاء ولا في نهار دون ليل ولا في ليل دون نهار ولا يأتى في الصبا دون الشباب ولا في الشباب دون الصبا بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة فإن لم يكن الموت فجأة فيكون المرض فجأة ثم يفضى إلى الموت فما لك لا تستعدين للموت وهو أقرب إليك من كل قريب أما تتدبرين قوله تعالى اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون لاهية قلوبهم ويحك يا نفس إن كانت جراءتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك فما أعظم كفرك وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حياءك ويحك يا نفس لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأى جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه أفتظنين أنك تطيقين عذابه هيهات هيهات جربى نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه فاحتبسى ساعة في الشمس أو فى بيت الحمام أو قربى أصبعك من النار ليتبين قدر طاقتك أمتغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فما لك لا تعولين على كرم الله تعالىفي مهمات دنياك فإذا قصدك عدو فلم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله تعالى وإذا أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا ينقضى إلا بالدينار والدرهم فما لك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبدا من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعى منك ولا طلب أفتحسبين أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها وأن رب الآخرة والدنيا واحد وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودواعيك الباطلة فإنك تدعين الإيمان بلسانك وأثر النفاق ظاهر عليك ألم يقل لك سيدك ومولاك وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها وقال في أمر الآخرة وأن ليس للإنسان إلا ما سعى فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة وصرفك عن السعى فيها فكذبته بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر ما هذا من علامات الإيمان لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار ويحك يا نفس كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب وتظنين أنك إذا مت انفلت وتخلصت وهيهات أتحسبين أنك تتركين سدى ألم تكونى نطفة من منى يمنى ثم كنت علقة فخلق فسوى أليس ذلك بقادر على أن يحيى الموتى فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك أما تتفكرين أنه مماذا خلقك من نطفة خلقك فقدرك ثم السبيل يسرك ثم أماتك فأقبرك أفتكذبينه في قوله ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكونى مكذبة فما لك لا تأخذين حذرك ولو أن يهوديا أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه وتركته وجاهدت نفسك فيه أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيرا من قول يهودى يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقربا لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل وبرهان أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول صبى من جملة الأغبياء أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوما أو أقل منه ما هذه أفعال العقلاء بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك وسخروا من عقلك فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك وآمنت به فما لك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة فبماذا أمنت استعجال الأجل وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلا بطالا يعد نفسه بالتفقه فى السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه اعتمادا على كرم الله سبحانه وتعالى ثم هبى أن الجهد في آخر العمر نافع وأنه موصل إلى الدرجات العلا فلعل اليوم آخر عمرك فلم تشتغلين فيه بذلك فإن أوحى إليك بالإمهال فما المانع من المبادرة وما الباعث لك على التسويف هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة أفتنتظرين يوما يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس وهذا محال وجوده أما تتأملين مذ كم تعدين نفسك وتقولين غدا غدا فقد جاء الغد وصار يوما فكيف وجدته أما علمت أن الغد الذى جاء وصار يوما كان له حكم الأمس لا بل الذى تعجزين عنه اليوم فأنت غدا عنه أعجز وأعجز لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التى تعبد العبد بقلعها فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوى فأخرها إلى سنة أخرى مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخا ويزيد القالع ضعفا ووهنا فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط فى المشيب بل من العناء رياضة الهرم ومن التعذيب تهذيب الذيب والقضيب الرطب يقبل الانحناء فإذا جف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تدعين الحكمة وأية حماقة تزيد على هذه الحماقة ولعلك تقولين ما يمنعنى عن الاستقامة إلا حرصى على لذة الشهوات وقلة صبرى على الآلام والمشقات فما أشد غباوتك وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك فاطلبى التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها قرب أكلة تمنع أكلات وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ثلاثة أيام ليصح ويهنأ بشربة طول عمره وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضا مزمنا وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضى شهوته في الحال خوفا من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذى هو مدة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر وإن طالت مدته وليت شعرى ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفى أو لحمق جلى أما الكفر الخفى فهو ضعف إيمانك بيوم الحساب وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب وأما الحمق الجلى فاعتمادك على كرم الله تعالى وعفوه من غير التفات إلى مكره واستدراجه واستغنائه عن عبادتك مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز أو حبة من المال أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والأحمق من أتبع نفسههواها وتمنى على الله الأمانى ويحك يا نفس لا ينبغى أن تغرك الحياة الدنيا ولا يغرنك بالله الغرور فانظرى لنفسك فما أمرك بمهم لغيرك ولا تضيعى أوقاتك فالأنفاس معدودة فإذا مضى منك نفس فقد ذهب بعضك فاغتنمى الصحة قبل السقم والفراغ قبل الشغل والغنى قبل الفقر والشباب قبل الهرم والحياة قبل الموت واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها يا نفس أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته فتجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب ولا تتكلين في ذلك على فضل الله وكرمه حتى يدفع عنك البرد من غير جبة ولبد وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف بردا وأقصر مدة من زمهرير الشتاء أم تظنين أن ذلك دون هذا كلا أن يكون هذا كذلك أو أن يكون بينهما مناسبة في الشدة والبرودة أفتظنين أن العبد ينجو منها يغير سعى هيهات كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالجبة والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحصن التوحيد وخندق الطاعات وإنما كرم الله تعالى فى أن عرفك طريق التحصن ويسر لك أسبابه لا فى أن يندفع عنك العذاب دون حصنه كما أن كرم الله تعالى فى دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها من بين حديدة وحجر حتى تدفعى بها برد الشتاء عن نفسك وكما ان شراه الحطب والجبة مما يستغنى عنه خالقك ومولاك وإنما تشترينه لنفسك إذ خلقه سببا لاستراحتك فطاعاتك ومجاهداتك أيضا هو مستغن عنها وإنما هى طريقك إلى نجاتك فمن أحسن فلنفسه ومن أساء فعليها والله غنى عن العالمين ويحك يا نفس انزعى عن جهلك وقيسى آخرتك بدنياك فما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة و كما بدأنا أول خلق نعيده و كما بدأكم تعودون وسنة الله تعالى لا تجدين لها تبديلا ولا تحويلا ويحك يا نفس ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها فعسر عليك مفارقتها وأنت مقبلة على مقاربتها وتؤكدين في نفسك مودتها فاحسن أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه وعن أهوال القيامة وأحوالها فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فمد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك ومالك فيها إلا مجاز وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعى أحبب من أحببت فإنك مفارقه واعمل ما شئت فإنك مجزى به وعش ما شئت فإنك ميت حديث إن روح القدس نفث في روعى أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم في العلم وغيره ويحك يا نفس أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها مع أن الموت من ورائه فإنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدرى أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا ثم ذهبوا وخلوا وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون ويبنون ما لا يسكنون ويؤملون ما لا يدركون يبنى كل واحد قصرا مرفوعا إلى جهة السماء ومقره قبر محفور تحت الأرض فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقينا ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعا أما تستحيين يا نفس من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم واحسبى أنك لست ذات بصيرةتهتدى إلى هذه الأمور وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه والاقتداء فقيسى عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا واقتدى من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء يا نفس ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك عجبا لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه وأدهشك عن فهمها أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك فاحسبى أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين انت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك وسيأتى زمان لا يبقى ذكرك ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا فكيف تبيعين يا نفس ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقى هذا إن كنت ملكا من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب حتى أذعنت لك الرقاب وانتظمت لك الأسباب كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلا عن محلتك فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فما لك لا تتركينها ترفعا عن خسة شركائها وتنزها عن كثرة عنائها وتوقيا من سرعة فنائها أم ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء فما أجهلك وأخس همتك وأسقط رأيك إذ رغبت عن ان تكونى في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبدين لتكونى في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياما قلائل فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادرى ويحك يا نفس فقد أشرفت على الهلاك واقترب الموت وورد النذير فمن ذا يصلى عنك بعد الموت ومن ذا يصوم عنك بعد الموت ومن ذا يترضى عنك ربك بعد الموت ويحك يا نفس مالك إلا أيام معدودة هى بضاعتك إن اتجرت فيها وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك أما تعلمين يا نفس أن الموت موعدك والقبر بيتك والتراب فراشك والدود أنيسك والفزع الأكبر بين يديك أما علمت يا نفس أن عسكر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان المغلظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوما ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لا شتروه لو قدروا عليه وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة ويحك يا نفس أما تستحيين تزينين ظاهرك للخلق وتبارزين الله في السر بالعظائم أفتستحيين من الخلق ولا تستحيين من الخالق ويحك أهو أهون الناظرين عليك أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل تدعين إلى الله وأنت عنه فارة وتذكرين بالله وأنت له ناسية أما تعلمين يا نفس أن المذنب أنتن من العذرة وأن العذرة لا تطهر غيرها فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق المعرفة لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حمارا لإبليس يقودك إلى حيث يريد ويسخر بك ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأسا برأس لكان الربح في يديك وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة بعد أن عبده مائتى ألف سنة وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه ويحك يا نفس ما أغدرك ويحك يا نفس ما أوقحك ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصى ويحك كم تعقدين فتنقضين ويحك كم تعهدين فتغدرين ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا جمعوا كثيرا وبنوا مشيدا وأملوا بعيدا فأصبح جمعهم بورا وبنيانهم قبورا وأملهم غرورا ويحك يا نفس أما لك بهم عبرة أما لك إليهم نظرة أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين هيهات هيهات ساء ما تتوهمين ما أنت إلا فى هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك فابنى على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل يكون قبرك أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقى أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان وكلح الوجوه وبشرى بالعذاب فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء والعجب كل العجب منك يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك ولا تحزنين بنقصان عمرك وما نفع مال يزيد وعمر ينقص ويحك يا نفس تعرضين عن الآخرة وهى مقبلة عليك وتقبلين على الدنيا وهى معرضة عنك فكم من مستقبل يوما لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لا يبلغه فأنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك فاحذرى أيتها النفس المسكينة يوما آلى الله فيه على نفسه أن لا يترك عبد أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله سره وعلانيته فانظرى يا نفس بأى بدن تقفين بين يدى الله وبأى لسان تجيبين وأعدى للسؤال جوابا وللجواب صوابا واعملى بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال وفي دار زوال لدار مقامة وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود اعملى قبل أن لا تعملى اخرجى من الدنيا اختيارا خروج الأحرار قبل أن تخرجى منها على الاضطرار ولا تفرحى بما يساعدك من زهرات الدنيا فرب مسرور مغبون ورب مغبون لا يشعر فويل لمن له الويل ثم لا يشعر يضحك ويفرح ويلهو ويمرح ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله انه من وقود النار فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتبارا وسعيك لها اضطرارا ورفضك لها اختيارا وطلبك للآخرة ابتدارا ولا تكونى ممن يعجز عن شكر ما أوتى ويبتغى الزيادة فيما بقى وينهى الناس ولا ينتهى واعلمى يا نفس أنه ليس للدين عوض ولا للإيمان بدل ولا للجسد خلف ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر فاتعظى يا نفس بهذه الموعظة واقبلى هذه النصيحة فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضى بالنار وما أراك بها راضية ولا لهذه الموعظة واعية فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعينى عليها بدوام التهجد والقيام فإن لم تزل فالمواظبة على الصيام فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام فإن لم تزل فاعلمى أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه فوطنى نفسك على النار فقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلا وخلق النار وخلق لها أهلا فكل ميسر لما خلق له فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطى من نفسك والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك فلا سبيل لك إلى القنوط ولا سبيل لك إلى الرجاء مع انسداد طرق الخير عليك فإن ذلك اغترار وليس برجاء فانظرى الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التى ابتليت بها وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة فقد بقى فيك موضع للرجاء فواظبي على النياحة والبكاء واستعينى بأرحم الراحمين واشتكى إلى أكرم الأكرمين وأدمنى الاستغاثة ولا تملى طول الشكاية لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك فإن مصيبتك قد عظمت وبليتك قد تفاقمت وتماديك قد طال وقد انقطعت منك الحيل وراحت عنك العلل فلا مذهب ولا مطلب ولا مستغاث ولا مهرب ولا ملجأ ولا منجا إلا إلى مولاك فافزعى إليه بالتضرع واخشعى في تضرعك على قدر عظم جهلك وكثرة ذنوبك لأنه يرحم المتضرع الذليل ويغيث الطالب المتلهف ويجيب دعوة المضطر وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة وإلى رحمته محتاجة وقد ضاقت بك السبل وانسدت عليك الطرق وانقطعت منك الحيل ولم تنجح فيك العظات ولم يكسرك التوبيخ فالمطلوب منه كريم والمسئول جواد والمستغاث به بر رءوف والرحمة واسعة والكرم فائض والعفو شامل وقولى يا أرحم الراحمين يا رحمن يا رحيم يا حليم يا عظيم يا كريم أنا المذنب المصر أنا الجرىء الذى لا أقلع أنا المتمادى الذى لا أستحى هذا مقام المتضرع المسكين والبائس الفقير والضعيف الحقير والهالك الغريق فعجل إغاثتى وفرجى وأرنى آثار رحمتك وأذقنى برد عفوك ومغفرتك وارزقنى قوة عظمتك يا أرحم الراحمين اقتداء بأبيك آدم عليه السلام فقد قال وهب بن منبه لما أهبط الله آدم من الجنة إلى الأرض مكث لا ترقأ له دمعة فاطلع الله عز وجل عليه في اليوم السابع وهو محزون كئيب كظيم منكس رأسه فأوحى الله تعالى إليه يا آدم ما هذا الجهد الذى أرى بك قال يا رب عظمت مصيبتى وأحاطت بى خطيئتى وأخرجت من ملكوت ربى فصرت في دار الهوان بعد الكرامة وفي دار الشقاء بعد السعادة وفي دار النصب بعد الراحة وفي دار البلاء بعد العافية وفي دار الزوال بعد القرار وفي دار الموت والفناء بعد الخلود والبقاء فكيف لا أبكى على خطيئتى فأوحى الله تعالى إليه يا آدم ألم أصطفك لنفسى وأحللتك دارى وخصصتك بكرامتى وحذرتك سخطى ألم أخلقك بيدى ونفخت فيك من روحى وأسجدت لك ملائكتى فعصيت أمرى ونسيت عهدى وتعرضت لسخطى فو عزتى وجلالى لو ملأت الأرض رجالا كلهم مثلك يعبدونني ويسبحونني ثم عصونى لأنزلتهم منازل العاصين فبكى آدم عليه السلام عند ذلك ثلثمائة عام وكان عبيد الله البجلى كثير البكاء يقول في بكائه طول ليله إلهى أنا الذى كلما طال عمرى زادت ذنوبى أنا الذى كلما هممت بترك خطيئة عرضت لى شهوة أخرى واعبيداه خطيئة لم تبل وصاحبها في طلب أخرى واعبيداه إن كانت النار لك مقيلا ومأوى واعبيداه إن كانت المقامع برأسك تهيأ واعبيداه قضيت حوائج الطالبين ولعل حاجتك لا تقضى وقال منصور بن عمار سمعت في بعض الليالى بالكوفة عابدا يناجى ربه وهو يقول يا رب وعزتك ما أرد بمعصيتك مخالفتك ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل ولا لعقوبتك متعرض ولا لنظرك مستخف ولكن سولت لى نفسى وأعاننى على ذلك شقوتى وغرنى سترك المرخى على فعصيتك بجهلى وخالفتك بفعلى فمن عذابك الآن من يستنقذنى أو بحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عنى واسوأتاه من الوقوف بين يديك غدا إذا قيل للمخفين جوزوا وقيل للمثقلين حطوا أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط ويلى كلما كبرت سنى كثرت ذنوبى ويلى كلما طال عمرى كثرت معاصى فإلى متى أتوب وإلى متى أعود أما آن لى أن أستحيى من ربي فهذه طرق القوم في مناجاة مولاهم وفي معاتبة نفوسهم وإنما مطلبهم من المناجاة الاسترضاء ومقصدهم من المعاتبة التنبيه والاسترعاء فمن أهمل المعاتبة والمناجاة لم يكن لنفسه مراعيا ويوشك أن لا يكون الله تعالى عنه راضيا والسلام ثم كتاب المحاسبة والمراقبة يتلوه كتاب التفكر إن شاء الله تعالى والحمد لله وحده وصلاته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلامه.