كتاب الخوف والرجاء

Iḥyāʾ ʿUlūm Al-Dīn

وهو كتاب الثالث من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحمن

الحمد لله المرجو لطفه وثوابه المخوف مكره وعقابه الذى عمر قلوب أوليائه بروح رجائه حتى ساقهم بلطائف آلائه إلى النزول بفنائه والعدول عن دار بلائه التى هي مستقر أعدائه وضرب بسياط التخويف وزجره العنيف وجوه المعرضين عن حضرته إلى دار ثوابه وكرامته وصدهم عن التعرض لأئمته والتهدف لسخطه ونقمته قودا لأصناف الخلق بسلاسل القهر والعنف وأزمة الرفق واللطف إلى جنته والصلاة والسلام على محمد سيد أنبيائه وخير خليقته وعلى آله وأصحابه وعترته أما بعد فإن الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كسود فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان مع كونه بعيد الأرجاء ثقيل الأعباء مجفوفا بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء إلا أزمة الرجاء ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم مع كونه محفوفا بلطائف الشهوات وعجائب اللذات إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف فلا بد إذن من بيان حقيقتهما وفضيلتهما وسبيل التوصيل إلى الجمع بينها مع تضادهما وتعاندهما ونحن نجمع ذكرهما في كتاب واحد يشمل على شطرين الشطر الأول في الرجاء والشطر الثانى في الخوف أما الشطر الأول فيشتمل على:

بيان حقيقة الرجاء وبيان فضيلة الرجاء وبيان دواء الرجاء

والطرق الذى يجتلب به الرجاء بيان حقيقة الرجاء

أعلم أن الرجاء من جملة مقامات السالكين وأحوال الطالبين وإنما يسمى الوصف مقاما إذا ثبت وأقام وإنما يسمى حالا إذا كان عارضا سريع الزوال وكما أن الصفرة تنقسم إلى ثابتة كصفرة  الذهب وإلى سريعةالزوال كصفرة الوجل وإلى ما هو بينهما كصفرة المريض فكذلك صفات  القلب تنقسم هذه الأقسام فالذى هو غير ثابت يسمى حالا لأنه يحول على القرب وهذا جار  في كل وصف من أوصاف القلب وغرضنا الآن حقيقة الرجاء فالرجاء أيضا يتم من حال  وعلم وعمل فالعلم سبب يثمر الحال والحال يقتضى العمل وكان الرجاء اسما من جملة الثلاثة  وبيانه أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب فينقسم إلى موجود في الحال وإلى موجود فيما  مضى وإلى منتظر في الاستقبال فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمى ذكرا وتذكرا وإن  كان من خطر بقلبك موجودا في الحال سمى وجدا وذوقا وإدراكا وإنما سمى وجدا لأنها حالة  تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شىء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك  سمى انتظار وتوقعا فإن كان المنظر مكروها حصل منه ألم في القلب سمى خوفا وإشفاقا وإن  كان محبوبا حصل من انتظاره وتعلق القلب به وإخطار وجوده بالبال لذة في القلب وارتياح  سمى ذلك الارتياح رجاء فالرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ولكن ذلك المحبوب المتوقع لا بد وأن يكون له سبب فإن كان انتظاره لأجل حصول أكثر أسبابه الرجاء  عليه صادق وإن كان ذلك انظارا مع انخرام أسبابه واضطرابها فاسم الغرور والحمق عليه  أصدق من اسم الرجاء وإن لم تكن الأسباب معلومة الوجود ولا معلومة الانتقاء فاسم التمنى  أصدق على انتظاره لأنه انتظار من غير سبب وعلى كل حال فلا يطلق اسم الرجاء والخوف  إلا على ما يتردد فيه أما ما يقطع به فلا إذا لا يقال أرجو طلوع الشمس وقت الطلوع وأخاف غروبها وقت الغروب لأن ذلك مقطوع به نعم يقال أرجو نزول المطر وأخاف انقطاعه وقد علم أرباب القلوب أن الدنيا مزرعة الآخرة والقلب كالأرض والإيمان كالبدر فيه والطاعات جارية مجرى تقليب الأرض وتطهيرها ومجرى حفر الأنهار وسياقه الماء إليها والقلب المستهتر في الدنيا المستغرق بها كالأرض السبخة التى لا ينمو فيها البذر ويوم القيامة يوم الحصاد ولا يحصد أحد إلا ما زرع ولا ينمو زرع إلا من بذر السبخة التى لا ينمو إيمان مع خبث القلب وسوء أخلافه كما لا ينمو بذر في أرض سبخة فينبغى أن يقاس رجاء العبد المغفرة برجاء صاحب الزرع فكل من طلب أرضا طيبة وألقى فيها بذرا جيدا غير عفن ولا مسوس ثم أمده بما يحتاج إليه وهو سوق الماء إليه في أوقاته ثم نقى الشوك عن الأرض والحشيش وكل ما يمنع نبات البذر او يفسده ثم جلس منتظرا من فضل الله تعالى دفع الصواعق والآفات المفسدة إلى أن يتم الزرع ويبلغ غايته سمى انتظاره رجاء وإن بث البذر في أرض صلبة سبخة مرتفعة لا ينصب إليها الماء ولم يشتغل بتعهد البذر اصلا ثم انتظر الحصاد منه سمى انتظاره حمقا وغرورا لا رجاء وإن بث البذر في أرض طيبة ولكن لا ماء لها وأخذ ينتظر مياه الأمطار حيث لا تغلب الأمطار ولا تمتنع أيضا سمى انتظاره تمنيا لا رجاء فإذن اسم الرجاء إنما يصدق على انتظاره محبوب تمهدت جميع أسبابه الداخلة تحت اختيار العبد ولم يبق إلا ما ليس يدخل تحت اختياره وهو فضل الله تعالى بصرف القواطع والمفسدات فالعبد إذا بث بذر الإيمان وسقاه بماء الطاعات وطهر القلب عن شوك الأخلاق الردئية وانتظر من فضل الله تعالى تثبيته على ذلك إلى الموت وحسن الخاتمة المفضية إلى المغفرة وكان انتظاره رجاء حقيقا محمودا في نفسه باعثا له على المواظبة القيام بمقتضى أسباب الإيمان في إنمام أسباب المغفرة إلى الموت وإن قطع عن بذر الإيمان تعهده بماء الطاعات وترك القلب مشحونا برذائل الأخلاق وانهمك في طلب لذات الدنيا ثم انتظر المغفرة فانتظاره حمق وغرور قال صلى الله عليه وآله وسلم الأحمق من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الجنة وقال تعالى فخلف من بعدهم أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا وقال تعالى فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وذم الله تعالى صاحب البستان إذا دخل جنته وقال ما أظن تبيده هذه أبدا وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربدى لأجدن خيرا منها منقلبا فإذا العبد المجتهد في الطاعات المجتنب للمعاصى حقيق بإن ينتظر من فضل الله تمام النعمة وما تمام النعمة إلا بدخول الجنة وأما العاصى فإذا تاب وتدارك جميع ما فرط منه من تقصير فحقيق بأن يرجو قبول التوبة وأما قبل التوبة إذا كان كارها للمعصية تسوءه السيئة وتسره الحسنة وهو يذم نفسه ويلومها ويشتهى التوبة ويشتاق إليها فحقيق بأن يرجو منا لله التوفيق للتوبة لأن كراهيتة للمعصية وحؤصه على التوبة يجرى مجرى السبب الذى قد يفضى إلى التوبة وإما الرجاء بعد تأكد الأسباب ولذلك قال تعالى إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله معناه أولئك يستحون أن يرجوا رحمة الله وما أراد به تخصيص وجود الرجاء لأن غيرهم أيضا قد يرجو ولكن خصص بهم استحقاق الرجاء فأما من ينهمك فيما يكرهه الله تعالى ولا يذم نفسه عليه ولا يعزم على التوبة والرجوع فرجاؤه المغفرة حمق كرجاء من بث البذر في أرض سبخة وعزم على أن لا يتعهده بسقى ولا تنقية قال يحيى بن معاذ من أعظم الإغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة وتوقع القرب من الله تعالى بغير طاعة وانتظار زرع الجنة ببذر النار وطلب دار المطيعين بالمعاصي وانتظار الجزاء بغير عمل والتمني على الله عز وجل مع الإفراط ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس فإذا عرفت حقيقة الرجاء ومظنته فقد علمت أنها حالة أثمرها العلم بجريان أكثر الأسباب وهذه الحالة تثمر الجهد للقيام ببقية الأسباب على حسب الإمكان فإن من حسن بذره وطابت أرضه وغزر ماؤه صدق رجاؤه فلا يزال يحمله صدق الرجاء على تفقد الأرض وتعهدها وتنحية كل حشيش ينبت فيها فلا يفتر عن تعهدها أصلا إلى وقت الحصاد وهذا لأن الرجاء يضاده اليأس واليأس يمنع من التعهد فمن عرف أن الأرض سبخة وأن الماء معوز وأن البذر لا ينبت فيترك لا محالة تفقد الأرض والتعب في تعهدها والرجاء محمود لأنه باعث واليأس مذموم وهو ضده لأنه صارف عن العمل والخوف ليس بضد للرجاء بل هو رفيق له كما سيأتي بيانه بل هو باعث آخر بطريق الرهبة كما أن الرجاء باعث بطريق الرغبة فإذن حال الرجاء يورث طول المجاهدة بالأعمال والمواظبة على الطاعات كيفما تقلبت الأحوال ومن آثاره التلذذ بدوام الإقبال على الله تعالى والتنعم بمناجاته والتلطف في التملق له فإن هذه الأحوال لابد وأن تظهر على كل من يرجو ملكا من الملوك أو شخصا من الأشخاص فكيف لا يظهر ذلك في حق الله تعالى فإن كان لا يظهر فليستدل به على الحرمان عن مقام الرجاء والنزول في حضيض الغرور والتمنى فهذا هو البيان لحال الرجاء ولما أثمره من العلم ولما استثمر منه من العمل ويدل على إثماره لهذه الأعمال حديث زيد الخيل إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم جئت لأسألك عن علامة الله فيمن لا يريد وعلامته فيمن لا يريد فقال كيف أصبحت قال أصحبت أحب الخير وأهله وإذا قدرت على شىء منه سارعت إليه وأيقنت بثوابه وإذا فاتني منه شيىء حزنت عليه وحننت إليه فقال هذه علامة الله فيمن يريد ولو أرادك للأخرى هيأك لها ثم لا يبالى في أي أوديتها هلكت فقد ذكر صلى الله عليه وسلم علامة من أريد به الخير فمن ارتجى أن يكون مرادا بالخير من غير هذه العلامات فهو مغرور حديث قال زيد الخيل جئت لأسألك عن علامة الله فيمن يريد وعلامته فيمن لا يريد الحديث أخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وفيه أنه قال أنت زيد الخير وكذا قال ابن أبي حاتم سماه النبي صلى الله عليه وسلم زيد الخير يروى عنه حديث وذكره في حديث يروى فقال زيد الخير فقال يا رسول الله الحديث سمعت أبي يقول ذلك.

بيان فضيلة الرجاء والترغيب فيه

اعلم أن العمل على الرجاء أعلى منه على الخوف لأن أقرب العباد إلى الله تعالى أحبهم له والحب يغلب الرجاء واعتبر ذلك بملكين يخدم أحداهما خوفا من عقابه والآخر رجاء لثوابه ولذلك ورد في الرجاء وحسن الظن رغائب لا سيما في وقت الموت قال تعالى لا تقنطوا من رحمة الله فحرم أصل اليأس وفي أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه أتدري لم فرقت بينك وبين يوسف لأنك قلت أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون لم خفت الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة إخوته ولم تنظر إلى حفظى له وقال صلى الله عليه وسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله تعالى حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله أخرجه مسلم من حديث جابر وقال صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء حديث أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء أخرجه ابن حيان من حديث وائلة بن الأسقع وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة دون قوله فليظن بي ما شاء ودخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال كيف تجدك فقال أجدني أخاف ذنوبي وأرجو رحمة ربي فقال صلى الله عليه وسلم ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما رجا وأمنه مما يخاف حديث دخل صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في النزع فقال كيف تجدك الحديث رواه الترمذي وقال غريب والنسائي في الكبرى وابن ماجه من حديث أنس وقال النووي إسناده جيد وقال علي رضي الله عنه لرجل أخرجه الخوف إلى القنوط لكثرة ذنوبه يا هذا يأسك من رحمة الله أعظم من ذنوبك وقال سفيان من أذنب ذنبا فعلم أن الله تعالى قدره عليه ورجاء غفرانه غفر الله له ذنبه قال لأن الله عز وجل عير قوما فقال وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم وقال تعالى وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا وقال صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره فإن لقنه الله حجته قال يا رب رجوتك وخفت الناس قال فيقول الله تعالى قد غفرته لك حديث إن الله يقول للعبد يوم القيامة ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره الحديث أخرجه ابن ماجه من حديث أبي سعيد الخدري بإسناد جيد وقد تقدم في الأمر بالمعروف وفي الخبر الصحيح أن رجلا كان يداين الناس فيسامح الغنى ويتجاوز عن المعسر فلقي الله ولم يعمل خيرا قط فقال الله عز وجل من أحق بذلك منا حديث إن رجلا كان يداين الناس فيسامح الغني ويتجاوز عن المعسر الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي مسعود حوسب رجل ممن كان قبلكم فلو يوجد له من الخير شيى إلا أنه كان يخالط الناس وكان موسرا فكان يأمر غلمانه أن يتجاوزوا عن المعسر قال الله عز وجل نحن أحق بذلك تجاوزوا عنه واتفقا عليه من حديث حذيفة وأبي هريرة بنحوه فعفا عنه لحسن ظنه ورجائه أن يعفو عنه مع إفلاسه عن الطاعات وقال تعالى إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور ولما قال صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا ولخرجتم إلى الصعدات تلدمون صدروكم وتجارون إلى ربكم فهبط جبريل عليه السلام فقال إن ربك يقول لك لم تقنط عبادي فخرج عليهم ورجاهم وشوقهم حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا الحديث وفيه فهبط جبريل الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة فأوله متفق عليه من حديث أنس ورواه بزيادة ولخرجتم إلى الصعدات أخرجه أحمد والحاكم وقد تقدم وفي الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني وحببني إلى خلقي فقال يا رب كيف أحببك إلى خلقك اذكرني بالحسن الجميل واذكر آلائي وإحساني وذكرهم ذلك فإنهم لا يعرفون مني إلا الجميل حديث إن الله تعالى أوحى إلى عبده داود عليه السلام أحبني وأحب من يحبني الحديث لم أجد له أصلا وكأنه من الإسرائيليات كالذي قبله ورئى أبان بن أبي عياش في النوم وكان يكثر ذكر أبواب الرجاء فقال أوقفني الله تعالى بين يديه فقال ما الذي حملك على ذلك فقلت أردت أن أحببك إلى خلقك فقال قد غفرت لك ورئى يحيى بن أكثم بعد موته في النوم فقيل له ما فعل الله بك فقال أوقفني الله بين يديه وقال يا شيخ السوء فعلت وفعلت وقال فأخذني من الرعب ما يعلم الله ثم قلت يا رب ما هكذا حدثت عنك فقال وما حدثت عني فقلت حدثني عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن أنس عن نبيك صلى الله عليه وسلم عن جبريل عليه السلام أنك قلت أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء وكنت أظن بك أن لا تعذبني فقال الله عز وجل صدق جبريل وصدق نبيى وصدق أنس وصدق الزهري وصدق معمر وصدق عبد الرزاق وصدقت قال فألبست ومشى بين يدى الولدان إلى الجنة فقلت يا لها من فرحة وفي الخبر أن رجلا من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم قال فيقل له الله تعالى يوم القيامة اليوم أويسك من رحمتي كما كنت تقنط عبادي منها حديث إن رجلا من بني إسرائيل كان يقنط الناس ويشدد عليهم الحديث رواه البيهقي في الشعب عن زيد بن أسلم فذكره مقطوعا وقال صلى الله عليه وسلم إن رجلا يدخل النار فيمكث فيها ألف سنة ينادي يا حنان يا منان فيقول الله تعالى لجبريل اذهب فائتني بعبدي قال فيجىء به فيوقفه على ربه فيقول الله تعالى كيف وجدت مكانك فيقول شر مكان قال فيقول رذوه إلى مكانه قال فيمشى ويلتفت إلى ورائه فيقول الله عز وجل إلى أي شىء تلتفت فيقول لقد رجوت أن لا تعيدني إليها بعد إذ أخرجتني منها فيقول الله تعالى اذهبوا به إلى الجنة حديث إن رجلا يدخل النار فينكث فيها ألف سنة ينادى يا حنان يا منان الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله والبيهقي في الشعب وضعفه من حديث أنس فدل هذا على أن رجاءه كان سبب نجاته نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذان رجلان مائلان عن الإعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الإعتدال فأما العاصي المغرور المتمنى على الله مع الإعراض عن العبادة واقتحام المعاصي فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد وهم سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفا ناظرا إلى مواقع العلل معالجا لكل علة بما يضادها لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها وخير الأمور أوساطها فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضا تكاد أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب فأما ذكر أسباب الرجاء فيهلكهم ويرديهم بالكلية ولكنها لما كانت أخف على القلوب وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فسادا وازداد المنهمكون في طغيانهم تماديا قال علي كرم الله وجهه إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله ونحن نذكر اساب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف اقتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعا لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيى من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان وحال الرجاء يغلب بشيئين أحدهما الإعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار أما الإعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء وما هو محتاج إليه كالأصابع والأظفار وما هو زينة له كاستقواس الحاجبين وإختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد بل إذا نظر الإنسان نظرا شافيا علم أن أكثر الخلق قد هيء له أسباب السعادة في الدنيا حتى إنه يكره الإنتقال من الدنيا بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبدا مثلا أولا يحشر أصلا فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة وواقعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة فسنة الله لا تجد لها تبديلا فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد وهو غفور رحيم لطيف بعباده متعطف عليهم فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوى به أسباب الرجاء ومن الإعتبار أيضا النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ووجه الرحمة للعباد بها حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء فقيل له وما فيها من الرجاء فقال الدنيا كلها قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين قليل عن رزقه فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدى عبده إلى طريق الإحتياط في حفظ دينه فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه الفن الثاني استقراء الآيات والأخبار فما ورد في الرجاء خارج عن الحصر أما الآيات فقد قال تعالى قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وفي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبالي إنه هو الغفور الرحيم حديث قرأ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا ولا يبالي أخرجه الترمذي من حديث أسماء بنت يزيد وقال حسن غريب وقال تعالى والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض وأخبر تعالى أن النار أعدها لإعدائه وإنما خوف بها أولياءه فقال لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده وقال تعالى واتقوا النار التي أعدت للكافرين وقال تعالى فأنذرتكم نارا تلظى لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى وقال عز وجل وإن ربك لذوا مغفرة للناس على ظلمهم ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزلت عليك هذه الآية وإن ربك لذو مغفرة للناس ظلمهم حديث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يسأل في أمته حتى قيل له أما ترضى وقد أنزل عليك وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم لم أجده بهذا اللفظ وروى ابن أبي حاتم والثعلبي في تفسيرهما من رواية علي بن زيد بن جدعان عن سعيد بن المسيب قال لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش الحديث وفي تفسير قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى قال لا يرضى محمد وواحد من أمته في النار وكان أبو جعفر محمد بن علي يقول أنتم أهل العراق تقولون أرجى آية في كتاب الله عز وجل قوله قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية ونحن أهل البيت نقول أرجى آية في كتاب الله تعالى قوله تعالى ولسوف يعطيك ربك فترضى وأما الأخبار فقد روى أبو موسى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها في الآخرة عجل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من أمتي رجل من أهل الكتاب فقيل هذا فداؤك من النار حديث أبي موسى أمتي أمة مرحومة لا عذاب عليها عجل الله عقابها في الدنيا الزلازل والفتن الحديث أخرجه أبو داود دون قوله فإذا كان يوم القيامة الخ فرواها ابن ماجه من حديث أنس بسند ضعيف وفي صحيحه من حديث أبي موسى كما سيأتي ذكره في الحديث الذي يليه وفي لفظ آخر يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم فيقول هذا فدائي من النار فيلقى فيها حديث يأتي كل رجل من هذه الأمة بيهودي أو نصراني إلى جهنم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي موسى إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول هذا فداؤك من النار وفي رواية له لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهوديا أو نصرانيا وقال صلى الله عليه وسلم الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار حديث الحمى من فيح جهنم وهي حظ المؤمن من النار أخرجه أحمد من رواية أبي صالح الأشعري عن أبي أمامة وأبو صالح لا يعرف ولا يعرف اسمه وروى في تفسير قوله تعالى يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه أن الله تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إني أجعل حساب أمتك إليك قال لا يارب أنت أرحم بهم مني فقال إذن لا نخزيك فيهم حديث إن الله أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم إني أجعل حساب أمتك إليك فقال لا يارب أنت خير لهم مني الحديث في تفسير قوله تعالى يوم لا يخزى الله النبي أخرجه ابن ابي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله وروي عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه في ذنوب أمته فقال يا رب اجعل حسابهم إلى لئلا يطلع على مساويهم غيري فأوحى الله تعالى إليه هم أمتك وهم عبادي وأنا أرحم بهم منك ولا أجعل حسابهم إلى غيري لئلا تنظر إلى مساويهم أنت ولا غيرك حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم سأل ربه في ذبوب أمته فقال يا رب اجعل حسابهم إلى الحديث لم أقف له على أصل وقال صلى الله عليه وسلم حياتي خير لكم وموتي خيرك لكم أما حياتي فأسن لكم السنن وأشرع لكم الشرائع وأما موتي فإن أعمالكم تعرض على فما رأيت منها حسنا حمدت الله عليه وما رأيت منها سيئا استغفرت الله تعالى لكم حديث حياتي خير لكم وموتي خير لكم الحديث أخرجه البزار من حديث عبد الله بن مسعود ورجاله رجال الصحيح إلا أن عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي داود وإن أخرج له مسلم ووثقه ابن معين والنسائي فقد ضعفه كثيرون ورواه الحارث بن أبي أسامة في مسنده من حديث أنس بنحوه بإسناد ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم يوما يا كريم العفو فقال جبريل عليه السلام أتدري ما تفسير يا كريم العفو هو إن عفا عن السيئات برحمته بدلها حسنات بكرمه حديث قال صلى الله عليه وسلم يوما يا كريم العفو فقال جبريل أتدري ما تفسير يا كريم العفو الحديث لم أجده عن النبي صلى الله عليه وسلم والموجود أن هذا كان بين إبراهيم الخليل وبين جبريل هكذا رواه أبو الشيخ في كتاب العظمة من قول عتبة بن الوليد ورواه البيهقي في الشعب من رواية عتبة بن الوليد قال حدثني بعض الزهاد فذكره وسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال هل تدري ما تمام النعمة قال لا قال دخول الجنة حديث سمع رجلا يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة الحديث تقدم قال العلماء قد أتم الله علينا نعمته برضاه الإسلام لنا إذ قال تعالى وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا وفي الخبر إذا أذنب العبد ذنبا فاستغفر الله يقول الله عز وجل لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنوب ويأخذ بالذنب أشهدكم أني قد غفرت له حديث إذا أذنب العبد فاستغفر يقول الله تعالى لملائكته انظروا إلى عبدي أذنب ذنبا فعلم أن له ربا يغفر الذنب الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة بلفظ إن عبدا أصاب ذنبا فقال أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي الحديث وفي رواية أذنب عبد ذنبا فقال الحديث وفي الخبر لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء غفرتها له ما استغفرني ورجاني حديث لو أذنب العبد حتى تبلغ ذنوبه عنان السماء الحديث أخرجه الترمذي من حديث أنس يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك وقال حسن وفي الخبر لو لقيني عبد بقراب الأرض ذنوبا لقيته بقراب الأرض مغفرة حديث لو لقيني عبدي بقراب الأرض ذنوبا لقيته بقرابها مغفرة أخرجه مسلم من حديث أبي ذر ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة وللترمذي من حديث أنس الذي قبله يا ابن آدم لو لقيتني الحديث وفي الحديث إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه وإلا كتبها سيئة حديث إن الملك ليرفع القلم عن العبد إذا أذنب ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبه عليه الحديث قال وفي لفظ آخر فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى ألقى من حسناته واحدة من تضيف العشر الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من حديث أبي أمامة بسند فيه لين باللفظ الأول ورواه أيضا أطول منه وفيه إن صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال وليس فيه أنه يأمر صاحب الشمال بإلقاء السيئة حتى يلقي من حسناته واحدة لم أجد لذلك أصلا وفي لفظ آخر فإذا كتبها عليه وعمل حسنة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال وهو أمير عليه ألق هذه السيئة حتى ألقي من حسناته واحدة تضعيف العشر وأرفع له تسع حسنات فتلقى عنه السيئة وروى أنس في حديث أنه صلى الله عليه وسلم قال إذا أذنب العبد ذنبا كتب عليه فقال أعرابي وإن تاب عنه قال محى عنه قال فإن عاد قال النبي صلى الله عليه وسلم يكتب عليه قال الأعرابي فإن تاب قال محى من صحيفته قال إلى متى قال إلى أن يستغفر ويتوب إلى الله عز وجل إن الله لا يمل من المغفرة حتى يمل العبد من الإستغفار فإذا هم العبد بحسنة كتبها صاحب اليمين قبل أن يعملها فإن عملها كتبت عشر حسنات ثم يضاعفها الله سبحانه وتعالى إلى سبعمائة ضعف وإذا هم بخطيئة لم تكتب عليه فإذا عملها كتبت خطيئة واحدة ووراءها حسن عفو الله عز وجل حديث أنس إذا أذنب العبد ذنبا كتب عليه فقال أعرابي فإن تاب عنه قال محى عنه قال فإن عاد الحديث وفيه إن الله لا يمل من التوبة حتى يمل العبد من الإستغفار الحديث أخرجه البيهقي في الشعب بلفظ فقال يا رسول الله إني أذنبت ذنبا قال استغفر ربك قال فاستغفر ثم أعود قال فإذا عدت فاستغفر ربك ثلاث مرات أو أربعا قال فاستغفر ربك حتى يكون الشيطان هو المسجور المحسور وفيه أبو بدر يسار بن الحكم المصري منكر الحديث وروى أيضا من حديث عقبة بن عامر أحدنا يذنب قال يكتب عليه قال ثم يستغفر ويتوب قال يغفر له ويتاب عليه قال فيعود الحديث وفيه لا يمل الله حتى تملوا وليس في الحديثين قوله في آخره فإذا هم العبد بحسنة الخ وهو في الصحيحين بنحوه من حديث ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها وعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة فإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة زاد مسلم في رواية أو محاها الله ولا يهلك على الله إلا هالك ولهما نحوه من حديث أبي هريرة وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلى إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع أين أنا إذا مت فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال نعم معي إذا حفظت قلبك من اثنتين الغل والحسد ولسانك من اثنتين الغيبة والكذب وعينيك من اثنتين النظر إلى ما حرم الله وأن تزدري بهما مسلما دخلت معي الجنة على راحتي هاتين حديث جاء رجل فقال يا رسول الله إني لا أصوم إلا الشهر لا أزيد عليه ولا أصلي إلا الخمس لا أزيد عليها وليس لله في مالي صدقة ولا حج ولا تطوع الحديث تقدم وفي الحديث الطويل لأنس أن الأعرابي قال يا رسول الله من يلي حساب الخلق فقال الله تبارك وتعالى قال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي فقال صلى الله عليه وسلم مم ضحكت يا أعرابي فقال إن الكريم إذا قدر عفا وإذا حاسب سامح فقال النبي صلى الله عليه وسلم صدق الأعربي ألا لا كريم أكرم من الله تعالى هو أكرم الأكرمين ثم قال فقه الأعرابي <حديث أنس الطويل قال أعرابي يا رسول الله من يلي حساب الخلق قال الله تبارك وتعالى فقال هو بنفسه قال نعم فتبسم الأعرابي الحديث لم أجد له أصلا وفيه أيضا إن الله تعالى شرف الكعبة وعظمها ولو أن عبدا هدمها حجرا حجرا ثم أحرقها ما بلغ جرم من استخف بولي من أولياء الله تعالى قال الأعرابي ومن أولياء الله تعالى قال المؤمنون كلهم أولياء الله تعالى أما سمعت قول الله عز وجل الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور وفي بعض الاخبار المؤمن أفضل من الكعبة حديث المؤمن أفضل من الكعبة أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر بلفظ ما أعظمك وأعظم حرمتك والذي نفسي بيده لحرمة المؤمن أعظم حرمة منك ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرا وشيخه نصر بن محمد بن سليمان الحمصي ضعفه أبو حاتم ووثقه ابن حبان وقد تقدم و المؤمن طيب طاهر حديث المؤمن طيب طاهر لم أجده بهذا اللفظ وفي الصحيحين من حديث حذيفة المؤمن لا ينجس و المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة حديث المؤمن أكرم على الله من الملائكة أخرجه ابن ماجه من رواية أبي المهزم يزيد بن سفيان عن أبي هريرة بلفظ المؤمن أكرم على الله من بعض الملائكة وأبو المهزم تركه شعبة وضعفه ابن معين ورواه ابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من هذا الوجه بلفظ المصنف> وفي الخبر خلق الله تعالى جهنم من فضل رحمته سوطا يسوق به عباده إلى الجنة حديث خلق الله من فضل رحمته سوطا يسوق به عباده إلى الجنة لم أجده هكذا ويغنى عنه ما رواه البخاري من حديث أبي هريرة عجب ربنا من قوم يجاء بهم إلى الجنة في السلاسل وفي خبر آخر يقول الله عز وجل إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم حديث قال الله إنما خلقت الخلق ليربحوا علي ولم أخلقهم لأربح عليهم لم أقف له على أصل وفي حديث أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خلق الله تعالى شيئا إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه حديث أبي سعيد ما خلق الله شيئا إلا جعل له ما يغلبه وجعل رحمته تغلب غضبه أخرجه أبو الشيخ ابن حبان في الثواب وفيه عبد الرحمن بن كردم جهله أبو حاتم وقال صاحب الميزان ليس بواه ولا بمجهول وفي الخبر المشهور إن الله تعالى كتب على نفسه الرحمة قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي حديث إن الله كتب على نفسه بنفسه قبل أن يخلق الخلق إن رحمتي تغلب غضبي متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم وعن معاذ بن جبل وأنس بن مالك أنه صلى الله عليه وسلم قال من قال لا إله إلا الله دخل الجنة حديث معاذ وأنس من قال لا إله إلا الله دخل الجنة أخرجه الطبراني في الدعاء بلفظ من مات يشهد وتقدم من حديث معاذ وهو في اليوم والليلة للنسائي بلفظ من مات يشهد وقد تقدم من حديث معاذ ومن حديث أنس أيضا وتقدم في الأذكار و من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تسمه النار حديث من كان آخر كلامه لا إله إلا الله لم تمسه النار أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث معاذ بلفظ دخل الجنة و من لقي الله لا يشرك به شيئا حرمت عليه النار حديث من لقي الله لا يشرك به شيئا حرمت عليه النار أخرجه الشيخان من حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله إلا حرمه الله على النار وزاد البخاري صادقا من قلبه وفي رواية له من لقي الله لا يشرك به شيئا دخل الجنة ورواه أحمد من حديث معاذ بلفظ جعله الله في الجنة وللنسائي من حديث أبي عمرة الأنصاري في أثناء حديث فقال أشهد أن لا إله إلا الله واشهد أني رسول الله لا يلقى الله عبد يؤمن بهما إلا حجب عن النار يوم القيامة و لا يدخلها من في قلبه مثقال ذرة من إيمان حديث لا يدخلها من في قلبه وزن ذرة من إيمان أخرجه أحمد من حديث سهل بن بيضاء من شهد أن لا إله إلا الله حرمه الله على النار وفيه انقطاع وله من حديث عثمان بن عفان إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقا من قلبه إلا حرم على النار قال عمر بن الخطاب هي كلمة الإخلاص وإسناده صحيح ولكن هذا ونحوه شاذ مخالف لما ثبت في الأحاديث الصحيحة من دخول جماعة من الموحدين النار وإخراجهم بالشفاعة نعم لا يبقى في النار من في قلبه ذرة من إيمان كما هو متفق عليه من حديث أبي سعيد وفيه فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه وقال مسلم من خير بدل من إيمان وفي خبر آخر لو علم الكافر سعة رحمة الله ما آيس من جنته أحد حديث لو علم الكافر سعة رحمة الله ما أيس من جنته أحد متفق عليه من حديث أبي هريرة ولما تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله تعالى إن زلزلة الساعة شيء عظيم قال أتدرون أي يوم هذا هذا يوم يقال لآدم عليه الصلاة والسلام قم فابعث بعث النار من ذريتك فيقول كم فيقال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة قال فأبلس القوم وجعلوا يبكون وتعطلوا يومهم عن الإشتغال والعمل فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ما لكم لا تعملون فقالوا ومن يشتغل بعمل بعد ما حدثتنا بهذا فقال كم أنتم في الأمم أين تأويل وثاريث ومنسك ويأجوج ومأجوج أمم لا يحصيها إلا الله تعالى إنما أنتم في سائر الأمم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود وكالرقمة في ذراع الدابة حديث لما تلا إن زلزلة الساعة شيء عظيم قال أتدرون أي يوم هذا الحديث أخرجه الترمذي من حديث عمران بن حصين وقال حسن صحيح قلت هو من رواية الحسن البصري عن عمران ولم يسمع منه وفي الصحيحين نحوه من حديث أبي سعيد فانظر كيف كان الخوف يسوق الخلق بسياط الخوف ويقودهم بأزمة الرجاء إلى الله تعالى إذ ساقهم بسياط الخوف أولا فلما خرج ذلك بهم عن حد الإعتدال إلى إفراط اليأس داواهم بدواء الرجاء وردهم إلى الإعتدال والقصد والآخر لم يكن مناقضا للأول ولكن ذكر في الأول ما رآه سببا للشفاء واقتصر عليه فلما احتاجوا إلى المعالجة بالرجاء ذكر تمام الأمر فعلى الواعظ أن يقتدي بسيد الوعاظ فيتلطف في استعمال أخبار الخوف والرجاء بحسب الحاجة بعد ملاحظة العلل الباطنة وإن لم يراع ذلك كان ما يفسد بوعظه أكثر مما يصلح وفي الخبر لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم حديث لو لم تذنبوا لخلق الله خلقا يذنبون فيغفر لهم وفي لفظ لذهب بكم الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي أيوب واللفظ الثاني من حديث أبي هريرة قريبا منه وفي لفظ آخر لذهب بكم وجاء بخلق يذنبون فيغفر لهم إنه هو الغفور الرحيم وفي الخبر لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب قيل وما هو قال العجب حديث لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو شر من الذنوب قيل ما هو قال العجب أخرجه البزار وابن حبان في الضعفاء والبيهقي في الشعب من حديث أنس وتقدم في ذم الكبر والعجب وقال صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها حديث والذي نفسي بيده لله أرحم بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها متفق عليه من حديث عمر بنحوه وفي الخبر ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب أحد حتى إن إبليس ليتطاول لها رجاء أن تصيبه حديث ليغفرن الله تعالى يوم القيامة مغفرة ما خطرت قط على قلب أحد الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن بالله من حديث ابن مسعود بإسناد ضعيف وفي الخبر إن لله تعالى مائة رحمة ادخر منها عنده تسعا وتسعين رحمة وأظهر منها في الدنيا رحمة واحدة فبها يتراحم الخلق فتحن الوالدة على ولدها وتعطف البهيمة على ولدها فإذا كان يوم القيامة ضم هذه الرحمة إلى التسع والتسعين ثم بسطها على جميع خلقه وكل رحمة منها طباق السموات والأرض قال فلا يهلك على الله يومئذ إلا هالك حديث إن الله تعالى مائة رحمة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وفي الخبر ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة ولا ينجيه من النار قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا ان يتغمدني الله برحمته حديث ما منكم من أحد يدخله عمله الجنة الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم وقال عليه افضل الصلاة والسلام اعملوا وابشروا واعلموا أن أحدا لن ينجيه عمله حديث اعملوا وأبشروا واعلموا أن أحدا لن ينجيه عمله تقدم أيضا وقال صلى الله عليه وسلم إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي أترونها للمطيعين المتقين بل هي للمتلوثين المخلطين حديث إني اختبأت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي الحديث أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة لكل نبي دعوة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي ورواه مسلم من حديث أنس وللترمذي من حديثه وصححه وابن ماجه من حديث جابر شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ولإبن ماجه من حديث أبي موسى ولأحمد من حديث ابن عمر خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل نصف أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمتقين الحديث وفيه من لم يسم وقال صلى الله عليه وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة حديث بعثت بالحنيفية السمحة السهلة أخرجه أحمد من حديث أبي أمامة بسند ضعيف دون قوله السهلة وله وللطبراني من حديث ابن عباس أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة وفيه محمد بن إسحاق رواه بالعنعنة وقال صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى أحب أن يعلم أهل الكتابين أن في ديننا سماحة حديث أحب أن يعلم أهل الكتاب أن في ديننا سماحة رواه أبو عبيد في غريب الحديث وأحمد ويدل على معناه استجابة الله تعالى للمؤمنين في قولهم ولا تحمل علينا إصرا وقال تعالى ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم وروى محمد بن الحنفية عن علي رضي الله تعالى عنهما أنه قال لما نزل قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل قال يا جبريل وما الصفح الجميل قال عليه السلام إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه فقال يا جبريل فالله تعالى أكرم من أن يعاتب من عفا عنه فبكى جبريل وبكى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث الله تعالى إليهما ميكائيل عليه السلام وقال إن ربكما يقرئكما السلام ويقول كيف أعاتب من عفوت عنه هذا ما لا يشبه كرمى حديث محمد بن الحنفية عن علي لما نزل قوله تعالى فاصفح الصفح الجميل قال يا جبريل ما الصفح الجميل قال إذا عفوت عمن ظلمك فلا تعاتبه الحديث أخرجه ابن مردويه في تفسيره موقوفا على على مختصرا قال الرضا بغير عتاب ولم يذكر بقية الحديث وفي إسناده نظر والأخبار الواردة في أسباب الرجاء أكثر من أن تحصى وأما الآثار فقد قال علي كرم الله وجهه من أذنب ذنبا فستره الله عليه في الدنيا فالله أكرم من أن يكشف ستره في الآخرة ومن أذنب ذنبا فعوقب عليه في الدنيا فالله تعالى أعدل من أن يثنى عقوبته على عبده في الآخرة وقال الثوري ما أحب أن يجعل حسابي إلى أبوي لأني أعلم أن الله تعالى أرحم بي منهما وقال بعض السلف المؤمن إذا عصى الله تعالى ستره عن أبصار الملائكة كيلا تراه فتشهد عليه وكتب محمد بن صعب إلى أسود بن سالم بخطه إن العبد إذا كان مسرفا فاعلى نفسه فرفع يديه يدعو ويقول يا رب حجبت الملائكة صوته وكذا الثانية والثالثة حتى إذا قال الرابعة يا ربي قاله الله تعالى حتى متى تحجبون عني صوت عبدي قد علم عبدي أنه ليس له رب يغفر له الذنوب غيري أشهدكم أني قد غفرت له وقال إبراهيم بن أدهم رحمة الله عليه خلا لي الطواف ليلة وكانت ليلة مطيرة مظلمة فوقفت في الملتزم عند الباب فقلت يا رب اعصمني حتى لا أعصيك أبدا فهتف بي هاتف من البيت يا إبراهيم أنت تسألني العصمة وكل عبادي المؤمنين يطلبون مني ذلك فإذا عصمتهم فعلى من أتفضل ولمن أغفر وكان الحسن يقول لو لم يذنب المؤمن لكان يطير في ملكوت السماوات ولكن الله تعالى قمعه بالذنوب وقال الجنيد رحمه الله تعالى إن بدت عين من الكرم ألحقت المسيئين بالمحسنين ولقي مالك بن دينار أبانا فقال له إلى كم تحدث الناس بالرخص فقال يا أبا يحيى إني لأرجو أن ترى من عفو الله يوم القيامة ما تخرق له كساءك هذا من الفرح وفي حديث ربعي بن حراش عن أخيه وكان من خيار التابعين وهو ممن تكلم بعد الموت قال لما مات أخي سجى بثوبه والقيناه على نعشه فكشف الثوب عن وجهه واستوى قاعدا وقال إني لقيت ربي عز وجل فحياني بروح وريحان وربي غير غضبان وإني رأيت الأمر أيسر مما تظنون فلا تفتروا وأن محمدا صلى الله عليه وسلم ينتظرني وأصحابه حتى أرجع إليهم قال ثم طرح نفسه فكأنها كانت حصاة وقعت في طشت فحملناه ودفناه وفي الحديث أن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله تعالى فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابدا وكان يعظه ويزجره فكان يقول دعني وربي أبعثت على رقيبا حتى رآه ذات يوم على كبيرة فغضب فقال لا يغفر الله لك قال فيقول الله تعالى يوم القيامة أيستطيع أحد أن يحظر رحمتي على عبادي اذهب أنت فقد غفرت لك ثم يقول للعابد وأنت فقد أوجبت لك النار قال فوالذي نفسي بيده لقد تكلم بكلمة أهلكت دنياه وآخرته حديث إن رجلين من بني إسرائيل تواخيا في الله عز وجل فكان أحدهما يسرف على نفسه وكان الآخر عابدا الحديث رواه أبو داود من حديث أبي هريرة بإسناد جيد وروى أيضا أن لصا كان يقطع الطريق في بني إسرائيل أربعين سنة فمر عليه عيسى عليه السلام وخلفه عابد من عباد بني إسرائيل من الحواريين فقال اللص في نفسه هذا نبي الله يمر وإلى جنبه جواريه لو نزلت فكنت معهما ثالثا قال فنزل فجعل يريد أن يدنو من الحواري ويزدري نفسه تعظيما للحواري ويقول في نفسه مثلى لا يمشى إلى جنب هذا العابد قال وأحس الحواري به فقال في نفسه هذا يمشى إلى جانبي فضم نفسه ومشى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام فمشى بجنبه فبقي اللص خلفه فأوحى الله تعالى إلى عيسى عليه الصلاة والسلام قل لهما ليستأنفا العمل فقد أحبطت ما سلف من أعمالهما أما الحوارى فقد أحبطت حسناته لعجبه بنفسه وأما الآخر فقد أحبطت سيئاته بما ازدرى على نفسه فأخبرهما بذلك وضم اللص إليه في سياحته وجعله من حواريه وروى عن مسروق أن نبيا من الأنبياء كان ساجدا فوطىء عنقه بعض العصاة حتى ألزق الحصى بجبهته قال فرفع النبى عليه الصلاة والسلام رأسه مغضبا فقال اذهب فلن يغفر الله لك فأوحى الله تعالى إليه تتألى على في عبادي إني قد غفرت له ويقرب من هذا ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل عليه قوله تعالى ليس لك من الأمر شىء الآية فترك الدعاء عليهم وهدى الله تعالى عامة أولئك للإسلام حديث ابن عباس كان يقنت على المشركين ويلعنهم في صلاته فنزل قوله تعالى ليس لك من الأمر شىء فترك الدعاء عليهم الحديث أخرجه البخاري من حديث ابن عمر أنه كان إذا رفع راسه من الركوع في الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد فأنزل الله عز وجل ليس لك من الأمر شيء إلى قوله فإنهم ظالمون ورواه الترمذي وسماهم أبا سفيان والحارث بن هشام وصفوان بن أمية وزاد فتاب عليهم فأسلموا فحسن إسلامهم وقال حسن غريب وفي رواية له أربعة نفر لم يسمهم وقال فهداهم الله للإسلام وقال حسن غريب صحيح وروى في الأثر أن رجلين كانا من العابدين متساويين في العبادة قال فإذا أدخلا الجنة رفع أحدهما في الدرجات العلى على صاحبه فيقول يا رب ما كان هذا في الدنيا بأكثر مني عبادة فرفعته علي في عليين فيقول الله سبحانه إنه كان يسألني في الدنيا الدرجات العلى وأنت كنت تسألني النجاة من النار فأعطيت كل عبد سؤله وهذا يدل على أن العبادة على الرجاء أفضل لأن المحبة أغلب على الراجي منها على الخائف فكم من فرقف في الملوك بين من يخدم اتقاء لعقابه وبين من يخدم إرتجاه لإنعامه وإكرامه ولذلك أمر الله تعالى بحسن الظن ولذلك قال صلى الله عليه وسلم سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما حديث سلوا الله الدرجات العلى فإنما تسألون كريما لم أجده بهذا اللفظ وللترمذي من حديث ابن مسعود سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسئل وقال هكذا روى حماد بن واقد وليس بالحافظ وقال إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله تعالى لا يتعاظمه شيء حديث إذا سألتم الله فأعظموا الرغبة واسألوا الفردوس الأعلى فإن الله لا يتعاظمه شيء أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت ولكن ليعزم وليعظم الرغبة فإن الله عز وجل لا يتعاظمه شيء أعطاه والبخاري من حديث أبي هريرة في أثناء حديث فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ورواه الترمذي من حديث معاذ وعبادة بن الصامت وقال بكر بن سليم الصواف دخلنا على مالك بن أنس في العشية التي قبض فيها فقلنا يا أبا عبد الله كيف تجدك قال لا أدري ما أقول لكم إلا أنكم ستعاينون من عفو الله ما لم يكن لكم في حساب ثم ما برحنا حتى أغمضناه وقال يحيى بن معاذ في مناجاته يكاد رجائي لك من الذنوب يغلب رجائي إليك مع الأعمال لأني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أحرزها وأنا بالآفة معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف وقيل إن مجوسيا استضاف إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام فقال إن أسلمت أضفتك فمر المجوسي فأوحى الله تعالى إليه يا إبراهيم لم تطعمه إلا بتغيير دينه ونحن من سبعين سنة نطعمه على كفره فلو أضفته ليلة ماذا كان عليك فمر إبراهيم يسعى خلف المجوسي فرده وأضافه فقال له المجوسي ما السبب فيما بدا لك فذكر له فقال له المجوسي أهكذا يعاملني ثم قال أعرض على الإسلام فأسلم ورأى الأستاذ أبو سهل الصعلوكي أبا سهل الزجاجي في المنام وكان يقول بوعيد الأبد فقال له كيف حالك فقال وجدنا الأمر أهون مما توهمنا ورأى بعضهم أبا سهل الصعلوكي في المنام على هيئة حسنة لا توصف فقال له يا أستاذ بما نلت هذا فقال بحسن ظني بربي وحكى أن أبا العباس بن سريج رحمه الله تعالى رأى في مرض موته في منامه كأن القيامة قد قامت وإذا الجبار سبحانه يقول أين العلماء قال فجاءوا ثم قال ماذا عملتم فيما علمتم قال فقلنا يا رب قصرنا وأسأنا قال فأعاد السؤال كأنه لم يرض بالجواب وأراد جوابا غيره فقلت أما أنا فليس في صحيفتي الشرك وقد وعدت أن تغفر ما دونه فقال اذهبوا به فقد غفرت لكم ومات بعد ذلك بثلاث ليال وقيل كان رجل شريب جمع قوما من ندمائه ودفع إلى غلامه أربعة دراهم وأمره أن يشتري شيئا من الفواكه للمجلس فمر الغلام بباب مجلس منصور بن عمار وهو يسأل لفقير شيئا ويقول من دفع إليه أربعة دراهم دعوت له أربع دعوات قال فدفع الغلام إليه الدراهم فقال منصور ما الذي تريد أن أدعو لك فقال لي سيد أريد أن أتخلص منه فدعا منصور وقال الأخرى قال أن يخلف الله على دراهمي فدعا ثم قال الآخرى قال أن يتوب الله على سيدي فدعا ثم قال الأخرى فقال أن يغفر الله لي ولسيدي ولك وللقوم فدعا منصور فرجع الغلام فقال له سيده لم أبطأت فقص عليه القصة قال وبما دعا فقال سألت لنفسي العتق فقال له اذهب فانت حر قال وأيش الثاني قال أن يخلف الله على الدراهم قال لك أربعة آلاف درهم وايش الثالث قال أن يتوب الله عليك قال تبت إلى الله تعالى قال وأيش الرابع قال أن يغفر الله لي ولك وللقوم قال هذا الواحد ليس إلى فلما بات تلك الليلة رأى في المنام كأن قائلا يقول له أنت فعلت ما كان إليك أفترى أني لا أفعل ما إلى قد غفرت لك وللغلام ولمنصور بن عمار وللقوم الحاضرين أجمعين وروى عن عبد الوهاب بن عبد الحميد الثقفي قال رأيت ثلاثة من الرجال وإمرأة يحملون جنازة قال فأخذت مكان المرأة وذهبنا إلى المقبرة وصلينا عليها ودفنا الميت فقلت للمرأة من كان هذا الميت منك قالت ابني قلت ولم يكن لكم جيران قالت بلى ولكن صغروا أمره قلت وأيش كان هذا قالت مخنثا قال فرحمتها وذهبت بها إلى منزلي وأعطيتها دراهم وحنطة وثيابا قال فرأيت تلك الليلة كأنه أتاني آت كأنه القمر ليلة البدر وعليه ثياب بيض فجعل يتشكرني فقلت من أنت فقال المخنث الذي دفنتموني اليوم رحمني ربي بإحتقار الناس إياي وقال إبراهيم الأطروش كنا قعودا ببغداد مع معروف الكرخي على دجلة إذ مر أحداث في زورق يضربون بالدف ويشربون ويلعبون فقالوا لمعروف أما تراهم يعصون الله مجاهرين ادع الله عليهم فرفع يديه وقال إلهى كما فرحتم في الدنيا ففرحهم في الآخرة فقال القوم إنما سألناك أن تدعو عليهم فقال إذا فرحهم في الآخرة تاب عليهم وكان بعض السلف يقول في دعائه يا رب وأي أهل دهر لم يعصوك ثم كانت نعمتك عليهم سابغة ورزقك عليهم دارا سبحانك ما أحلمك وعزتك إنك لتعصى ثم تسبغ النعمة وتدر الرزق حتى كأنك يا ربنا لا تغضب فهذه هي الأسباب التي بها يجلب روح الرجاء إلى قلوب الخائفين والآيسين فأما الحمقى المغرورون فلا ينبغي أن يسمعوا شيئا من ذلك بل يسمعون ما سنورده في أسباب الخوف فإن أكثر الناس لا يصلح إلى على الخوف كالعبد السوء والصبى العرم لا يستقيم إلا بالسوط والعصا وإظهار الخشونة في الكلام وأما ضد ذلك فيسد عليهم باب الصلاح في الدين والدنيا الشطر الثاني من الكتاب في الخوف وفيه بيان حقيقة الخوف وبيان درجاته وبيان أقسام المخاوف وبيان فضيلة الخوف وبيان الأفضل من الخرف والرجاء وبيان دواء الخوف وبيان معنى سوء الخاتمة وبيان أحوال الخائفين من الأنبياء صلوات الله عليهم والصالحين رحمة الله عليهم ونسأل الله حسن التوفيق.

بيان حقيقة الخوف

اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب وإحتراقه بسبب توقع مكروه في الإستقبال وقد ظهر هذا في بيان حقيقة الرجاء ومن أنس بالله وملك الحق قلبه وصار ابن وقته مشاهدا لجمال الحق على الدوام لم يبق له التفات إلى المستقبل فلم يكن له خوف ولا رجاء بل صار حاله أعلى من الخوف والرجاء فإنهما زمانان يمنعان النفس عن الخروج إلى رعوناتها وإلى هذا أشار الواسطي حيث قال الخوف حجاب بين الله تعالى وبين العبد وقال أيضا إذا ظهر الحق على السرائر لا يبقى فيها فضلة لرجاء ولا لخوف وبالجملة فالمحب إذا شغل قلبه في مشاهدة المحبوب بخوف الفراق كان ذلك نقصا في الشهود وإنما دوام الشهود غاية المقامات ولكنا الآن إنما نتكلم في أوائل المقامات فنقول حال الخوف ينتظم أيضا من علم وحال وعمل أما العلم فهو العلم بالسبب المفضى إلى المكروه وذلك كمن جنى على ملك ثم وقع في يده فيخاف القتل مثلا ويجوز العفو والإفلات ولكن يكون تألم قلبه بالخوف بحسب قوة عليه بالأسباب المفضية إلى قتله وهو تفاحش جنايته وكون الملك في نفسه حقودا غضوبا منتقما وكونه محفوفا بمن يحثه على الإنتقام خاليا عمن يتشفع إليهم في حقه وكان هذا الخائف عاطلا عن كل وسيلة وحسنة تمحو أثر جنايته عند الملك فالعلم بتظاهر هذه الأسباب سبب لقوة الخوف وشدة تألم القلب وبحسب ضعف هذه الأسباب يضعف الخوف وقد يكون الخوف لا عن سبب جناية قارفها الخائف بل عن صفة المخوف كالذي وقع في مخالب سبع فإنه يخاف السبع لصفة ذات السبع وهي حرصه وسطوته على الإفتراس غالبا وإن كان إفتراسه بالإختيار وقد يكون من صفة جبلية للمخوف منه كخوف من وقع في مجرى سيل أو جوار حريق فإن الماء يخاف لأنه بطبعه مجبول علىالسيلان والإعراق وكذا النار على الإحراق فالعلم بأسباب المكروه هو السبب الباعث المثير لإحراق القلب وتألمه وذلك الإحراق هو الخوف فكذلك الخوف من الله تعالى تارة يكون لمعرفة الله تعالى ومعرفة صفاته وأنه لو أهلك العالمين لم يبال ولم يمنعه مانع وتارة يكون لكثرة الجناية من العبد بمقارفة المعاصي وتارة يكون بهما جميعا وبحسب معرفته بعيوب نفسه ومعرفته بجلال الله تعالى واستغنائه وأنه لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فتكون قوة خوفه فأخوف الناس لربه أعرفهم بنفسه وبربه ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا أخوفكم لله حديث أنا أخوفكم لله أخرجه البخاري من حديث أنس والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له وللشيخين من حديث عائشة والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية وكذلك قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ثم إذا كملت المعرفة أورثت جلال الخوف وإحتراق القلب ثم يفيض أثر الحرقة من القلب على البدن وعلى الجوارج وعلى الصفات أما في البدن فبالنحول والصفار والغشية والزعقة والبكاء وقد تنشق به المرارة فيفضى إلى الموت أو يصعد إلى الدماغ فيفسد العقل أو يقوى فيورث القنوط واليأس وأما في الجوارح فبكفها عن المعاصي وتقييدها بالطاعات تلافيا لما فرط وإستعدادا للمستقبل ولذلك قيل ليس الخائف من يبكى ويمسح عينيه بل من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه وقال أبو القاسم الحكيم من خاف شيئا هرب منه ومن خاف الله هرب إليه وقيل لذي النون متى يكون العبد خائفا قال إذا نزل نفسه منزلة السقيم الذي يحتمى مخافة طول السقام وأما في الصفات فبأن يقمع الشهوات ويكدر اللذات فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكروهة كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا عرف أن فيه سما فتحترق الشهوات بالخوف وتتأدب الجوارح ويحصل في القلب الذبول والخشوع والذلة والإستكانة ويفارقه الكبر والحقد والحسد بل يصير مستوعب الهم بخوفه والنظر في خطر عاقبته فلا يتفرغ لغيره ولا يكون له شغل إلا المراقبة والمحاسبة والمجاهدة والضنة بالأنفاس واللحظات مؤاخذة النفس بالخطرات والخطوات والكلمات ويكون حاله حال من وقع في مخالب سبع ضار لا يدري أنه يغفل عنه فيفلت أو يهجم عليه فيهلك فيكون ظاهره وباطنه مشغولا بما هو خائف منه لا متسع فيه لغيره هذا حال من غلبه الخوف واستولى عليه وهكذا كان حال جماعة من الصحابة والتابعين وقوة المراقبة والمحاسبة والمجاهدة بحسب قوة الخوف الذي هو تألم القلب وإحتراقه وقوة الخوف بحسب قوة المعرفة بجلال الله وصفاته وأفعاله وبعيوب النفس وما بين يديها من الأخطار والأهوال وأقل درجات الخوف مما يظهر أثره في الأعمال أن يمنع عن المحظورات ويسمى الكف الحاصل عن المحظورات ورعا فإن زادت قوته كف عما يتطرق إليه إمكان التحريم فيكف أيضا عما لا يتيقن تحريمه ويسمى ذلك تقوى إذ التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به باس وهو الصدق في التقوى فإذا انضم إليه التجرد للخدمة فصار لا يبنى مالا يسكنه ولا يجمع ما لا يأكله ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنها تفارقه ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفسا من أنفاسه فهو الصدق وصاحبه جدير بأن يسمى صديقا ويدخل في الصدق التقوى ويدخل في التقوى الورع ويدخل في الورع العفة فإنها عبارة عن الإمتناع عن مقتضى الشهوات خاصة فإذن الخوف يؤثر في الجوارح بالكف والإقدام ويتجدد له بسبب الكف اسم العفة وهو كف عن مقتضى الشهوة وأعلى منه الورع فإنه أعم لأنه كف عن كل محظور وأعلى منه التقوى فإنه اسم للكف عن المحظور والشبهة جميعا ووراءه اسم الصديق والمقرب وتجرى الرتبة الآخرة مما قبلها مجرى الأخص من الأعم فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكل كما أنك تقول الإنسان إما عربي وإما عجمي والعربي إما قرشي أو غيره والقرشي إما هاشمي أو غيره والهاشمي إما علوي أو غيره والعلوي إما حسنى أو حسيني فإذا ذكرت أنه حسنى مثلا فقد وصفته بالجميع وإن وصفته بأنه علوي وصفته بما هو فوقه مما هو أعم منه فكذلك إذا قلت صديق فقد قلت إنه تقي وورع وعفيف فلا ينبغي أن تظن أن كثرة هذه الأسامي تدل على معان كثيرة متباينة  فيختلط عليك كما اختلط على من طلب المعاني من الألفاظ ولم يتبع الألفاظ المعاني فهذه إشارة إلى مجامع معاني الخوف وما  يكتنفه من جانب العلو كالمعرفة الموجبة له ومن جانب السفل كالأعمال الصادرة منه كفا وإقداما.

بيان درجات الخوف وإختلافه في القوة والضعف

اعلم أن الخوف محمود وربما يظن أن كل ما هو خوف محمود فكل ما كان أقوى وأكثر كان أحمد وهو غلط بل الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل لينالوا بهما رتبة القرب من الله تعالى والأصلح للبهيمة أن لا تخلو عن سوط وكذا الصبي ولكن ذلك لا يدل على أن المبالغة في الضرب محمودة وكذلك الخوف له قصور وله إفراط وله إعتدال والمحمود هو الإعتدال والوسط فأما القاصر منه فهو الذي يجرى مجرى رقة النساء يخطر بالبال عند سماع آية من القرآن فيورث البكاء وتفيض الدموع وكذلك عند مشاهدة سبب هائل فإذا غاب ذلك السبب عن الحس ورجع القلب إلى الغفلة فهذا خوف قاصر قليل الجدوى ضعيف النفع وهو كالقضيب الضعيف الذي تضرب به دابة قوية لا يؤلمها ألما مبرحا فلا يسوقها إلى المقصد ولا يصلح لرياضتها وهكذا خوف الناس كلهم إلا العارفين والعلماء ولست أعني بالعلماء المترسمين برسوم العلماء والمتسمين بأسمائهم فإنهم أبعد الناس عن الخوف بل أعني العلماء بالله وبأيامه وأفعاله وذلك مما قد عز وجوده الآن ولذلك قال الفضيل بن عياض إذا قيل لك هل تخاف الله فاسكت فإنك إن قلت لا كفرت وإن قلت نعم كذبت وأشار به إلى أن الخوف هو الذي يكف الجوارح عن المعاصي ويقيدها بالطاعات وما لم يؤثر في الجوارح فهو حديث نفس وحركة خاطر لا يستحق أن يسمى خوفا وأما المفرط فإنه الذي يقوى ويجاوز حد الإعتدال حتى يخرج إلى اليأس والقنوط وهو مذموم أيضا لأنه يمنع من العمل وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل فالمراد من الخوف ما هو المراد من السوط وهو الحمل على العمل ولولاه لما كان الخوف كما لا لأنه بالحقيقة نقصان لأن منشأه الجهل والعجز أما الجهل فإنه ليس يدري عاقبة أمره ولو عرف لم يكن خائفا لأن المخوف هو الذي يتردد فيه وأما العجز فهو أنه متعرض لمحذور لا يقدر على دفعه فإذن هو محمود بالإضافة إلى نقص الآدمي وإنما المحمود في نفسه وذاته هو العلم والقدرة وكل ما يجوز أن يوصف الله تعالى به وما لا يجوز وصف الله تعالى به فليس بكمال في ذاته وإنما يصير محمودا بالإضافة إلى نقص هو أعظم منه كما يكون إحتمال ألم الدواء محمودا لأنه أهون من ألم المرض والموت فما يخرج إلى القنوط فهو مذموم وقد يخرج الخوف أيضا إلى المرض والضعف وإلى الوله والدهشة وزوال العقل وقد يخرج إلى الموت وكل ذلك مذموم وهو كالضرب الذي يقتل الصبي والسوط الذي يهلك الدابة أو يمرضها أو يكسر عضوا من أعضائها وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم أسباب الرجاء وأكثر منها ليعالج به صدمة الخوف المفرط المفضى إلى القنوط أو أحد هذه الأمور فكل ما يراد لأمر فالمحمود منه ما يفضى إلى المراد المقصود منه وما يقصر عنه أو يجاوزه فهو مذموم وفائدة الخوف الحذر والورع والتقوى والمجاهدة والعبادة والفكر والذكر وسائر الأسباب الموصلة إلى الله تعالى وكل ذلك يستدعى الحياة مع صحة البدن وسلامة العقل فكل ما يقدح في هذه الأسباب فهو مذموم فإن قلت من خاف فمات من خوفه فهو شهيد فكيف يكون حاله مذموما فاعلم أن معنى كونه شهيدا أن له رتبة بسبب موته من الخوف كان لا ينالها لو مات في ذلك الوقت لا بسبب الخوف فهو بالإضافة إليه فضيلة فأما بالإضافة إلى تقدير بقائه وطول عمره في طاعة الله وسلوك سبله فليس بفضيلة بل للسالك إلى الله تعالى بطريق الفكر والمجاهدة والترقي في درجات المعارف في كل لحظة رتبة شهيد وشهداء ولولا هذا لكانت رتبة صبي يقتل أو مجنون يفترسه سبع أعلى من رتبة نبي أو ولي يموت حتف أنفه وهو محال فلا ينبغي أن يظن هذا بل أفضل السعادات طول العمر في طاعة الله تعالى فكل ما أبطل العمر أو العقل أو الصحة التي يتعطل العمر بتعطيلها فهو خسران ونقصان بالإضافة إلى أمور وإن كان بعض أقسامها فضيلة بالإضافة إلى أمور أخر كما كانت الشهادة فضيلة بالإضافة إلى ما دونها لا بالإضافة إلى درجة المتقين والصديقين فإذن الخوف إن لم يؤثر في العمل فوجوده كعدمه مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابة وإن أثر فله درجات بحسب ظهور أثره فإن لم يحمل إلا على العفة وهي الكف عن مقتضى الشهوات فله درجة فإذا أثمر الورع فهو أعلى وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصديقين وهو أن يسلب الظاهر والباطن عما سوى الله تعالى حتى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متسع فهذا أقصى ما يحمد منه وذلك مع بقاء الصحة والعقل فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل والصحة فهو مرض يجب علاجه إن قدر عليه ولو كان محمودا لما وجب علاجه بأسباب الرجاء وبغيره حتى يزول ولذلك كان سهل رحمه الله يقول للمريدين الملازمين للجوع أياما كثيرة احفظوا عقولكم فإنه لم يكن لله تعالى ولي ناقص العقل.

بيان أقسام الخوف بالإضافة إلى ما يخاف منه

اعلم أن الخوف لا يتحقق إلا بإنتظار مكروه والمكروه أما أن يكون مكروها في ذاته كالنار وإما أن يكون مكروها لأنه يفضى إلى المكروه كما تكره المعاصي لأدائها إلى مكروه في الآخرة  وكما يكره المريض الفواكه المضرة لأدائها إلى الموت فلا بد لكل خائف من أن يتمثل في نفسه مكروها من أحد القسمين ويقوى إنتظاره في قلبه حتى يحرق قلبه بسبب استشعاره ذلك المكروه ومقام الخائفين يختلف فيما يغلب على قلوبهم من المكروهات المحذورة فالذين يغلب على قلوبهم ما ليس مكروها لذاته بل لغيره كالذين يغلب عليهم خوف الموت قبل التوبة أو خوف نقض التوبة ونكث العهد أو خوف ضعف القوة عن الوفاء بتمام حقوق الله تعالى أو خوف زوال رقة القلب وتبدلها بالقساوة أو خوف الميل عن الإستقامة أو خوف إستيلاء العادة في اتباع الشهوات المألوفة أو خوف أن يكله الله تعالى إلى حسناته التي أتكل عليها وتعزز بها في عباد الله أو خوف البطر بكثرة نعم الله عليه أو خوف الإشتغال عن الله بغير الله أو خوف الإستدراج بتواتبر النعم أو خوف إنكشاف غوائل طاعاته حيث يبدو له من الله ما لم يكن يحتسب أو خوف تبعات الناس عنده في الغيبة والخيانة والغش وإضمار السوء أو خوف ما لا يدرى أنه يحدث في بقية عمره أو خوف تعجيل العقوبة في الدنيا والإفتضاح قبل الموت أو خوف الإغترار بزخارف الدنيا أو خوف إطلاع الله على سريرته في حال غفلته عنه أو خوف الختم له عند الموت بخاتمة السوء أو خوف السابقة التي سبقت له في الأزل فهذه كلها مخاوف ولكل واحد خصوص فائدة وهو سلوك سبيل الحذر عما يفضى إلى المخوف فمن يخاف استيلاء العادة عليه فيواظب على الفطام عن العادة والذي يخاف من إطلاع الله تعالى على سريرته يشتغل بتطهير قلبه عن الوساوس وهكذا إلى بقية الأقسام وأغلب هذه المخاوف على اليقين خوف الخاتمة فإن الأمر فيه مخطر وأعلى الأقسام وأدلها على كمال المعرفة خوف السابقة لأن الخاتمة تتبع السابقة وفرع يتفرع عنها بعد تخلل أسباب كثيرة فالخاتمة تظهر ما سبق به القضاء في أم الكتاب والخائف من الخاتمة بالإضافة إلى الخائف من السابقة كرجلين وقع الملك في حقهما بتوقيع يحتمل أن يكون فيه حز الرقبة ويحتمل أن يكون في تسليم الوزارة إليه ولم يصل التوقيع إليهما بعد فيرتبط قلب أحدهما بحالة وصول التوقيع ونشره وأنه عماذا يظهر ويرتبط قلب الآخر بحالة توقيع الملك وكيفيته وأنه ما الذي خطر له في حال التوقيع من رحمة أوغضب وهذا التفات إلى السبب فهو أعلى من الإلتفات إلى ما هو فرع فكذلك الإلتفات إلى القضاء الأزلي الذي جرى بتوقيعه القلم أعلى من الإلتفات إلى ما يظهر في الأبد وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان على المنبر فقبض كفيه اليمنى ثم قال هذا كتاب الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص ثم قبض كفه اليسرى وقال هذا كتاب الله كتب فيه أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم لا يزاد فيهم ولا ينقص وليعملن أهل السعادة بعمل أهل الشقاوة حتى يقال كأنهم مونهم بل هم هم ثم يستنقذهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة وليعملن أهل الشقاوة بعمل أهل السعادة حتى يقال كأنهم منهم بل هم هم ثم يستخرجهم الله قبل الموت ولو بفواق ناقة السعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقى بقضاء الله والأعمال بالخواتيم حديث هذا كتاب من الله كتب فيه أهل الجنة بأسمائهم وأسماء آبائهم الحديث أخرجه الترمذي من حديث عبد الله ابن عمر بن العاص وقال حسن صحيح غريب وهذا كإنقسام الخائفين إلى من يخاف معصيته وجنايته وإلى من يخاف الله تعالى نفسه لصفته وجلاله وأوصافه التي تقتضى الهيبة لا محالة فهذا أعلى رتبة ولذلك يبقى خوفه وإن كان في طاعة الصديقين وأما الآخر فهو في عرضة الغرور والأمن إن واظب على الطاعات فالخوف من المعصية خوف الصالحين والخوف من الله خوف الموحدين والصديقين وهو ثمرة المعرفة بالله تعالى وكل من عرفه وعرف صفاته علم من صفاته ما هو جدير بأن يخاف من غير جناية بل العاصي لو عرف الله حق المعرفة لخاف الله ولم يخف معصيته ولولا أنه مخوف في نفسه لما سخره للمعصية ويسر له سبيلها ومهد له أسبابها فإن تيسير أسباب المعصية إبعاد ولم يسبق منه قبل المعصية معصية استحق بها أن يسخر للمعصية وتجرى عليه أسبابها ولا سبق قبل الطاعة وسيلة توسل بها من يسرت له الطاعات ومهد له سبيل القربات فالعاصي قد قضى عليه بالمعصية شاء أم أبى وكذا المطيع فالذي يرفع محمد صلى الله عليه وسلم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده ويضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية سبقت منه قبل وجوده جدير بأن يخاف منه لصفة جلاله فإن من أطاع الله أطاع بأن سلط عليه إرادة الطاعة وآتاه القدر وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريا والذي عصى عصى لأنه سلط عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضروريا فليت شعرى ما الذي أوجب إكرام هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه وكيف يحال ذلك على العبد وإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة فالخوف ممن يقضى بما يشاء ويحكم بما يريد حزم عند كل عاقل ووراء هذا المعنى سر القدر لا يجوز إفشاؤه ولا يمكن أن تفهم الخوف منه في صفاته جل جلاله إلا بمثال لولا إذن الشرع لم يستجرىء على ذكره ذو بصيرة فقد جاء في الخبر إن الله تعالى أوحى إلى داود عليه السلام يا داود خفني كما تخاف السبع الضاري حديث إن الله تعالى أوحى إلى داود يا داود خفني كما يخاف السبع الضاري لم أجد له أصلا ولعل المصنف قصد بإيراده أنه من الإسرائيليات فإنه عبر عنه بقول جاء في الخبر وكثيرا ما يعبر بذلك عن الإسرائيليات التي هي غير مرفوعة فهذا المثال يفهمك حاصل المعنى وإن كان لا يقف بك على سببه فإن الوقوف على سببه وقوف على سر القدر ولا يكشف ذلك إلا لأهله والحاصل أن السبع يخاف لا لجناية سبقت إليه منك بل لصفته وبطشه وسطوته وكبره وهيبته ولأنه يفعل ما يفعل ولا يبالي فإن قتلك لم يرق قلبه ولا يتألم بقتلك وإن خلاك لم يخلك شفقة عليك وإبقاء على روحك بل أنت عنده أخس من أن يلتفت إليك حيا كنت أو ميتا بل إهلاك ألف مثلك وإهلاك نملة عنده على وتيرة واحدة إذ لا يقدح ذلك في عالم سبعيته وما هو موصوف به من قدرته وسطوته ولله المثل الأعلى ولكن من عرفه عرف بالمشاهدة الباطنة التي هي أقوى وأوثق وأجلى من المشاهدة الظاهرة أنه صادق في قوله هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي وهؤلاء إلى النار ولا أبالي ويكفيك من موجبات الهيبة والخوف المعرفة بالإستغناء وعدم المبالاة الطبقة الثانية من الخائفين أن يتمثل في أنفسهم ما هو المكروه وذلك مثل سكرات الموت وشدته أو سؤال منكر ونكير أو عذاب القبر أو هول المطلع أو هيبة الموقف بين يدي الله تعالى والحياء من كشف الستر والسؤال عن النقير والقطمير أو الخوف من الصراط وحدته وكيفية العبور عليه أو الخوف من النار وأغلالها وأهوالها أو الخوف من الحرمان عن الجنة دار النعيم والملك المقيم وعن نقصان الدرجات أو الخوف من الحجاب عن الله تعالى وكل هذه الأسباب مكروهة في نفسها فهي لا محالة مخوفة تختلف أحوال الخائفين فيها وأعلاها رتبة هو خوف الفراق والحجاب عن الله تعالى وهو خوف العارفين وما قبل ذلك هو خوف العاملين والصالحين والزاهدين وكافة العالمين ومن لم تكمل معرفته ولم تنفتح بصيرته لم يشعر بلذة الوصال ولا بألم البعد والفراق وإذا ذكر له أن العارف لا يخاف النار وإنما يخاف الحجاب وجد ذلك في باطنه منكرا وتعجب منه في نفسه وربما أنكر لذة النظر إلى وجه الله الكريم لولا منع الشرع إياه من إنكاره فيكون إعترافه به باللسان عن ضرورة التقليد وإلا فباطنه لا يصدق به لأنه لا يعرف إلا لذة البطن والفرج والعين بالنظر إلى الألوان والوجوه الحسان وبالجملة كل لذة تشاركه فيها البهائم فأما لذة العارفين فلا يدركها غيرهم وتفصيل ذلك وشرحه حرام مع من ليس أهلا له ومن كان أهلا له استبصر بنفسه واستغنى عن أن يشرحه له غيره فإلى هذه الأقسام يرجع خوف الخائفين نسأل الله تعالى حسن التوفيق بكرمه.

بيان فضيلة الخوف والترغيب فيه

أعلم أن فضل الخوف تارة يعرف بالتأمل والإعتبار وتارة بالآيات والأخبار أما الإعتبار فسبيله أن فضيلة الشيء بقدر غنائه في الإفضاء إلى سعادة لقاء الله تعالى في الآخرة إذ لا مقصود سوى السعادة ولا سعادة للعبد إلا في لقاء مولاه والقرب منه فكل ما أعان عليه فله فضيلة وفضيلته بقدر غايته وقد ظهر أنه لا وصول إلى سعادة لقاء الله في الآخرة إلا بتحصيل محبته والأنس به في الدنيا ولا تحصل المحبة إلا بالمعرفة ولاتحصل المعرفة إلا بدوام الفكر ولا يحصل الأنس إلا بالمحبة ودوام الذكر ولا تتيسر المواظبة على الذكر والفكر إلا بإنقطاع حب الدنيا من القلب ولا ينقطع ذلك إلا بترك لذات الدنيا وشهواتها ولا يمكن ترك المشتهيات إلا بقمع الشهوات ولا تنقعمع الشهوة بشىء كما تقمع بنار الخوف فالخوف هو النار المحرقة للشهوات فإن فضيلته بقدر ما يحرق من الشهوات وبقدر ما يكف عن المعاصي ويحث على الطاعات ويختلف ذلك بإختلاف درجات الخوف كما سبق وكيف لا يكون الخوف ذا فضيلة وبه تحصل العفة والورع والتقوى والمجاهدة وهي الأعمال الفاضلة المحمودة التي تقرب إلى الله زلفى وأما بطريق الإقتباس من الآيات والأخبار فما ورد في فضيلة الخوف خارج عن الحصر وناهيك دلالة على فضيلته جمع الله تعالى للخائفين الهدى والرحمة والعلم والرضوان وهي مجامع مقامات أهل الجنان وقال الله تعالى وهدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون وقال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء وصفهم بالعلم لخشيتهم وقال عز وجل رضى الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشى ربه وكل ما دل على فضيلة العلم دل على فضيلة الخوف لأن الخوف ثمرة العلم ولذلك جاء في خبر موسى عليه أفضل الصلاة والسلام وأما الخائفون فإن لهم الرفيق الأعلى لا يشاركون فيه فانظر كيف أفردهم بمرافقة الرفيق الأعلى وذلك لأنهم العلماء والعلماء لهم رتبة مرافقة الأنبياء لأنهم ورثة الأنبياء ومرافقة الرفيق الأعلى للأنبياء ومن يلحق بهم ولذلك لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرض موته بين البقاء في الدنيا وبين القدوم على الله تعالى كان يقول أسألك الرفيق الأعلى حديث لما خير في مرض موته كان يقول أسألك الرفيق الأعلى متفق عليه من حديث عائشة قالت كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول وهو صحيح إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة ثم يخير فلما نزل به ورأسه في حجري غشى عليه ثم أفاق فأشخص ببصره إلى سقف البيت ثم قال اللهم الرفيق الأعلى فعلمت أنه لا يختارنا وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا وهو صحيح الحديث فإذن إن نظر إلى مثمره فهو العلم وإن نظر إلى ثمرته فالورع والتقوى ولا يخفى ما ورد في فضائلهما حتى إن العاقب صارت موسومة بالتقوى مخصوصة بها كما صار الحمد مخصوصا بالله تعالى والصلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يقال الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وآله أجمعين وقد خصص الله تعالى التقوى بالإضافة إلى نفسه فقال تعالى لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم وإنما التقوى عبارة عن كف بمقتضى الخوف كما سبق ولذلك قال تعالى إن أكرمكم عند الله أتقاكم ولذلك أوصى الله تعالى الأولين والآخرين بالتقوى فقال تعالى ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وقال عز وجل وخافون إن كنتم مؤمنين فأمر بالخوف وأوجبه وشرطه في الإيمان فلذلك لا يتصور أن ينفك مؤمن عن خوف وإن ضعف ويكون ضعف خوفه بحسب ضعف معرفته وإيمانه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضيلة التقوى وإذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم فإذا هم بصوت يسمع أقصاهم كما يسمع أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت لكم مند خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني قد جعلت نسبا وجعلتم نسبا فوضعتم نسبي ورفعتم نسبكم قلت إن أكرمكم عند الله أتقاكم وأبيتم إلا أن تقولوا فلان بن فلان وفلان أغنى من فلان فاليوم أضع نسبكم وأرفع نسبي أين المتقون فيرفع للقوم لواء فيتبع القوم لواءهم إلى منازلهم فيدخلون الجنة بغير حساب حديث إذا جمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم ناداهم بصوت يسمعه أقصاهم كما يسمعه أدناهم فيقول يا أيها الناس إني قد أنصت إليكم منذ خلقتكم إلى يومكم هذا فأنصتوا إلي اليوم إنما هي أعمالكم ترد عليكم أيها الناس إني جعلت نسبا الحديث أخرجه الطبراني في الأوسط والحاكم في المستدرك بسند ضعيف والثعلبي في التفسير مقتصرا على آخره إني جعلت نسبا الحديث من حديث أبي هريرة وقال صلى الله عليه وسلم رأس الحكمة مخافة الله حديث رأس الحكمة مخافة الله رواه أبو بكر بن لال الفقيه في مكارم الأخلاق والبيهقي في الشعب وضعفه من حديث ابن مسعود ورواه في دلائل النبوة من حديث عقبة بن عامر ولا يصح أيضا وقال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي حديث إن أردت أن تلقاني فأكثر من الخوف بعدي قاله لابن مسعود لم أقف له على أصل وقال الفضيل من خاف الله دله الخوف على كل خير وقال الشبلي رحمه الله ما خفت الله يوما إلا رأيت له بابا من الحكمة والعبرة ما رأيته قط وقال يحيى بن معاذ ما من مؤمن يعمل السيئة إلا ويلحقها حسنتان خوف العقاب ورجاء العفو كثعلب بين أسدين وفي خبر موسى عليه الصلاة والسلام وأما الورعون فإنه لا يبقى أحد إلا ناقشته الحساب وفتشت عما في يديه إلا الورعين فإني أستحي منهم وأجلهم أن أوقفهم للحساب والورع والتقوى أسام اشتقت من معان شرطها الخوف فإن خلت عن الخوف لم تسم بهذه الأسامي وكذلك ما ورد في فضائل الذكر لا يخفى وقد جعله الله تعالى مخصوصا بالخائفين فقال سيذكر من يخشى وقال تعالى ولمن خاف مقام ربه جنتان وقال صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل وعزتي لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين فإن أمنني في الدنيا أخفته يوم القيامة وإن خافتي في الدنيا أمنته يوم القيامة حديث لا أجمع على عبدي خوفين ولا أجمع له أمنين أخرجه ابن حبان في صحيحه والبيهقي في الشعب من حديث أبي هريرة ورواه ابن المبارك في الزهد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية الحسن مرسلا وقال صلى الله عليه وسلم من خاف الله تعالى خافه كل شيء ومن خاف غير الله خوفه الله من كل شيء حديث من خاف الله خافه كل شيء الحديث رواه أبو الشيخ ابن حبان في كتاب الثواب من حديث أبي أمامة بسند ضعيف جدا ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين بإسناد ضعيف معضل وقد تقدم وقال صلى الله عليه وسلم أتمكم عقلا أشدكم خوفا لله تعالى وأحسنكم فيما أمر الله تعالى به ونهى عنه نظرا حديث أتمكم عقلا أشدكم لله خوفا الحديث لم أقف له على أصل ولم يصح في فضل العقل شيء وقال يحيى بن معاذ رحمة الله عليه مسكين ابن آدم لو خاف النار كما يخاف الفقر دخل الجنة وقال ذو النون رحمه الله تعالى من خاف الله تعالى ذاب قلبه واشتد حبه وصح له لبه وقال ذو النون أيضا ينبغي أن يكون الخوف أبلغ من الرجاء فإذا غلب الرجاء تشوش القلب وكان أبو الحسين الضرير يقول علامة السعادة خوف الشقاوة لأن الخوف زمام بين الله تعالى وبين عبده فإذا انقطع زمامه هلك مع الهالكين وقيل ليحيى بن معاذ من آمن الخلق غدا فقال أشدهم خوفا اليوم وقال سهل رحمه الله لا تجد الخوف حتى تأكل الحلال وقيل للحسن يا أبا سعيد كيف نصنع نجالس أقواما يخوفونا حتى تكاد قلوبنا تطير فقال والله إنك إن تخالط أقواما يخوفونك حتى يدركك أمن خير لك من أن تصحب أقواما يؤمنونك حتى يدركك الخوف وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما فارق الخوف قلبا إلا خرب وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال لا بل الرجل يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه حديث عائشة قلت يا رسول الله الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الرجل يسرق ويزني قال لا الحديث رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم وقال صحيح الإسناد قلت بل منقطع بين عائشة وبين عبد الرحمن بن سعد بن وهب قال الترمذي وروي عن الرحمن بن حازم عن أبي هريرة والتشديدات الواردة في الأمن من مكر الله وعذابه لا تنحصر وكل ذلك ثناء على الخوف لأن مذمة الشيء ثناء على ضده الذي ينفيه وضد الخوف الأمن كما أن ضد الرجاء اليأس وكما دلت مذمة القنوط على فضيلة الرجاء فكذلك تدل مذمة الأمن على فضيلة الخوف المضاد له بل نقول كل ما ورد في فضل الرجاء فهو دليل على فضل الخوف لأنهما متلازمان فإن كل من رجا محبوبا فلابد وأن يخاف فوته فإن كان لا يخاف فوته فهو إذا لا يحبه فلا يكون بانتظاره راجيا فالخوف والرجاء متلازمان يستحيل انفكاك أحدهما عن الآخر نعم يجوز أن يغلب أحدهما على الآخر وهما مجتمعان ويجوز أن يشتغل القلب بأحدهما ولا يلتفت إلى الآخر في الحال لغفلته عنه وهذا لأن من شرط الرجاء الخوف تعلقهما بما هو مشكوك فيه إذ المعلوم لا يرجى ولا يخاف فإذن المحبوب الذي يجوز وجوده يجوز عدمه لا محالة فتقدير وجوده يروح القلب وهو الرجاء وتقدير عدمه يوجع القلب وهو الخوف والتقدير أن يتقابلان لا محالة إذا كان ذلك الأمر المنتظر مشكوكا فيه نعم أحد طرفي الشك قد يترجح على الآخر بحضور بعض الأسباب ويسمى ذلك ظنا فيكون ذلك سبب غلبة أحدهما على الآخر فإذا غلب على الظن وجود المحبوب قوى الرجاء وخفي الخوف بالإضافة إليه وكذا بالعكس وعلى كل حال فهما متلازمان ولذلك قال تعالى ويدعوننا رغبا ورهبا وقال عز وجل يدعون ربهم خوفا وطمعا ولذلك عبر العرب عن الخوف بالرجاء فقال تعالى ما لكم لا ترجون لله وقارا أي لا تخافون وكثيرا ما ورد في القرآن الرجاء بمعنى الخوف وذلك لتلازمهما إذ عادة العرب التعبير عن الشيء بما يلازمه بل أقول كل ما ورد في فضل البكاء من خشية الله فهو إظهار لفضيلة الخشية فإن البكاء ثمرة الخشية فقد قال تعالى فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا وقال تعالى يبكون ويزيدهم خشوعا وقال عز وجل أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون وأنتم سامدون وقال صلى الله عليه وسلم ما من عبد مؤمن تخرج من عينيه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب من خشية الله تعالى ثم تصيب شيئا من حر وجهه إلا حرمه الله على النار حديث ما من مؤمن يخرج من عينه دمعة وإن كانت مثل رأس الذباب الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي في الشعب من حديث ابن مسعود بسند ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم إذا اقشعر قلب المؤمن من خشية الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات من الشجرة ورقها حديث إذا اقشعر جلد المؤمن من خشية الله تعالى تحاتت عنه ذنوبه الحديث أخرجه الطبراني والبيهقي فيه من حديث العباس بسند ضعيف وقال صلى الله عليه وسلم لا يلج النار أحد بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع حديث لا يلج النار عبد بكى من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح والنسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة وقال عقبة بن عامر من النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك وليسعك بيتك وابك على خطيئتك حديث قال عقبة بن عامر ما النجاة يا رسول الله قال أمسك عليك لسانك الحديث تقدم وقالت عائشة رضي الله عنها قلت يا رسول الله أيدخل أحد من أمتك الجنة بغير حساب قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى حديث عائشة قلت أيدخل الجنة أحد من أمتك بغير حساب قال نعم من ذكر ذنوبه فبكى لم أقف له على أصل وقال صلى الله عليه وسلم ما من قطرة أحب إلى الله تعالى من قطرة دمع من خشية الله تعالى أو قطرة دم أهريقت في سبيل الله سبحانه وتعالى حديث ما من قطرة أحب إلى الله من قطرة دمعة من خشية الله الحديث أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة وقال حسن غريب وقد تقدم وقال صلى الله عليه وسلم اللهم ارزقني عينين هطالتين تشفيان القلب بذروف الدمع مع خشيتك قبل أن تصير الدموع دما والأضراس جمرا حديث اللهم ارزقني عينين هطالتين يشفيان القلب بذروف الدمع الحديث أخرجه الطبراني في الكبير في الدعاء وأبو نعيم في الحلية من حديث ابن عمر بإسناد حسن ورواه الحسين المروزي في زياداته على الزهد والرقائق لابن المبارك من رواية سالم بن عبد الله مرسلا دون ذكر الله وذكر الدارقطني في العلل أن من قال فيه عن أبيه وهم وإنما هو عن سالم بن عبد الله مرسلا قال وسالم هذا يشبه أن يكون سالم بن عبد الله المحاربي وليس بابن عمر انتهى وما ذكره من أنه سالم المحاربي هو الذي يدل عليه كلام البخاري في التاريخ ومسلم في الكنى وابن أبي حاتم عن أبيه وأبي أحمد الحاكم فإن الراوي له عن سالم عبد الله أبو سلمة وإنما ذكروا له رواية عن سالم المحاربي والله أعلم نعم حكى ابن عساكر في تاريخه الخلاف في أن الذي يروي عن سالم المحاربي أو سالم بن عبد الله بن عمر وقال صلى الله عليه وسلم سبعة يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله وذكر منهم رجلا ذكر الله خاليا ففاضت عيناه حديث سبعة يظلهم الله في ظله الحديث متفق عليه من حديث أبي هريرة وقد تقدم وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه من استطاع أن يبكي فليبك ومن لم يستطع فليتباك وكان محمد بن المنكدر رحمه الله إذا بكى مسح وجهه ولحيته بدموعه ويقول بلغني أن النار لا تأكل موضعا مسته الدموع وقال عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله ما تغرغرت عين بمائها إلا لم يرهق وجه صاحبها قتر ولا ذلة يوم القيامة فإن سالت دموعه أطفأ الله بأول قطرة منها بحارا من النيران ولو أن رجلا بكى في أمة ما عذبت تلك الأمة وقال أبو سليمان البكاء من الخوف والرجاء والطرب من الشوق وقال كعب الأحبار رضي الله عنه والذي نفسي بيده لأن أبكي من خشية الله حتى تسيل دموعي على وجنتي أحب إلي من أن أتصدق بجبل من ذهب وقال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار وروي عن حنظلة قال كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة رقت لها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فدنت مني المرأة وجرى بيننا من حديث الدنيا فنسيت ما كنا عليه عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذنا في الدنيا ثم تذكرت ما كنا فيه فقلت في نفسي قد نافقت حيث تحول عني ما كنت فيه من الخوف والرقة فخرجت وجعلت أنادي نافق حنظلة فاستقبلني أبو بكر الصديق رضي الله عنه فقال كلا لم ينافق حنظلة فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول نافق حنظلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلا لم ينافق حنظلة فقلت يا رسول الله كنا عندك فوعظتنا موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون وعرفنا أنفسنا فرجعت إلى أهلي فأخذنا في حديث الدنيا ونسيت ما كنا عندك عليه فقال صلى الله عليه وسلم يا حنظلة لو أنكم كنتم أبدا على تلك الحالة لصافحتكم الملائكة في الطريق وعلى فراشكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة حديث حنظلة كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فوعظنا الحديث وفيه نافق حنظلة الحديث وفيه ولكن يا حنظلة ساعة وساعة أخرجه مسلم مختصرا فإذن كل ما ورد في فضل الرجاء والبكاء وفضل التقوى والورع وفضل العلم ومذمة الأمن فهو دلالة على فضل الخوف لأن جملة ذلك متعلقة به إما تعلق السبب أو تعلق المسبب.

بيان أن الأفضل هو غلبة الخوف أو غلبة الرجاء أو اعتدالهما

اعلم أن الأخبار في فضل الخوف والرجاء قد كثرت وربما ينظر الناظر إليها فيعتريه شك في أن الأفضل أيهما وقول القائل الخوف أفضل أم الرجاء سؤال فاسد يضاهي قول القائل الخبز أفضل أم الماء وجوابه أن يقال الخبز أفضل للجائع والماء أفضل للعطشان فإن اجتمعا نظر إلى الأغلب فإن كان الجوع أغلب فالخبز أفضل وإن كان العطش أغلب فالماء أفضل وإن استويا فهما متساويان وهذا لأن كل ما يراد لمقصود ففضله يظهر بالإضافة إلى مقصوده لا إلى نفسه والخوف والرجاء دواءان يداوي بهما القلوب ففضلهما بحسب الداء الموجود فإن كان الغالب على القلب داء الأمن من مكر الله تعالى والاغترار به فالخوف أفضل وإن كان الأغلب هو اليأس والقنوط من رحمة الله فالرجاء أفضل وكذلك إن كان الغالب على العبد المعصية فالخوف أفضل ويجوز أن يقال مطلقا الخوف أفضل على التأويل الذي يقال فيه الخبز أفضل من السكنجبين إذ يعالج بالخبز مرض الجوع و بالسكنجبين مرض الصفراء ومرض الجوع أغلب وأكثر فالحاجة إلى الخبز أكثر فهو أفضل فبهذا الاعتبار غلبة الخوف أفضل لأن المعاصي والاغترار على الخلق أغلب وإن نظر إلى مطلع الخوف والرجاء فالرجاء أفضل لأنه مستقى من بحر الرحمة ومستقى الخوف من بحر الغضب ومن لاحظ من صفات الله تعالى ما يقتضي اللطف والرحمة كانت المحبة عليه أغلب وليس وراء المحبة مقام وأما الخوف فمستنده الالتفات إلى الصفات التي تقتضي العنف فلا تمازجه المحبة ممازجتها للرجاء وعلى الجملة فما يراد لغيره ينبغي أن يستعمل فيه لفظ الأصلح لا لفظ الأفضل فنقول أكثر الخلق الخوف لهم أصلح من الرجاء وذلك لأجل غلبة المعاصي فأما التقى الذي ترك ظاهر الإثم وباطنه وخفيه وجليه فالأصلح أن يعتدل خوفه ورجاؤه ولذلك قيل لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا وروى أن عليا كرم الله وجهه قال لبعض ولده يا بني خف الله خوفا ترى أنك لو أتيته بحسنات أهل الأرض لم يتقبلها منك وارج الله رجاء ترى أنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك ولذلك قال عمر رضي الله عنه لو نودي ليدخل النار كل الناس إلا رجلا واحدا لرجوت أن أكون أنا ذلك الرجل ولو نودي ليدخل الجنة كل الناس إلا رجلا واحدا لخشيت أن أكون أنا ذلك الرجل وهذا عبارة عن غاية الخوف والرجاء واعتدالهما مع الغلبة والاستيلاء ولكن على سبيل التقاوم والتساوي فمثل عمر رضي الله عنه ينبغي أن يستوي خوفه ورجاؤه فأما العاصي إذا ظن أنه الرجل الذي استثنى من الذين أمروا بدخول النار كان ذلك دليلا على اغتراره فإن قلت مثل عمر رضي الله عنه لا ينبغي أن يتساوى خوفه ورجاؤه بل ينبغي أن يغلب رجاؤه كما سبق في أول كتاب الرجاء وأن قوته ينبغي أن تكون بحسب قوة أسبابه كما مثل بالزرع والبذر ومعلوم أن من بث البذر الصحيح في أرض نقية وواظب على تعهدها وجاء بشروط الزراعة جميعها غلب على قلبه رجاء الإدراك ولم يكن خوفه مساويا لرجائه فهكذا ينبغي أن تكون أحوال المتقين فاعلم أن من يأخذ المعارف من الألفاظ والأمثلة يكثر زلله وذلك وإن أوردناه مثالا فليس يضاهي ما نحن فيه من كل وجه لأن سبب غلبة الرجاء العلم الحاصل بالتجربة إذ علم بالتجربة صحة الأرض ونقاؤها وصحة البذر وصحة الهواء وقلة الصواعق المهلكة في تلك البقاع وغيرها وإنما مثال مسألتنا بذر لم يجرب جنسه وقد بث في أرض غريبة لم يعهدها الزارع ولم يختبرها وهي في بلاد ليس يدري أتكثر الصواعق فيها أم لا فمثل هذا الزارع وإن أدى كنه مجهوده وجاء بكل مقدوره فلا يغلب رجاؤه على خوفه والبذر في مسألتنا هو الإيمان وشروطه صحته دقيقة والأرض القلب وخفايا خبثة وصفائه من الشرك الخفي والنفاق والرياء وخفايا الأخلاق فيه غامضة والآفات هي الشهوات وزخارف الدنيا والتفات القلب إليها في مستقبل الزمان وإن سلم في الحال وذلك مما لا يتحقق ولا يعرف بالتجربة إذ قد تعرض من الأسباب ما لا يطاق مخالفته ولم يجرب مثله والصواعق هي أهوال سكرات الموت واضطراب الاعتقاد عنده وذلك مما لم يجرب مثله ثم الحصاد والإدراك عند المنصرف من القيامة إلى الجنة وذلك لم يجرب فمن عرف حقائق هذه الأمور فإن كان ضعيف القلب جبانا في نفسه غلب خوفه على رجائه لا محالة كما سيحكى في أحوال الخائفين من الصحابة والتابعين وإن كان قوي القلب ثابت الجأش تام المعرفة استوى خوفه ورجاؤه فأما أن يغلب رجاؤه فلا ولقد كان عمر رضي الله عنه يبالغ في تفتيش قلبه حتى كان يسأل حذيفة رضي الله عنه أنه هل يعرف به من آثار النفاق شيئا إذ كان قد خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين حديث أن حذيفة كان خصه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعلم المنافقين أخرجه مسلم من حديث حذيفة في أصحابي اثنا عشر منافقا تمامه لا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط الحديث فمن ذا الذي يقدر على تطهير قلبه من خفايا النفاق والشرك الخفي وإن اعتقد نقاء قلبه عن ذلك فمن أين يأمن مكر الله تعالى بتلبيس حاله عليه وإخفاء عيبه عنه وإن وثق به فمن أين يثق ببقائه على ذلك إلى تمام حسن الخاتمة وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبرا وفي رواية الأقدر فواق ناقة الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم له بعمل أهل النار وللبزار وللطبراني في الأوسط سبعين سنة وإسناده حسن وللشيخين في أثناء حديث لابن مسعود أن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع الحديث ليس فيه تقدير زمن للعمل بخمسين سنة ولا ذكر شبر ولا فواق ناقة وفي رواية إلا قدر فواق ناقة فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار وقدر فواق الناقة لا يحتمل عملا بالجوارح إنما هو بمقدار خاطر يختلج في القلب عند الموت فيقتضي خاتمة السوء فكيف يؤمن ذلك فإذن أقصى غايات المؤمن أن يعتدل خوفه ورجاءه وغلبة الرجاء في غالب الناس تكون مستندة للاغترار وقلة المعرفة ولذلك جمع الله تعالى بينهما في وصف من أثنى عليهم فقال تعالى يدعون ربهم خوفا وطمعا وقال عز وجل ويدعوننا رغبا ورهبا وأين مثل عمر رضي الله عنه فالخلق الموجودة في هذا الزمان كلهم الأصلح لهم غلبة الخوف بشرط أن لا يخرجهم إلى اليأس وترك العمل وقطع الطمع من المغفرة فيكون ذلك سببا للتكاسل عن العمل وداعيا إلى الانهماك في المعاصي فإن ذلك قنوط وليس بخوف إنما الخوف هو الذي يحث على العمل ويكدر جميع الشهوات ويزعج القلب عن الركون إلى الدنيا ويدعوه إلى التجافي عن دار الغرور فهو الخوف المحمود دون حديث النفس الذي لا يؤثر في الكف والحث ودون اليأس الموجب للقنوط وقد قال يحيى بن معاذ من عبد الله تعالى بمحض الخوف غرق في بحار الأفكار ومن عبده بمحض الرجاء تاه في مفازة الاغترار ومن عبده بالخوف والرجاء استقام في محجة الادكار وقال مكحول الدمشقي من عبد الله بالخوف فهو حروري ومن عبده بالرجاء فهو مرجىء ومن عبده بالمحبة فهو زنديق ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو موحد فإذن لا بد من الجمع بين هذه الأمور وغلبة الخوف هو الأصلح ولكن قبل الإشراف على الموت أما عند الموت فالأصلح غلبة الرجاء وحسن الظن لأن الخوف جار مجرى السوط الباعث على العمل وقد انقضى وقت العمل فالمشرف على الموت لا يقدر على العمل ثم لا يطيق أسباب الخوف فإن ذلك يقطع نياط قلبه ويعين على تعجيل موته وأما روح الرجاء فإنه يقوى قلبه ويحبب إليه ربه الذي إليه رجاؤه ولا ينبغي أن يفارق أحد الدنيا إلا محبا لله تعالى ليكون محبا للقاء الله تعالى فإن من أحب لقاء الله تعالى أحب الله لقاءه والرجاء تقارنه المحبة فمن ارتجى كرمه فهو محبوب والمقصود من العلوم والأعمال كلها معرفة الله تعالى حتى تثمر المعرفة المحبة فإن المصير إليه والقدوم بالموت عليه ومن قدم على محبوبه عظم سروره بقدر محبته ومن فارق محبوبه اشتدت محنته وعذابه فمهما كان القلب الغالب عليه عند الموت حب الأهل والولد والمال والمسكن والعقار والرفقاء والأصحاب فهذا رجل محابه كلها في الدنيا فالدنيا جنته إذ الجنة عبارة عن البقعة الجامعة لجميع المحاب فموته خروج من الجنة وحيلولة بينه وبين ما يشتهيه ولا يخفى حال من يحال بينه وبين ما يشتهيه فإذا لم يكن له محبوب سوى الله تعالى وسوى ذكره ومعرفته والفكر فيه والدنيا وعلائقها شاغلة له عن المحبوب فالدنيا إذن سجنه لأن السجن عبارة عن البقعة المانعة للمحبوس عن الاسترواح إلى محابه فموته قوم على محبوبه وخلاص من السجن ولا يخفى حال من أفلت من السجن وخلى بينه وبين محبوبه بلا مانع ولا مكدر فهذا أول ما يلقاه كل من فارق الدنيا عقيب موته من الثواب والعقاب فضلا عما أعده الله لعباده الصالحين مما لم تره عين ولا تسمعه أذن ولا خطر على قلب بشر وفضلا عما أعده الله تعالى للذين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ورضوا بها واطمأنوا إليها من الأنكال والسلاسل والأغلال وضروب الخزى والنكال فنسأل الله تعالى أن يتوفانا مسلمين ويلحقنا بالصالحين ولا مطمع في إجابة هذا الدعاء إلا باكتساب حب الله تعالى ولا سبيل إليه إلا بإخراج حب غيره من القلب وقطع العلائق عن كل ما سوى الله تعالى من جاه ومال ووطن فالأولى أن تدعو بما دعا به نبينا صلى الله عليه وسلم إذ قال اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب ما يقربني إلى حبك واجعل حبك أحب إلي من الماء البارد حديث اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك الحديث أخرجه الترمذي من حديث معاذ وتقدم في الأذكار والدعوات والغرض أن غلبة الرجاء عند الموت أصلح لأنه أجلب للمحبة وغلبة الخوف قبل الموت أصلح لأنه أحرق لنار الشهوات وأقمع لمحبة الدنيا عن القلب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه حديث لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه أخرجه مسلم من حديث جابر وقد تقدم وقال تعالى أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء ولما حضرت سليمان التيمي الوفاة قال لابنه يا بني حدثني بالرخص واذكر لي الرجاء حتى ألقى الله على حسن الظن به وكذلك لما حضرت الثوري الوفاة واشتد جزعه جمع العلماء حوله يرجونه وقال أحمد بن حنبل رضي الله تعالى عنه لابنه عند الموت اذكر لي الأخبار التي فيها الرجاء وحسن الظن والمقصود من ذلك كله أن يحبب الله تعالى إلى نفسه ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام أن حببني إلى عبادي فقال بماذا قال بأن تذكر لهم آلائي ونعمائي فإذن غاية السعادة أن يموت محبا لله تعالى وإنما تحصل المحبة بالمعرفة بإخراج حب الدنيا من القلب حتى تصير الدنيا كلها كالسجن المانع من المحبوب ولذلك رأى بعض الصالحين أبا سليمان الداراني في المنام وهو يطير فسأله فقال الآن أفلت فلما أصبح سأل عن حاله فقيل له إنه مات البارحة.

بيان الدواء الذي به يستجلب حال الخوف

اعلم أن ما ذكرناه في حال الصبر وشرحناه في كتاب الصبر والشكر هو كاف في هذا الغرض لأن الصبر لا يمكن إلا بعد حصول الخوف والرجاء لأن أول مقامات الدين اليقين الذي هو عبارة عن قوة الإيمان بالله تعالى باليوم والآخر والجنة والنار وهذا اليقين بالضرورة يهيج الخوف من النار والرجاء للجنة والرجاء والخوف يقويان على الصبر فإن الجنة قد حفت بالمكاره فلا يصبر على تحملها إلا بقوة الرجاء والنار قد حفت بالشهوات فلا يصبر على قمعها إلا بقوة الخوف ولذلك قال علي كرم الله وجهه من اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار رجع عن المحرمات ثم يؤدي مقام الصبر المستفاد من الخوف والرجاء إلى مقام المجاهدة والتجرد لذكر الله تعالى والفكر فيه على الدوام ويؤدي دوام الذكر إلى الأنس ودوام الفكر إلى كمال المعرفة ويؤدي كمال المعرفة والأنس إلى المحبة ويتبعها مقام الرضا والتوكل وسائر المقامات فهذا هو الترتيب في سلوك منازل الدين وليس بعد أصل اليقين مقام سوى الخوف والرجاء ولا بعدهما مقام سوى الصبر وبه المجاهدة والتجرد لله ظاهرا وباطنا ولا مقام بعد المجاهدة لمن فتح له الطريق إلا الهداية والمعرفة ولا مقام بعد المعرفة إلا المحبة والأنس ومن ضرورة المحبة الرضا بفعل المحبوب والثقة بعنايته وهو التوكل فإذن فيما ذكرناه في علاج الصبر كفاية ولكنا نفرد الخوف بكلام جملى فنقول الخوف يحصل بطريقتين مختلفين أحدهما أعلى من الآخر ومثاله أن الصبي إذا كان في بيت فدخل عليه سبع أو حية ربما كان لا يخاف وربما مد اليد إلى الحية ليأخذها ويلعب بها ولكن إذا كان معه أبوه وهو عاقل خاف من الحية وهرب منها فإذا نظر الصبي إلى أبيه وهو ترتعد فرائصه ويحتال في الهرب منها قام معه وغلب عليه الخوف ووافقه في الهرب فخوف الأب عن بصيرة ومعرفة بصفة الحية وسمها وخاصيتها وسطوة السبع وبطشه وقلة مبالاته وأما خوف الابن فإيمانه بمجرد التقليد لأنه يحسن الظن بأبيه ويعلم أنه لا يخاف إلا من سبب مخوف في نفسه فيعلم أن السبع مخوف ولا يعرف وجهه وإذا عرفت هذا المثال فاعلم أن الخوف من الله تعالى على مقامين أحدهما الخوف من عذابه والثاني الخوف منه فأما الخوف منه فهو خوف العلماء وأرباب القلوب العارفين من صفاته ما يقتضي الهيبة والخوف والحذر المطلعين على سر قوله تعالى ويحذركم الله نفسه وقوله عز وجل اتقوا الله حق تقاته وأما الأول فهو خوف عموم الخلق وهو حاصل بأصل الإيمان بالجنة والنار وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية وضعفه بسبب الغفلة وسبب ضعف الإيمان وإنما تزول الغفلة بالتذكير والوعظ وملازمة الفكر في أهوال يوم القيامة وأصناف العذاب في الآخرة وتزول أيضا بالنظر إلى الخائفين ومجالستهم ومشاهدة أحوالهم فإن فاتت المشاهدة فالسماع لا يخلو عن تأثير وأما الثاني وهو الأعلى فأن يكون الله هو المخوف أعني أن يخاف العبد الحجاب عنه ويرجو القرب منه قال ذو النون رحمه الله تعالى خوف النار عند خوف الفراق كقطرة قطرت في بحر لجي وهذه خشية العلماء حيث قال تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء ولعموم المؤمنين أيضا حظ من هذه الخشية ولكن هو بمجرد التقليد أيضا هي خوف الصبي من الحية تقليدا لأبيه وذلك لا يستند إلى بصيرة فلا جرم يضعف ويزول على قرب حتى إن الصبي ربما يرى المعزم يقدم على أخذ الحية فينظر إليه ويغتر به فيتجرأ على أخذها تقليدا له كما احترز من أخذها تقليدا لأبيه والعقائد التقليدية ضعيفة في الغالب إلا إذا قويت بمشاهدة أسبابها المؤكدة لها على الدوام وبالمواظبة على مقتضاها في تكثير الطاعات واجتناب المعاصي مدة طويلة على الاستمرار فإذن من ارتقى إلى ذروة المعرفة وعرف الله تعالى خافه بالضرورة فلا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف كما أن من عرف السبع ورأى نفسه واقعا في مخالبه لا يحتاج إلى علاج لجلب الخوف إلى قلبه بل يخافه بالضرورة شاء أم أبى ولذلك أوحى الله تعالى إلى داود عليه الصلاة والسلام خفني كما تخاف السبع الضاري ولا حيلة في جلب الخوف من السبع الضاري إلا معرفة السبع ومعرفة الوقوع في مخالبة فلا يحتاج إلى حيلة سواء فمن عرف الله تعالى عرف أنه يفعل ما يشاء ولا يبالي ويحكم ما يريد ولا يخاف قرب الملائكة من غير وسيلة سابقة وأبعد إبليس من غير جريمة سالفة بل صفته ما ترجمه قوله تعالى هؤلاء في الجنة ولا أبالي وهؤلاء في النار ولا أبالي وإن خطر ببالك أنه لا يعاقب إلا على معصية ولا يثيب إلا على طاعة فتأمل أنه لم يمد المطيع بأسباب الطاعة حتى يطيع شاء أم أبى ولم يمد العاصي بدواعي المعصية حتى يعصي شاء أم أبى فإنه مهما خلق الغفلة والشهوة والقدرة على قضاء الشهوة كان الفعل واقعا بها بالضرورة فإن كان أبعده لأنه عصاه فلم حمله على المعصية هل ذلك لمعصية سابقة حتى يتسلسل إلى غير نهاية أو يقف لا محالة على أول لا علة له من جهة العبد بل قضى عليه في الأزل وعن هذا المعنى عبر صلى الله عليه وسلم إذ قال احتج آدم موسى عليهما الصلاة والسلام عند ربهما فحج آدم موسى عليه السلام قال موسى أنت آدم الذي خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأسكنك جنته ثم أهبطت الناس بخطيئتك إلى الأرض فقال آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء وقربك نجيا فبكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق قال موسى بأربعين عاما قال آدم فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى قال نعم قال أفتلومني على أن عملت عملا كتبه الله علي قبل أن أعمله وقبل أن يخلقني بأربعين سنة قال صلى الله عليه وسلم فحج آدم موسى حديث احتج آدم وموسى عند ربهما فحج آدم موسى الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة وهو متفق عليه بألفاظ أخر فمن عرف السبب في هذا الأمر معرفة صادرة عن نور الهداية فهو من خصوص العارفين المطلعين على سر القدر ومن سمع هذا فآمن به وصدق بمجرد السماع فهو من عموم المؤمنين ويحصل لكل واحد من الفريقين خوف فإن كان عبد فهو واقع في قبضة القدرة وقوع الصبي الضعيف في مخالب السبع والسبع قد يغفل بالاتفاق فيخليه وقد يهجم عليه فيفترسه وذلك بحسب ما يتفق ولذلك الاتفاق أسباب مرتبة بقدر معلوم ولكن إذا أضيف إلى من لا يعرفه سمي اتفاقا وإن أضيف إلى علم الله لم يجز أن يسمى اتفاقا والواقع في مخالب السبع لو كملت معرفته لكان لا يخاف السبع لأن السبع مسخر إن سلط عليه الجوع افترس وإن سلط عليه الغفلة خلى وترك فإنما يخاف خالق السبع وخالق صفاته فلست أقول مثال الخوف من الله تعالى الخوف من السبع بل إذا كشف الغطاء علم أن الخوف من السبع هو عين الخوف من الله تعالى لأن المهلك بواسطة السبع هو الله فاعلم أن سباع الآخرة مثل سباع الدنيا وأن الله تعالى خلق أسباب العذاب وأسباب الثواب وخلق لكل واحد أهلا يسوقه القدر المتفرع عن القضاء الجزم الأزلي إلى ما خلق له فخلق الجنة وخلق لها أهلا سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا وخلق النار وخلق لها أهلا سخروا لأسبابها شاءوا أم أبوا فلا يرى أحد نفسه في ملتطم أمواج القدر إلا غلبه الخوف بالضرورة فهذه مخاوف العارفين بسر القدر فمن قعد به القصور عن الارتفاع إلى مقام الاستبصار فسبيله أن يعالج نفسه بسماع الأخبار والآثار فيطالع أحوال الخائفين العارفين وأقوالهم وينسب عقولهم ومناصبهم إلى مناصب الراجين المغرورين فلا يتمارى في أن الاقتداء بهم أولى لأنهم الأنبياء والأولياء والعلماء وأما الآمنون فهم الفراعنة والجهال والأغنياء أما رسولنا صلى الله عليه وسلم فهو سيد الأولين والآخرين حديث كان سيد الأولين والآخرين أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة أنا سيد ولد آدم ولا فخر الحديث وكان أشد الناس خوفا حديث كان أشد الناس خوفا تقدم قبل هذا بخمسة وعشرين حديثا قوله والله إني لأخشاكم لله وقوله والله إني لأعلمهم بالله وأشدهم له خشية حتى روى أنه كان يصلي على طفل ففي رواية أنه سمع في دعائه يقول اللهم قه عذاب القبر وعذاب النار حديث أنه كان يصلي على طفل سمع في دعائه يقول اللهم قه عذاب القبر وعذاب النار أخرجه الطبراني في الأوسط من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على صبي أو صبية وقال لو كان أحد نجا من ضمة القبر لنجا هذا الصبي واختلف في إسناده فرواه في الكبير من حديث أبي أيوب أن صبيا دفن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو أفلت أحد من ضمة القبر لأفلت هذا الصبي وفي رواية ثانية أنه سمع قائلا يقول هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال ما يدريك أنه كذلك والله إني رسول الله وما أدري ما يصنع بي إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلا لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم حديث أنه سمع قائلة تقول لطفل مات هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة فغضب وقال ما يدريك الحديث أخرجه مسلم من حديث عائشة قالت توفى صبي فقلت طوبى له عصفور من عصافير الجنة الحديث وليس فيه فغضب وقد تقدم وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال ذلك أيضا على جنازة عثمان بن مظعون وكان من المهاجرين الأولين لما قالت أم سلمة هنيئا لك الجنة فكانت تقول أم سلمة بعد ذلك والله لا أزكى أحدا بعد عثمان حديث لما توفي عثمان بن مظعون قالت أم سلمة هنيئا لك الجنة الحديث أخرجه البخاري من حديث أم العلاء الأنصارية وهي القائلة رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله قال وما يدريك الحديث وورد أن التي قالت ذلك أم خارجة بن زيد ولم أجد فيه ذكر أم سلمة وقال محمد بن خولة الحنفية والله لا أزكى أحدا غير رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبي الذي ولدني قال فثارت الشيعة عليه فأخذ يذكر من فضائل علي ومناقبه وروي في حديث آخر عن رجل من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئا لك عصفور من عصافير الجنة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتلت في سبيل الله فقال صلى الله عليه وسلم وما يدريك لعله كان يتكلم بما لا ينفعه ويمنع ما لا يضره حديث إن رجلا من أهل الصفة استشهد فقالت أمه هنيئا لك يا بني الجنة رواه البيهقي في الشعب إلا أنه قال فقالت أمه هنيئا لك الشهادة وهو عند الترمذي إلا أنه قال إن رجلا قال له أبشر بالجنة وقد تقدم في ذم المال والبخل مع اختلاف وفي حديث آخر أنه دخل صلى الله عليه وسلم على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول هنيئا لك الجنة فقال صلى الله عليه وسلم من هذه المتألية على الله تعالى فقال المريض هي أمي يا رسول الله فقال وما يدريك لعل فلانا كان يتكلم بما لا يعنيه ويبخل بما لا يغنيه حديث دخل على بعض أصحابه وهو عليل فسمع امرأة تقول هنيئا له الجنة الحديث تقدم أيضا وكيف لا يخاف المؤمنون كلهم وهو صلى الله عليه وسلم يقول شيبتني هود وأخواتها حديث شيبتني هود وأخواتها الحديث أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من حديث ابن عباس وهو في الشمائل من حديث أبي جحيفة وقد تقدم في كتاب السماع سورة الواقعة وإذا الشمس كورت وعم يتساءلون فقال العلماء لعل ذلك لما في سورة هود من الإبعاد كقوله تعالى ألا بعد لعاد قوم هود ألا بعدا لثمود ألا بعدا لمدين كما بعدت ثمود مع علمه صلى الله عليه وسلم بأنه لو شاء الله ما أشركوا إذا لو شاء لآتى كل نفس هداها وفي سورة الواقعة ليس لوقعتها كاذبة خافضة رافعة أي جف القلم بما هو كائن وتمت السابقة حتى نزلت الواقعة إما خافضة قوما كانوا مرفوعين في الدنيا وإما رافعة قوما كانوا مخفوضين في الدنيا وفي سورة التكوير أهوال يوم القيامة وانكشاف الخاتمة وهو قوله تعالى وإذا الجحيم سعرت وإذا الجنة أزلفت علمت نفس ما أحضرت وفي عم يتساءلون يوم ينظر المرء ما قدمت يداه الآية وقوله تعالى لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا والقرآن من أوله إلى آخره مخاوف لمن قرأه بتدبر ولو لم يكن فيه إلا قوله تعالى وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى لكان كافيا إذ علق المغفرة على أربعة شروط يعجز العبد عن آحادها وأشد منه قوله تعالى فأما من تاب وآمن وعمل صالحا فعسى أن يكون من المفلحين وقوله تعالى ليسأل الصادقين عن صدقهم وقوله تعالى سنفرغ لكم أيه الثقلان وقوله عز وجل أفأمنوا مكر الله الآية وقوله وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد وقوله تعالى يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا الآيتين وقوله تعالى وإن منكم إلا واردها الآية وقوله اعملوا ما شئتم الآية وقوله من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه الآية قوله فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره الآيتين وقوله تعالى وقدمنا إلى ما عملوا من عمل الآية وكذلك قوله تعالى والعصر إن الإنسان لفي خسر إلى آخر السورة فهذه أربعة شروط للخلاص من الخسران وإنما كان خوف الأنبياء مع ما فاض عليهم من النعم لأنهم لم يأمنوا مكر الله تعالى فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون حتى روى أن النبي وجبريل عليهما الصلاة والسلام بكيا خوفا من الله تعالى فأوحى الله إليهما لم تبكيان وقد أمنتكما فقالا ومن يأمن مكرك حديث أنه وجبريل صلى الله عليهما وسلم بكيا خوفا من الله عز وجل فأوحى الله إليهما لم تبكيان الحديث أخرجه ابن شاهين في شرح السنة من حديث عمر ورويناه في مجلس عن أماني أبي سعيد النقاش بسند ضعيف وكأنهما إذ علما أن الله هو علام الغيوب وأنه لا وقوف لهما على غاية الأمور لم يأمنا أن يكون قوله قد أمنتكما ابتلاء وامتحانا لهما ومكرا بهما حتى إن سكن خوفهما ظهر أنهما قد أمنا من المكر وما وفيا بقولهما كما أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما وضع في المنجنيق قال حسبي الله وكانت هذه من الدعوات العظام فامتحن وعورض بجبريل في الهواء حتى قال ألك حاجة فقال أما إليك فلا فكان ذلك وفاء بحقيقة قوله حسبي الله فأخبر الله تعالى عنه فقال وإبراهيم الذي وفى أي بموجب قوله حسبي الله وبمثل هذا أخبر عن موسى صلى الله عليه وسلم حيث قال إننا نخاف أن يفرط علينا أو أن يطغى قال لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى ومع هذا لما ألقى السحرة سحرهم أوجس موسى في نفسه خيفة إذا لم يأمن مكر الله والتبس الأمر عليه حتى جدد عليه الأمن وقيل له لا تخف إنك أنت الأعلى ولما ضعفت شوكة المسلمين يوم بدر قال صلى الله عليه وسلم اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك حديث قال يوم بدر اللهم إن تهلك هذه العصابة لم يبق على وجه الأرض أحد يعبدك أخرجه البخاري من حديث ابن عباس بلفظ اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم الحديث فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه دع عنك مناشدتك ربك فإنه واف لك بما وعدك فكان مقام الصديق رضي الله عنه مقام الثقة بوعد الله وكان مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم مقام الخوف من مكر الله وهو أتم لأنه لا يصدر إلا عن كمال المعرفة بأسرار الله تعالى وخفايا أفعاله ومعاني صفاته التي يعبر عن بعض ما يصدر عنها بالمكر وما لأحد من البشر الوقوف على كنه صفات الله تعالى ومن عرف حقيقة المعرفة قصور معرفته عن الإحاطة بكنة الأمور عظم خوفه لا محالة ولذلك قال المسيح صلى الله عليه وسلم لما قيل له أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك وقال إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم الآية فوض الأمر إلى المشيئة وأخرج نفسه بالكلية من البين لعلمه بأنه ليس له من الأمر شيء وأن الأمور مرتبطة بالمشيئة ارتباطا يخرج عن حد المعقولات والمألوفات فلا يمكن الحكم عليها بقياس ولا حدس ولا حسبان فضلا عن التحقيق والاستيقان وهذا هو الذي قطع قلوب العارفين إذ الطامة الكبرى هي ارتباط أمرك بمشيئة من لا يبالي بك إن أهلكك فقد أهلك أمثالك ممن لا يحصى ولم يزل في الدنيا يعذبهم بأنواع الآلام والأمراض ويمرض من ذلك قلوبهم بالكفر والنفاق ثم يخلد العقاب عليهم أبد الآباد ثم يخبر عنه ويقول ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم الآية فكيف لا يخاف ما حق من القول في الأزل ولا يطمع في تداركه ولو كان الأمر أنفا لكانت الأطماع تمتد إلى حيلة فيه ولكن ليس إلا التسليم فيه واستقراء خفى السابقة من جلى الأسباب الظاهرة على القلب والجوارح فمن يسرت له أسباب الشر وحيل بينه وبين أسباب الخير وأحكمت علاقته من الدنيا فكأنه كشف له على التحقيق سر السابقة التي سبقت له بالشقاوة إذ كل ميسر لما خلق له وإن كانت الخيرات كلها ميسرة والقلب بالكلية عن الدنيا منقطعا وبظاهره وباطنه على الله مقبلا كان هذا يقتضي تخفيف الخوف لو كان الدوام على ذلك موثوقا به ولكن خطر الخاتمة وعسر الثبات يزيد نيران الخوف إشعالا ولا يمكنها من الانطفاء وكيف يؤمن تغير الحال وقلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وأن القلب أشد تقلبا من القدر في غليانها وقد قال مقلب القلوب عز وجل إن عذاب ربهم غير مأمون فأجهل الناس من أمنه وهو ينادي بالتحذير من الأمن ولو أن الله لطف بعباده العارفين إذ روح قلوبهم بروح الرجاء لاحترقت قلوبهم من نار الخوف فأسباب الرجاء رحمة لخواص الله وأسباب الغفلة رحمة على عوام الخلق من وجه إذ لو انكشف الغطاء لزهقت النفوس وتقطعت القلوب من خوف مقلب القلوب قال بعض العارفين لو حالت بيني وبين من عرفته بالتوحيد خمسين سنة أسطوانة فمات لم أقطع له بالتوحيد لأني لا أدري ما ظهر له من التقلب وقال بعضهم لو كانت الشهادة على باب الدار والموت على الإسلام عند باب الحجرة لاخترت الموت على الإسلام لأني لا أدري ما يعرض لقلبي بين باب الحجرة وباب الدار وكان أبو الدرداء يحلف بالله ما أحد أمن على إيمانه أن يسلبه عن الموت إلا سلبه وكان سهل يقول خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطرة وعند كل حركة وهم الذين وصفهم الله تعالى إذ قال وقلوبهم وجلة ولما احتضر سفيان جعل يبكي ويجزع فقيل له يا أبا عبد الله عليك بالرجاء فإن عفو الله أعظم من ذنوبك فقال أو على ذنوبي أبكي لو علمت أني أموت على التوحيد لم أبال بأن ألقى الله بأمثال الجبال من الخطايا وحكى عن بعض الخائفين أنه أوصى بعض إخوانه فقال إذا حضرتني الوفاة فاقعد عند رأسي فإن رأيتني مت على التوحيد فخذ جميع ما أملكه فاشتر به لوزا وسكرا وانثره على صبيان أهل البلد وقل هذا عرس المنفلت وإن مت على غير التوحيد فأعلم الناس بذلك حتى لا يغتروا بشهود جنازتي ليحضر جنازتي من أحب على بصيرة لئلا يلحقني الرياء بعد الوفاة فقال وبم أعلم ذلك فذكر له علامة فرأى علامة التوحيد عند موته فاشترى السكر واللوز وفرقه وكان سهل يقول المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر وكان أبو زيد يقول إذا توجهت إلى المسجد فكأن في وسطي زنارا أخاف أن يذهب بي إلى البيعة وبيت النار حتى أدخل المسجد فينقطع عني الزنار فهذا لي في كل يوم خمس مرات وروي عن المسيح عليه الصلاة والسلام أنه قال يا معشر الحواريين أنتم تخافون المعاصي ونحن معاشر الأنبياء نخاف الكفر وروي في أخبار الأنبياء أن نبيا شكى إلى الله تعالى الجوع والقمل والعرى سنين وكان لباسه الصوف فأوحى الله تعالى إليه عبدي أما رضيت أن عصمت قلبك أن تكفر بي حتى تسألني الدنيا فأخذ التراب فوضعه على رأسه وقال بلى قد رضيت يا رب فاعصمني من الكفر فإن كان خوف العارفين مع رسوخ أقدامهم وقوة إيمانهم من سوء الخاتمة فكيف لا يخافه الضعفاء ولسوء الخاتمة أسباب تتقدم على الموت مثل البدعة والنفاق والكبر وجملة من الصفات المذمومة ولذلك اشتد خوف الصحابة من النفاق حتى قال الحسن لو أعلم أني برئ من النفاق كان أحب إلى مما طلعت عليه الشمس وما عنوا به النفاق الذي هو ضد أصل الإيمان بل المراد به ما يجتمع مع أصل الإيمان فيكون مسلما منافقا وله علامات كثيرة قال صلى الله عليه وسلم أربع من كن فيه فهو منافق خالص وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم وإن كانت فيه خصلة منهم ففيه شعبة من النفاق حتى يدعها من إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان وإذا خاصم فجر حديث أربع من كن فيه فهو منافق الحديث متفق عليه من حديث عبد الله بن عمرو وقد تقدم في قواعد العقائد وفي لفظ آخر وإذا عاهد غدر وقد فسر الصحابة والتابعون النفاق بتفاسير لا يخلو عن شيء منه إلا صديق إذ قال الحسن إن من النفاق اختلاف السر والعلانية واختلاف اللسان والقلب واختلاف المدخل والمخرج ومن الذي يخلو عن هذا المعاني بل صارت هذه الأمور مألوفة بين الناس معتادة ونسى كونها منكر الكلية بل جرى ذلك على  قرب عهد بزمان النبوة فكيف الظن بزماننا حتى قال حذيفة رضي الله تعالى عنه إن كان الرجل  ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقا إني  لأسمعها من أحدكم في اليوم عشر مرات حديث حذيفة إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على  عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير بها منافقا الحديث أخرجه أحمد من  حديث حذيفة وقد تقدم في قواعد العقائد وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد  رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكبائر حديث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر الحديث أخرجه  البخاري من حديث أنس وأحمد والبزار من حديث أبي سعيد وأحمد والحاكم من حديث عبادة بن فرص وصحح إسناده وتقدم في التوبة وقال بعضهم علامة النفاق أن تكره من الناس ما تأتي مثله وأن تحب على شيء من الجور وأن تبغض على شيء من الحق وقيل من النفاق أنه إذا مدح بشيء ليس فيه أعجبه ذلك وقال رجل لابن عمر رحمه الله إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم فيما يقولون فإذا خرجنا تكلمنا فيهم فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسو الله صلى الله عليه وسلم حديث قال رجل لابن عمر إنا ندخل على هؤلاء الأمراء فنصدقهم بما يقولون الحديث رواه أحمد والطبراني وقد تقدم في قواعد العقائد وروي أنه سمع رجلا يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا أكنت تتكلم بما تكلمت به قال لا قال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث سمع ابن عمر رجلا يذم الحجاج ويقع فيه فقال أرأيت لو كان الحجاج حاضرا الحديث تقدم هناك ولم أجد فيه ذكر الحجاج وأشد من ذلك ما روي أن نفرا قعدوا على باب حذيفة بنتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج عليهم سكتوا حياء منه فقال تكلموا فيما كنتم تقولون فسكتوا فقال كنا نعد هذا نفاقا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث إن نفرا قعدوا عند باب حذيفة ينتظرونه فكانوا يتكلمون في شيء من شأنه فلما خرج سكتوا الحديث لم أجد له أصلا وهذا حذيفة كان قد خص بعلم المنافقين وأسباب النفاق وكان يقول إنه يأتي على القلب ساعة يمتلئ بالإيمان حتى لا يكون للنفاق فيه مغرز إبرة ويأتي عليه ساعة يمتلئ بالنفاق حتى لا يكون للأيمان فيه مغرز إبرة فقد عرفت بهذا أن خوف العارفين من سوء الخاتمة وأن سببه أمور تتقدمه منها البدع ومنها المعاصي ومنها النفاق ومتى يخلو العبد عن شيء من جملة ذلك وإن ظن أنه خلا عنه فهو النفاق إذ قيل من أمن النفاق فهو منافق وقال بعضهم لبعض العارفين إني أخاف على نفسي النفاق فقال لو كنت منافقا لما خفت النفاق فلا يزال العارف بين الالتفات إلى السابقة والخاتمة خائفا منهما ولذلك قال صلى الله عليه وسلم العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه وبين أجل قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه فوالذي نفسي بيده ما بعد الموت من مستعتب ولا بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار حديث العبد المؤمن بين مخافتين بين أجل قد مضى الحديث أخرجه البيهقي في الشعب من رواية الحسن عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقد تقدم في ذم الدنيا ذكره ابن المبارك في كتاب الزهد بلاغا وذكره صاحب الفردوس من حديث جابر ولم يخرجه ولده في مسند الفردوس والله المستعان.

بيان معنى الخاتمة

فإن قلت إن أكثر هؤلاء يرجع خوفهم إلى سوء الخاتمة فما معنى الخاتمة فاعلم أن سوء الخاتمة على رتبتين إحداهما أعظم من الأخرى فأما الرتبة العظيمة الهائلة فأن يغلب على القلب عند سكرات الموت وظهور أهواله إما الشك وإما الجحود فتقبض الروح على حال غلبة الجحود أو الشك فيكون ما غلب على القلب من عقدة الجحود حجابا بينه وبين الله تعالى أبدا وذلك يقتضي البعد الدائم والعذاب المخلد والثانية وهي دونها أن يغلب على قلبه عند الموت حب أمر من أمور الدنيا وشهوة من شهواتها فيتمثل ذلك في قلبه ويستغرقه حتى لا يبقى في تلك الحالة متسع لغيره فيتفق قبض روحه في تلك الحال فيكون استغراق قلبه به منكسا رأسه إلى الدنيا وصارفا وجهه إليها ومهما انصرف الوجه عن الله تعالى حصل الحجاب ومهما حصل الحجاب نزل العذاب إذ نار الله الموقدة لا تأخذ إلا المحجوبين عنه فأما المؤمن السليم قلبه من حب الدنيا المصروف همه إلى الله تعالى فتقول له النار جز يا مؤمن فإن نورك أطفأ لهبي فمهما اتفق قبض الروح في حالة غلبة حب الدنيا فالأمر مخطر لأن المرء يموت على ما عاش عليه ولا يمكن اكتساب صفة أخرى للقلب بعد الموت تضاد الصفة الغالبة عليه إذ لا تصرف في القلوب إلا بأعمال الجوارح وقد بطلت الجوارح بالموت فبطلت الأعمال فلا مطمع في عمل ولا مطمع في رجوع إلى الدنيا ليتدارك وعند ذلك تعظم الحسرة إلا أن أصل الإيمان وحب الله تعالى إذا كان قد رسخ في القلب مدة طويلة وتأكد ذلك بالأعمال الصالحة فإنه يمحو عن القلب هذه الحالة التي عرضت له عند الموت فإن كان إيمانه في القوة إلى حد مثقال أخرجه من النار في زمان أقرب وإن كان أقل من ذلك طال مكثه في النار ولو لم يكن إلا مثقال حبة فلا بد وأن يخرجه من النار ولو بعد آلاف سنين فإن قلت فما ذكرته يقتضي أن تسرع النار إليه عقيب موته فما باله يؤخر إلى يوم القيامة ويمهل طول هذه المدة فاعلم أن كل من أنكر عذاب القبر فهو مبتدع محجوب عن نور الله تعالى وعن نور القرآن ونور الإيمان بل الصحيح عند ذوي الأبصار ما صحت به الأخبار وهو أن القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة حديث القبر إما حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة أخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد وقال غريب وتقدم في الأذكار وأنه قد يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم حديث إنه يفتح إلى قبر المعذب سبعون بابا من الجحيم لم أجد له أصلا كما وردت به الأخبار فلا تفارقه روحه إلا وقد نزل به البلاء إن كان قد شقي بسوء الخاتمة وإنما تختلف أصناف العذاب باختلاف الأوقات فيكون سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر حديث سؤال منكر ونكير عند الوضع في القبر تقدم في قواعد العقائد والتعذيب بعده حديث عذاب القبر تقدم فيه ثم المناقشة في الحساب حديث المناقشة في الحساب تقدم فيه والافتضاح على ملأ من الأشهاد في القيامة حديث الافتضاح على ملأ الأشهاد في القيامة رواه أحمد والطبراني من حديث ابن عمر بإسناد جيد من انتقى من ولده ليفضحه في الدنيا فضحه الله على رءوس الأشهاد وفي الصحيحين من حديث ابن عمر وأما الكافر والمنافق فينادى بهم على رءوس الخلائق هؤلاء الذين كذبوا على ربهم والطبراني والعقيلي في الضعفاء من حديث الفضيل بن عياض فضوح الدنيا أهون من فوضح الآخرة وهو حديث طويل منكر ثم بعد ذلك خطر الصراط حديث خطر الصراط تقدم في قواعد العقائد وهول الزبانية حديث هو الزبانية أخرجه الطبراني من حديث أنس الزبانية يوم القيامة أسرع إلى فسقة حملة القرآن منها الى عبدة الأوثان والنيران قال صاحب الميزان حديث منكر وروى ابن وهب عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم معضلا في خزنة جهنم ما بين منكبي أحدهم كما بين المشرق والمغرب إلى آخر ما وردت به الأخبار فلا يزال الشقي مترددا في جميع أحواله بين أصناف العذاب وهو في جملة الأحوال معذب إلا أن يتغمده الله برحمته ولا تظنن أن محل الإيمان لا يأكله التراب بل التراب يأكل جميع الجوارح ويبددها إلى أن يبلغ الكتاب أجله فتجتمع الأجزاء المتفرقة وتعاد إليها الروح التي هي محل الإيمان وقد كانت من وقت الموت إلى الإعاذة إما في حواصل طيور خضر معلقة تحت العرش إن كانت سعيدة وإما على حالة تضاد هذه الحال إن كانت والعياذ بالله شقية فإن قلت فما السبب الذي يفضي إلى سوء الخاتمة فاعلم أن أسباب هذه الأمور لا يمكن إحصاؤها على التفصيل ولكن يمكن الإشارة إلى مجامعها أما الختم على الشك والجحود فينحصر سببه في شيئين أحدهما يتصور مع تمام الورع والزهد وتمام الصلاح في الأعمال كالمبتدع الزاهد فإن عاقبته مخطرة جدا وإن كانت أعماله صالحة ولست أعني مذهبا فأقول إنه بدعة فإن بيان ذلك يطول القول فيه بل أعني بالبدعة أن يعتقد الرجل في ذات الله وصفاته وأفعاله خلاف الحق فيعتقده على خلاف ما هو عليه إما برأيه ومعقوله ونظره الذي به يجادل الخصم وعليه يعول وبه يغتر وإما أخذا بالتقليد ممن هذا حاله فإذا قرب الموت وظهرت له ناصية ملك الموت واضطرب القلب بما فيه ربما ينكشف له في حال سكرات الموت بطلان ما اعتقده جهلا إذ حال الموت حال كشف الغطاء ومبادىء سكراته منه فقد ينكشف به بعض الأمور فمهما بطل عنده ما كان اعتقده وقد كان قاطعا به متيقنا له عند نفسه لم يظن بنفسه أنه أخطأ في هذا الاعتقاد خاصة لالتجائه فيه إلى رأيه الفاسد وعقله الناقص بل ظن أن كل ما اعتقده لا أصل له إذ لم يكن عنده فرق في إيمانه بالله ورسوله وسائر اعتقاداته الصحيحة وبين اعتقاده الفاسد فيكون انكشاف بعض اعتقاداته عن الجهل سببا لبطلان بقية اعتقاداته أو لشكه فيها فإن اتفق زهوق روحه في هذه الخطرة قبل أن يثبت ويعود إلى أصل الإيمان فقد ختم له بالسوء وخرجت روحه على الشرك والعياذ بالله منه فهؤلاء هم المرادون بقوله تعالى وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبقوله عز وجل قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا وكما أنه ينكشف في النوم ما سيكون في المستقبل وذلك بسبب خفة أشغال الدنيا عن القلب فكذلك ينكشف في سكرات الموت بعض الأمور إذ شواغل الدنيا وشهوات البدن هي المانعة للقلب من أن ينظر إلى الملكوت فيطالع ما في اللوح المحفوظ لتنكشف له الأمور على ما هي عليه فيكون مثل هذه الحال سببا للكشف ويكون الكشف سبب الشك في بقية الاعتقادات وكل من اعتقد في الله تعالى وفي صفاته وأفعاله شيئا على خلاف ما هو به إما تقليدا وإما نظرا بالرأي والمعقون فهو في هذا الخطر والزهد والصلاح لا يكفي لدفع هذا الخطر بل لا ينجي منه إلا الاعتقاد الحق والبله بمعزل عن هذا الخطر أعني الذين آمنوا بالله ورسوله واليوم الآخر إيمانا مجملا راسخا كالأعراب والسوادية وسائر العوام الذين لم يخوضوا في البحث والنظر ولم يشرعوا في الكلام استقلالا ولا صغوا إلى أصناف المتكلمين في تقليد أقاويلهم المختلفة ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أكثر أهل الجنة البله حديث أكثر أهل الجنة البلة أخرجه البزار من حديث أنس وقد تقدم ولذلك منع السلف من البحث والنظر والخوض في الكلام والتفتيش عن هذه الأمور وأمروا الخلق أن يقتصروا على أن يؤمنوا بما أنزل الله عز وجل جميعا وبكل ما جاء من الظواهر مع اعتقاد نفي التشبيه ومنعوهم عن الخوض في التأويل لأن الخطر في البحث عن الصفات عظيم وعقباته كئودة ومسالكه وعرة والعقول عن درك جلال الله تعالى قاصرة وهداية الله تعالى بنور اليقين عن القلوب بما جبلت عليه من حب الدنيا محجوبة وما ذكره الباحثون ببضاعة عقولهم مضطرب ومتعارض والقلوب لما ألقى إليها في مبدأ النشأة آلفة وبه متعلقة والتعصبات الثائرة بين الخلق مسامير مؤكدة للعقائد الموروثة أو المأخوذة بحسن الظن من المعلمين في أول الأمر ثم الطباع بحب الدنيا مشغوفة وعليها مقبلة وشهوات الدنيا بمخنقها آخذة وعن تمام الفكر صارفة فإذا فتح باب الكلام في الله وفي صفاته بالرأي والمعقول مع تفاوت الناس في قرائحهم واختلافهم في طبائعهم وحرص كل جاهل منهم على أن يدعي الكمال أو الإحاطة بكنة الحق انطلقت ألسنتهم بما يقع لكل واحد منهم وتعلق ذلك بقلوب المصغين إليهم وتأكد ذلك بطول الألف فيهم فانسد بالكلية طريق الخلاص عليهم فكانت سلامة الخلق في أن يشتغلوا بالأعمال الصالحة ولا يتعرضوا لما هو خارج عن حد طاقتهم ولكن الآن قد استرخى العنان وفشا الهذيان ونزل كل جاهل على ما وافق طبعه بظن وحسبان وهو يعتقد أن ذلك علم واستيقان وأنه صفو الإيمان ويظن أن ما وقع به من حدس وتخمين علم اليقين وعين اليقين ولتعلمن نبأه بعد حين وينبغي أن ينشد في هؤلاء عند كشف الغطاء أحسنت ظنك بالأيام إذ حسنت ولم تخف سوء ما يأتي به القدر وسالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر واعلم يقينا أن كل من فارق الإيمان الساذج بالله ورسوله وكتبه وخاض في البحث فقد تعرض لهذا الخطر ومثاله مثال من انكسرت سفينته وهو في ملتطم الأمواج يرميه موج إلى موج فربما يتفق أن يلقيه إلى الساحل وذلك بعيد والهلاك عليه أغلب وكل نازل على عقيدة تلقفها من الباحثين ببضاعة عقولهم إما مع الأدلة التي حرروها في تعصباتهم أو دون الأدلة فإن كان شاكا فيه فهو فاسد الدين وإن كان واثقا فهو آمن من مكر الله مغتر بعقله الناقص وكل خائض في البحث فلا ينفك عن هاتين الحالتين إلا إذا جاوز حدود المعقول إلى نور المكاشفة الذي هو مشرق في عالم الولاية والنبوة وذلك هو الكبريت الأحمر وإني يتيسر وإنما يسلم عن هذا الخطر البله من العوام أو الذين شغلهم خوف النار بطاعة الله فلم يخوضوا في هذا الفضول فهذا أحد الأسباب المخطرة في سوء الخاتمة وأما السبب الثاني فهو ضعف الإيمان في الأصل ثم استيلاء حب الدنيا على القلب ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله تعالى وقوى حب الدنيا فيصير بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله تعالى إلا من حيث حديث النفس ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس والعدول عن طريق الشيطان فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات حتى يظلم القلب ويقسو ويسود وتتراكم ظلمة النفوس على القلب فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه حتى يصير طبعا ورينا فإذا جاءت سكرات الموت ازداد ذلك الحب أعني حب الله ضعفا لما يبدو من استشعار فراق الدنيا وهي المحبوب الغالب على القلب فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا ويرى ذلك من الله فيختلج ضميره بإنكار ما قدر عليه من الموت وكراهة ذلك من حيث إنه من الله فيخشى أن يثور في باطنه بغض الله تعالى بدل الحب كما أن الذي يحب ولده حبا ضعيفا إذا اخذ ولده أمواله التي هي أحب إليه من ولده وأحرقها انقلب ذلك الحب الضعيف بغضا فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة فقد ختم له بالسوء وهلك هلاكا مؤبدا والسبب الذين يفضي إلى مثل هذه الخاتمة هو غلبة حب الدنيا والركون إليها والفرح بأسبابها مع ضعف الإيمان الموجب لضعف حب الله تعالى فمن وجد في قلبه حب الله أغلب من حب الدنيا وإن كان يحب الدنيا أيضا فهو أبعد عن هذا الخطر وحب الدنيا رأس كل خطيئة وهو الداء العضال وقد عم أصناف الخلق وذلك كله لقلة المعرفة بالله تعالى إذ لا يحبه إلا من عرفه ولهذا قال تعالى قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال أقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره فإذن كل من فارقته روحه في حالة خطرة الإنكار على الله تعالى بباله وظهر بغض فعل الله بقلبه في تفريقه بينه وبين أهله وماله وسائر محابه فيكون موته قدوما على ما أبغضه وفراقا لما أحبه فيقدم على الله قدوم العبد المبغض الآبق إذا قدم به على مولاه قهرا فلا يخفى ما يستحقه من الخزي والنكال وأما الذي يتوفى على الحب فإنه يقدم على الله تعالى قدوم العبد المحسن المشتاق إلى مولاه الذي تحمل مشاق الأعمال ووعثاء الأسفار طمعا في لقائه فلا يخفى ما يلقاه من الفرح والسرور بمجرد القدوم فضلا عما يستحقه من لطائف الإكرام وبدائع الإنعام وأما الخاتمة الثانية التي هي دون الأولى وليست مقتضية للخلود في النار فلها أيضا سببان أحدهما كثرة المعاصي وإن قوي الإيمان والآخر ضعف الإيمان وإن قلت المعاصي وذلك لأن مقارفة المعاصي سببها غلبة الشهوات ورسوخها في القلب بكثرة الإلف والعادة وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يعود ذكره إلى قلبه عند موته فإن كان ميله الأكثر إلى الطاعات كان أكثر ما يحضره ذكر طاعة الله وإن كان ميله الأكثر إلى المعاصي غلب ذكرها على قلبه عند الموت فربما تقبض روحه عند غلبة شهوة من الشهوات الدنيا ومعصية من المعاصي فيتقيد بها قلبه ويصير محجوبا عن الله تعالى فالذي لا يقارف الذنب إلا الفينة بعد الفينة فهو أبعد عن هذا الخطر والذي لم يقارف ذنبا أصلا فهو بعيد جدا عن هذا الخطر والذي غلبت عليه المعاصي وكانت أكثر من طاعاته وقلبه بها أفرح منه بالطاعات فهذا الخطر عظيم في حقه جدا ونعرف هذا بمثال وهو أنه لا يخفى عليك أن الإنسان يرى في منامه جملة من الأحوال التي عهدها طول عمره حتى إنه لا يرى إلا ما يماثل مشاهدته في اليقظة وحتى إن المراهق الذي يحتلم لا يرى صورة الوقاع إذا لم يكن قد واقع في اليقظة ولو بقي كذلك مدة لما رأى عند الاحتلام صورة الوقاع ثم لا يخفى أن الذي قضى عمره في الفقه يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء أكثر مما يراه التاجر الذي قضى عمره في التجارة والتاجر يرى من الأحوال المتعلقة بالتجارة وأسبابها أكثر مما يراه الطبيب والفقيه لأنه إنما يظهر في حال النوم ما حصل له مناسبة مع القلب بطول الإلف أو بسبب آخر من الأسباب والموت شبه النوم ولكنه فوقه ولكن سكرات الموت وما يتقدمه من الغشية قريب من النوم فيقضي ذلك تذكر المألوف وعوده إلى القلب وأحد الأسباب المرجحة لحصول ذكره في القلب طول الإلف فطول الإلف بالمعاصي والطاعات أيضا مرجح وكذلك تخالف أيضا منامات الصالحين منامات الفساق فتكون غلبة الإلف سبب لأن تتمثل صورة فاحشة في قلبه وتميل إليها نفسه فربما تقبض عليها روحه فيكون ذلك سبب سوء خاتمته وإن كان أصل الإيمان باقيا بحيث يرجى له الخلاص منها وكما أن ما يخطر في اليقظة إنما يخطر بسبب خاص يعلمه الله تعالى فكذلك آحاد المنامات لها أسباب عند الله تعالى نعرف بعضها ولا نعرف بعضها كما أنا نعلم أن الخاطر ينتقل من الشيء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة وإما بالمقارنة بأن يكون قد ورد على الحس منه أما بالمشابهة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر جميلا آخر وأما بالمضادة فبأن ينظر إلى جميل فيتذكر قبيحا ويتأمل في شدة التفاوت بينهما وأما بالمقارنة فبأن ينظر إلى فرس قد رآه من قبل مع إنسان فيتذكر ذلك الإنسان وقد ينتقل الخاطر من شيء إلى شيء ولا يدري وجه مناسبته له وإنما يكون ذلك بواسطة وواسطتين مثل أن ينتقل من شيء ثان ومنه إلى شيء ثالث ثم ينسى الثاني ولا يكون بين الثالث والأول مناسبة ولكن يكون بينه وبين الثاني مناسبة وبين الثاني والأول مناسبة فكذلك لانتقالات الخواطر في المنامات أسباب من هذا الجنس وكذلك عند سكرات الموت فعلى هذا والعلم عند الله من كانت الخياطة أكثر أشغاله فإنك تراه يومئ إلى رأسه كأنه يأخذ إبرته ليخيط بها ويبل أصبعه التي لها عادة الكستبان ويأخذ الإزار من فوقه ويقدره ويشبره كأنه يتعاطى تفصيله ثم يمد يده إلى المقراض ومن أراد أن يكف خاطره عن الانتقال عن المعاصي والشهوات فلا طريق له إلا المجاهدة طول العمر في فطامة نفسه عنها وفي قمع الشهوات عن القلب فهذا هو القدر الذي يدخل تحت الاختيار ويكون طول المواظبة على الخير وتخلية الفكر عن الشر عدة وذخيرة لحالة سكرات الموت فإنه يموت المرء على ما عاش عليه ويحشر على ما مات عليه ولذلك نقل عن بقال أنه كان يلقن عند الموت كلمتي الشهادة فيقول خمسة ستة أربعة فكان مشغول النفس بالحساب الذي طال إلفه له قبل الموت وقال بعض العارفين من السلف العرش جوهرة تتلألأ نورا فلا يكون العبد على حال إلا انطبع مثاله في العرش على الصورة التي كان عليها فإذا كان في سكرات الموت كشف له صورته من العرش فربما يرى نفسه على صورة معصية وكذلك يكشف له يوم القيامة فيرى أحوال نفسه فيأخذه من الحياء والخوف ما يجل عن الوصف وما ذكره صحيح وسبب الرؤيا الصادقة قريب من ذلك فإن النائم يدرك ما يكون في المستقبل من مطالعة اللوح المحفوظ وهي جزء من أجزاء النبوة فإذا رجع سوء الخاتمة إلى أحوال القلب واختلاج الخواطر ومقلب القلوب هو الله والاتفاقات المقتضية لسوء الخواطر غير داخلة تحت الاختيار دخولا كليا وإن كان لطول الإلف فيه تأثير فبهذا عظم خوف العارفين من سوء الخاتمة لأنه لو أراد الإنسان أن لا يرى في المنام إلا أحوال الصالحين وأحوال الطاعات والعبادات عسر عليه ذلك وإن كانت كثرة الصلاح والموظبة عليه مما يؤثر فيه ويكن اضطرابات الخيال لا تدخل بالكلية تحت الضبط وإن كان الغالب مناسبة ما يظهر في النوم لما غلب في اليقظة حتى سمعت الشيخ أبا علي الفارمذي رحمة الله عليه يصف لي وجوب حسن أدب المريد لشيخه وأن لا يكون في قلبه إنكار لكل ما يقوله ولا في لسانه مجادلة عليه قال حكيت لشيخي أبي القاسم السكرماني مناما لي وقلت رأيت قلت لي كذا فقلت لم ذاك قال فهجرني شهرا ولم يكلمني وقال لولا أنه كان في باطنك تجويز المطالبة وإنكار ما أقوله لك لما جرى ذلك على لسانك في النوم وهو كما قال إذ قلما يرى الإنسان في منامه خلاف ما يغلب في اليقظة على قلبه فهذا هو القدر الذي نسمح بذكره في علم المعاملة من أسرار أمر الخاتمة وما وراء ذلك فهو داخل في علم المكاشفة وقد ظهر لك بهذا أن الأمن من سوء الخاتمة بأن ترى الأشياء كما هي عليه من غير جهل وتزجي جميع العمر في طاعة الله من غير معصية فإن كنت تعلم أن ذلك محال أو عسير فلا بد وأن يغلب عليك من الخوف ما غلب على العارفين حتى يطول بسببه بكاؤك ونياحتك ويدوم به حزنك وقلقك كما سنحكيه من أحوال الأنبياء والسلف الصالحين ليكون ذلك أحد الأسباب المهيجة لنار الخوف من قلبك وقد عرفت بهذا أن أعمال العمر كلها ضائعة إن لم يسلم في النفس الأخير الذي عليه خروج الروح وإن سلامته مع اضطراب أمواج الخواطر مشكلة جدا ولذلك كان مطرف بن عبد الله يقول إني لا أعجب ممن هلك كيف هلك ولكني أعجب مما نجا كيف نجا ولذلك قال حامد اللفاف إذا صعدت الملائكة بروح العبد المؤمن وقد مات على الخير والإسلام تعجبت الملائكة منه وقالوا كيف نجا هذا من دنيا فسد فيها خيارنا وكان الثوري يوما يبكي فقيل له علام تبكي فقال بكينا على الذنوب زمانا فالآن نبكي على الإسلام وبالجملة من وقعت سفينته في لجة البحر وهجمت عليه الرياح العاصفة واضطربت الأمواج كانت النجاة في حقه أبعد من الهلاك وقلب المؤمن أشد اضطرابا من السفينة وأمواج الخواطر أعظم التطاما من أمواج البحر وإنما المخوف عند الموت خاطر سوء يخطر فقط وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة حتى لا يبقى بينه وبين الجنة إلا فواق ناقة فيختم له بما سبق به الكتاب حديث إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة خمسين سنة الحديث تقدم ولا يتسع فواق الناقة لأعمال توجب الشقاوة بل هي الخواطر التي تضطرب وتخطر خطور البرق الخاطف وقال سهل رأيت كأني أدخلت الجنة فرأيت ثلثمائة نبي فسألتهم ما أخوف ما كنتم تخافون في الدنيا قالوا سوء الخاتمة ولأجل هذا الخطر العظيم كانت الشهادة مغبوطا عليها وكان موت الفجأة مكروها أما الموت فجأة فلأنه ربما يتفق عند غلبة خاطر سوء واستيلائه على القلب لا يخلو عن أمثاله إلا أن يدفع بالكراهة أو بنور المعرفة وأما الشهادة فلأنها عبارة عن قبض الروح في حالة لم يبق في القلب سوى حب الله تعالى وخرج حب الدنيا والأهل والمال والولد وجميع الشهوات عن القلب إذ لا يهجم على صف القتال موطنا نفسه على الموت إلا حبا لله وطلبا لمرضاته وبائعا دنياه بآخرته وراضيا بالبيع الذي بايعه الله به إذ قال تعالى إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة والبائع راغب عن المبيع لا محالة ومخرج حبه عن القلب ومجرد حب العوض المطلوب في قلبه ومثل هذه الحالة قد يغلب على القلب في بعض الأحوال ولكن لا يتفق زهوق الروح فيها فصف القتال سبب لزهوق الروح على مثل هذه الحالة هذا فيمن ليس يقصد الغلبة والغنيمة وحسن الصيت بالشجاعة فإن من هذا حاله وإن قتل في المعركة فهو بعيد عن مثل هذه الرتبة كما دلت عليه الأخبار حديث المقتول في الحرب إذا كان قصده الغلبة والغنيمة وحسن الصيت فهو بعيد عن رتبة الشهادة متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري إن رجلا قال يا رسول الله الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل للذكر والرجل يقاتل ليرى مكانه فمن في سبيل الله فقال من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله وفي رواية الرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية ويقاتل رياء وفي رواية غضبا وإذ بان لك معنى سوء الخاتمة وما هو مخوف فيها فاشتغل بالاستعداد لها فواظب على ذكر الله تعالى وأخرج من قلبك حب الدنيا واحرس عن فعل المعاصي جوارحك وعن الفكر فيها قلبك واحترز عن مشاهدة المعاصي ومشاهدة أهلها جهدك فإن ذلك أيضا يؤثر في قلبك ويصرف إليه فكرك وخواطرك وإياك أن تسوف وتقول سأستعد لها إذا جاءت الخاتمة فإن كان نفس من أنفاسك خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيه روحك فراقب قلبك في كل تطريفة وإياك أن تهمله لحظة فلعل تلك اللحظة خاتمتك إذ يمكن أن تختطف فيها روحك هذا ما دمت في يقظتك وأما إذا نمت فإياك أن تنام إلا على طهارة الظاهر الباطن وأن يغلبك النوم إلا بعد غلبة ذكر الله على قلبك لست أقول على لسانك فإن حركة اللسان بمجردها ضعيفة الأثر واعلم قطعا أنه لا يغلب عند النوم على قلبك إلا ما كان قبل النوم غالبا عليه وأنه لا يغلب في النوم إلا ما كان غالبا قبل النوم ولا ينبعث عن نومك إلا ما غلب على قلبك في نومك والموت والبعث شبيه النوم واليقظة فكما لا ينام العبد إلا على ما غلب عليه في يقظته ولا يستيقظ إلا على ما كان عليه في نومه فكذلك لا يموت المرء إلا على ما عاش عليه ولا يحشر إلا على ما مات عليه وتحقق قطعا ويقينا أن الموت والبعث حالتان من أحوالك كما أن النوم واليقظة حالتان من أحوالك وآمن بهذا تصديقا باعتقاد القلب إن لم تكن أهلا لمشاهدة ذلك بعين اليقين ونور البصيرة وراقب أنفاسك ولحظاتك وإياك أن تغفل عن الله طرفة عين فإنك إذا فعلت ذلك كله كنت مع ذلك في خطر عظيم فكيف إذا لم تفعل والناس كلهم هلكى إلا العالمون والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم واعلم أن ذلك لا يتيسر لك ما لم تقنع من الدنيا بقدر ضرورتك وضرورتك مطعم وملبس ومسكن والباقي كله فضول والضرورة من المطعم ما يقيم صلبك ويسد رمقك فينبغي أن يكون تناولك تناول مضطر كاره له ولا تكون رغبتك فيه أكثر من رغبتك في قضاء حاجتك إذ لا فرق بين إدخال الطعام في البطن وإخراجه فهما ضرورتان في الجبلة وكما لا يكون قضاء الحاجة من همتك التي يشتغل بها قلبك فلا ينبغي أن يكون تناول الطعام من همتك واعلم أنه إن كان همتك ما يدخل بطنك فقيمتك ما يخرج من بطنك وإذ لم يكن قصدك من الطعام إلا التقوى على عبادة الله تعالى كقصدك من قضاء حاجتك فعلامة ذلك تظهر في ثلاثة أمور من مأكولك في وقته وقدره وجنسه أما الوقت فأقله أن يكتفي في اليوم والليلة بمرة واحد فيواظب على الصوم وأما قدره فبأن لا يزيد على ثلث البطن وأما جنسه فأن لا يطلب لذائذ الأطعمة بل يقنع بما يتفق فإن قدرت على هذه الثلاثة وسقطت عنك مئونة الشهوات واللذائذ قدرت بعد ذلك على ترك الشبهات وأمكنك أن لا تأكل إلا من حله فإن الحلال يعز ولا يفى بجميع الشهوات وأما ملبسك فيكن غرضك منه دفع الحر والبرد وستر العورة فكل ما دفع البرد عن رأسك ولو قلنسوة يدانق فطلبك غيره فضول منك يضيع فيه زمانك ويلزمك الشغل الدائم والعناء القائم في تحصيله بالكسب مرة والطمع أخرى من الحرام والشبهة وقس بهذا ما تدفع به الحر والبرد عن بدنك فكل ما حصل مقصود اللباس إن لم تكنف به في خساسة قدره وجنسه لم يكن لك موقف ومرد بعده بل كنت ممن لا يملأ بطنه إلا التراب وكذلك المسكن إن اكتفيت بمقصوده كفتك السماء سقفا والأرض مستقرا فإن غلبك حر أو برد فعليك بالمساجد فإن طلبت مسكنا خاصا طال عليك وانصرف إليه أكثر عمرك وعمرك هو بضاعتك ثم إن تيسر لك فقصدت من الحائط سوى كونه حائلا بينك وبين الأبصار ومن السقف سوى كونه دافعا للأمطار فأخذت ترفع الحيطان وتزين السقوف فقد تورطت في مهواة يبعد رقيك منها وهكذا جميع ضرورات أمورك إن اقتصرت عليها تفرغت لله وقدرت على التزود لآخرتك والاستعداد لخاتمتك وإن جاوزت حد الضرورة إلى أودية الأماني تشعبت همومك ولم يبال الله في أي واد أهلكك فاقبل هذه النصيحة ممن هو أحوج إلى النصيحة منك واعلم أن متسع التدبير والتزود والاحتياط هذا العمر القصير فإذا دفعته يوما بيوم في تسويفك أو غفلتك اختطفت فجأة في غير وقت إرادتك ولم تفارقك حسرتك وندامتك فإن كنت لا تقدر على ملازمة ما أرشدت إليه بضعف خوفك إذا لم يكن فيما وصفناه من أمر الخاتمة كفاية في تخويفك فإنا سنورد عليك من أحوال الخائفين ما نرجو أن يزيل بعض القساوة عن قلبك فإنك تتحقق أن عقل الأنبياء والأولياء والعلماء وعملهم ومكانهم عند الله تعالى لم يكن دون عقلك وعملك ومكانك فتأمل مع كلال بصيرتك وعمش عين قلبك في أحوالهم لم اشتد بهم الخوف وطال بهم الحزن والبكاء حتى كان بعضهم يصعق وبعضهم يدهش وبعضهم يسقط مغشيا عليه وبعضهم يخر ميتا إلى الأرض ولا غرو وإن كان ذلك لا يؤثر في قلبك فإن قلوب الغافلين مثل الحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون.

بيان أحوال الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام في الخوف

روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة يتغير وجهه فيقول ويتردد في الحجرة ويدخل ويخرج كل ذلك خوفا من عذاب الله حديث عائشة كان إذا تغير الهواء وهبت ريح عاصفة تغير وجهه الحديث متفق عليه من حديث عائشة وقرأ صلى الله عليه وسلم آية في سورة الواقعة فصعق حديث قرأ في سورة الحاقة فصعق المعروف فيما يروى من هذه القصة أنه قرئ عنده إن لدينا أنكالا وجحيما وطعاما ذا غصة وعذابا أليما فصعق كما رواه ابن عدي والبيهقي في الشعب مرسلا وهكذا ذكره المصنف على الصواب في تاب السماع كما تقدم وقال تعالى وخر موسى صعقا ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم صورة جبريل عليه السلام بالأبطح فصعق حديث إنه رأى صورة جبريل بالأبطح فصعق أخرجه البزار من حديث ابن عباس بسند جيد سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل أن يراه في صورته فقال ادع ربك فدعا ربه فطلع عليه من قبل المشرق فجعل يرتفع ويسير فلما رآه صعق ورواه ابن المبارك من رواية لحسن مرسلا بلفظ فغشي عليه وفي الصحيحين عن عائشة رأى جبريل في صورته مرتين ولهما عن ابن مسعود رأى جبريل له ستمائة جناح وروي أنه عليه السلام كان إذا دخل في الصلاة يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل حديث كان إذا دخل في الصلاة سمع لصدره أزيز كأزيز المرجل رواه أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي من حديث عبد الله بن الشخير وتقدم في كتاب السماع وقال صلى الله عليه وسلم ما جاءني جبريل قط إلا وهو يرعد فرقا من الجبار حديث ما جاءني جبريل قط إلا وهو ترتعد فرائصه من الجبار لم أجد هذا اللفظ وروى أبو الشيخ في كتاب العظمة من ابن عباس قال أتى جبريل عليه السلام يوم القيامة لقائم بين يدي الجبار تبارك وتعالى ترتعد فرائصه فرقا من عذاب الله الحديث وفيه زميل بن سماك الحنفي يحتاج إلى معرفته وقيل لما ظهر على إبليس ما ظهر طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان فأوحى الله إليهما ما لكما تبكيان كل هذا البكاء فقالا يا رب ما نأمن مكرك فقال الله تعالى هكذا كونا لا تأمنا مكري وعن محمد بن المنكدر قال لما خلقت النار طارت أفئدة الملائكة من أماكنها فلما خلق بنو آدم عادت وعن أنس أنه عليه السلام سأل جبريل مالي لا أرى ميكائيل يضحك فقال جبريل ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال لجبريل مالي لا أرى ميكائيل يضحك فقال ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار رواه أحمد وابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين من رواية ثابت عن أنس بإسناد جيد ورواه ابن شاهين في السنة من حديث ثابت مرسلا وورد ذلك أيضا في حق إسرافيل رواه البيهقي في الشعب وفي حق جبريل رواه ابن أبي الدنيا في كتاب الخائفين ويقال إن لله تعالى ملائكة لم يضحك أحد منهم منذ خلقت النار مخافة أن يغضب الله عليهم فيعذبهم بها وقال ابن عمر رضي الله عنهما خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل بعض حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل فقال يا ابن عمر مالك لا تأكل فقلت يا رسول الله لا أشتهيه فقال لكني أشتهيه وهذا صبح رابعة لم أذق طعاما ولم أجده ولو سألت ربي لأعطاني ملك قيصر وكسرى فكيف بك يا ابن عمر إذا بقيت في قوم يخبئون رزق سنتهم ويضعف اليقين في قلوبهم قال فوالله ما برحنا ولا قمنا حتى نزلت وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله لم يأمركم بكنز المال ولا باتباع الشهوات من كنز دنانير يريد بها حياة فانية فإن الحياة بيد الله ألا وإني لا أكنز دينارا ولا درهما ولا أخبأ رزقا لغد حديث ابن عمر خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل على حيطان الأنصار فجعل يلتقط من التمر ويأكل الحديث أخرجه ابن مردويه في التفسير والبيهقي في الزهد من رواية رجل لم يسم عن ابن عمر قال البيهقي هذا إسناد مجهول والجراح بن منهال ضعيف وقال أبو الدرداء كان يسمع أزير قلب إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم إذا قام في الصلاة في مسيره ميل خوفا من ربه وقال مجاهد بكى داود عليه السلام أربعين يوما ساجدا لا يرفع رأسه حتى نبت المرعي من دموعه وحتى غطى رأسه فنودي يا داود أجائع أنت فتطعم أم ظمآن فتسقى أم عار فتكسى فنحب نحبة هاج العود فاحترق من حر جوفه ثم أنزل الله تعالى عليه التوبة والمغفرة فقال يا رب اجعل خطيئتي في كفي فصارت خطيئته في كفه مكتوبة فكان لا يبسط كفه لطعام ولا لشراب ولا لغيره إلا رآها فأبكته قال وكان يؤتى بالقدح ثلثاه فإذا تناولته أبصر خطيئته فما يضعه على شفته حتى يفيض القدح من دموعه ويروى عنه عليه السلام أنه ما رفع رأسه إلى السماء حتى مات حياء من الله عز وجل وكان يقول في مناجاته إلهي إذا ذكرت خطيئتي ضاقت علي الأرض برحبها وإذا ذكرت رحمتك ارتدت إلى روحي سبحانك إلهي أتيت أطباء عبادك ليداووا خطيئتي فكلهم عليك يدلني فبؤسا للقانطين من رحمتك وقال الفضيل بلغني أن داود عليه السلام ذكر ذنبه ذات يوم فوثب صارخا واضعا يده على رأسه حتى لحق بالجبال فاجتمعت إليه السباع فقال ارجعوا لا أريدكم إنما أريد كل بكاء على خطيئته فلا يستقبلني إلا البكاء ومن لم يكن ذا خطيئة فما يصنع بداود الخطاء وكان يعاتب في كثرة البكاء فيقول دعوني أبكي قبل خروج يوم البكاء قبل تخريق العظام واشتغال الحشا وقبل أن يؤمر بي ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون وقال عبد العزيز بن عمر لما أصاب داود الخطيئة نقص صوته فقال إلهي بح صوتي في صفاء أصوات الصديقين وروي أنه عليه السلام لما طال بكاؤه ولم ينفعه ذلك ضاق ذرعه واشتد غمه فقال يا رب أما ترحم بكائي فأوحى الله تعالى إليه يا داود نسيت ذنبك وذكرت بكاءك فال إلهي وسيدي كيف أنسي ذنبي وكنت إذا تلوت الزبور كف الماء الجاري عن جريه وسكن هبوب الريح وأظلني الطير على رأسي وأنست الوحوش إلى محرابي إلهي وسيدي فما هذه الوحشة التي بيني وبينك فأوحى الله تعالى إليه يا داود ذلك أنس الطاعة وهذه وحشة المعصية يا داود آدم خلق من خلقي خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي وأسجدت له ملائكتي وألبسته ثوب كرامتي وتوجته بتاج وقاري وشكا لي الوحدة فزوجته حواء أمتي وأسكنته جنتي عصاني فطردته عن جواري عريانا ذليلا يا داود اسمع مني والحق أقول أطعتنا فأطعناك وسألتنا فأعطيناك وعصيتنا فأمهلناك وإن عدت إلينا على ما كان منك قبلناك وقال يحيى بن أبي كثير بلغنا أن داود عليه السلام كان إذا أراد أن ينوح مكث قبل ذلك سبعا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يقرب النساء فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له المنبر إلى البرية فأمر سليمان أن ينادي بصوت يستقرى البلاد وما حولها من الغياض والآكام والجبال والبراري والصوامع والبيع فينادي فيها ألا من أراد أن يسمع نوح داود على نفسه فليأت قال فتأتي الوحوش من البراري والآكام وتأتي السباع من الغياض وتأتي الهوام من الجبال وتأتي الطير من الأوكار وتأتي العذاري من خدورهن وتجتمع الناس لذلك اليوم ويأتي داود حتى يرقى المنبر ويحيط به بنو إسرائيل وكل صنف على حدته محيطون به وسليمان عليه السلام قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على ربه فيضجون بالبكاء والصراخ ثم يأخذ في ذكر الجنة والنار فتموت الهوام وطائفة من الوحوش والسباع الناس ثم يأخذ في أهوال القيامة وفي النياحة على نفسه فيموت من كل نوع طائفة فإذا رأى سليمان كثرة الموتى قال يا أبتاه قد مزقت المستمعين كل ممزق وماتت طوائف من بني إسرائيل ومن الوحوش والهوام فيأخذ في الدعاء فبينا هو كذلك إذ ناداه بعض عباد بني إسرائيل يا داود عجلت بطلب الجزاء على ربك قال فيخر داود مغشيا عليه فإذا نظر سليمان إلى ما أصابه أتى بسرير فحمله عليه ثم أمر مناديا ينادي ألا من كان له مع داود حميم أو قريب فليأت بسرير فليحمله فإن الذين كانوا معه قد قتلهم ذكر الجنة والنار فكانت المرأة تأتي بالسرير وتحمل قريبها وتقول يا من قتله ذكر النار يا من قتله خوف الله ثم إذا أفاق داود قام ووضع يده على رأسه ودخل بيت عبادته وأغلق بابه ويقول يا إله داود أغضبان أنت على داود ولا يزال يناجي ربه فيأتي سليمان ويقعد على الباب ويستأذن ثم يدخل ومعه قرص من شعير فيقول يا أبتاه تقو بهذا على ما تريد فيأكل من ذلك القرص ما شاء الله ثم يخرج إلى بني إسرائيل فيكون بينهم وقال يزيد الرقاشي خرج داود ذات يوم بالناس يعظهم ويخوفهم فخرج في أربعين ألفا فمات منهم ثلاثون ألفا وما رجع إلا في عشرة آلاف قال وكان له جاريتان اتخذهما حتى إذا جاءه الخوف وسقط فاضطرب قعدتا على صدره وعلى رجليه مخافة أن تتفرق أعضاؤه ومفاصله فيموت وقال ابن عمر رضي الله عنهما دخل يحيى بن زكريا عليهما السلام بيت المقدس وهو ابن ثمان حجج فنظر إلى عبادهم قد لبسوا مدارع الشعر والصوف ونظر إلى مجتهديهم قد خرقوا التراقي وسلكوا فيها السلاسل وشدوا أنفسهم إلى أطراف بيت المقدس فهاله ذلك فرجع إلى أبويه فمر بصبيان يلعبون فقالوا له يا يحيى هلم بنا لنعلب فقال إني لم أخلق للعب قال فأتى أبويه فسألهما أن يدرعاه الشعر ففعلا فرجع إلى بيت المقدس وكان يخدمه نهارا ويصبح فيه ليلا حتى أتت عليه خمس عشرة سنة فخرج ولزم أطواد الأرض وغير ان الشعاب فخرج أبواه في طلبه فأدركاه على بحيرة الأردن وقد أنقع رجليه في الماء حتى كاد العطش يذبحه وهو يقول عزتك وجلالك لا أذوق بارد الشراب حتى أعلم أين مكاني منك فسأله أبواه أن يفطر على قرص كان معهما من شعير ويشرب من ذلك الماء ففعل وكفر عن يمينه فمدح بالبر فرده أبواه إلى بيت المقدس فكان إذا قام يصلي بكى حتى يبكي معه الشجر والمدر ويبكي زكريا عليه السلام لبكائه حتى يغمى عليه فلم يزل يبكي حتى خرقت دموعه لحم خديه وبدت أضراسه للناظرين فقالت له أمه يا بني لو أذنت لي أن أتخذ لك شيئا تواري به أضراسك عن الناظرين فأذن لهما فعمدت إلى قطعتي لبود فألصقتها على خدية فكان إذا قام يصلي بكى فإذا استنقعت دموعه في القطعتين أتت إليه أمه فعصرتهما فإذا رأى دموع تسبل على ذراعي أمه قال اللهم هذه دموعي وهذه أمي وأنا عبدك وأنت أرحم الراحمين قال له زكريا يوما يا بني إنما سالت ربي أن يهبك لي لتقر عيناي بك فقال يحيى يا أبت إن جبريل عليه السلام أخبرني أن بين الجنة والنار مفازة لا يقطعها إلا كل بكاء فقال زكريا عليه السلام يا بني فابك وقال المسيح عليه السلام معاشر الحواريين خشية الله وحب الفردوس يورثان الصبر على المشقة ويباعدان من الدنيا بحق أقول لكم إن أكل الشعير والنوم على المزابل مع الكلاب في طلب الفردوس قليل وقيل كان الخليل صلوات الله عليه وسلامه إذا ذكر خطيئته يغشى عليه ويسمع اضطراب قلبه ميلا في ميل فيأتيه جبريل فيقول له ربك يقرئك السلام ويقول هل رأيت خليلا يخاف خليله فيقول يا جبريل إني إذا ذكرت خطيئتي نسيت خلتي فهذه أحوال الأنبياء عليه السلام فدونك والتأمل فيها فإنهم أعرف خلق الله بالله وصفاته صلوات الله عليهم أجمعين وعلى كل عباد الله المقربين وحسبنا الله ونعم الوكيل.

بيان أحوال الصحابة والتابعين والسلف والصالحين في شدة الخوف

روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال لطائر ليتني مثلك يا طائر ولم أخلق بشرا وقال أبو ذر رضي الله عنه وددت لو أني شجرة تعضد وكذلك قال طلحة وقال عثمان رضي الله عنه وددت إني إذا مت لم أبعث وقالت عائشة رضي الله عنها وددت أني كنت نسيا منسيا وروي أن عمر رضي الله عنه كان يسقط من الخوف إذا سمع آية من القرآن مغشيا عليه فكان يعاد أياما وأخذ يوما تبنة من الأرض فقال يا ليتني كنت هذه التبنة يا ليتني لم أك شيئا مذكورا يا ليتني كنت نسيا منسيا يا ليتني لم تلدني أمي وكان في وجه عمر رضي الله عنه خطان أسودان من الدموع وقال رضي الله عنه من خاف الله لم يشف غيظه ومن اتقى الله لم يصنع ما يريد ولولا يوم القيامة لكان غير ما ترون ولما قرأ عمر رضي الله عنه إذا الشمس كورت وانتهى إلى قوله تعالى وإذا الصحف نشرت خر مغشيا عليه ومر يوما بدار إنسان وهو يصلي ويقرأ سورة والطور فوقف يستمع فلما بلغ قوله تعالى إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع نزل عن حماره واستند إلى حائط ومكث زمانا ورجع إلى منزله فمرض شهرا يعوده الناس ولا يدرون ما مرضه وقال علي كرم الله وجهه وقد سلم من صلاة الفجر وقد علاه كآبة وهو يقلب يده لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئا يشبههم لقد كانوا يصبحون شعثا صفرا غبرا بين أعينهم أمثال ركب المعزى قد باتوا لله سجدا وقياما يتلون كتاب الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم فإذا أصبحوا ذكروا الله فمادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم بالدموع حتى تبل ثيابهم والله فكأن بالقوم باتوا غافلين ثم قام فما رؤي بعد ذلك ضاحكا حتى ضربه ابن ملجم وقال عمران بن حصين وددت أن أكون رمادا تنسفني الرياح في يوم عاصف وقال أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه وددت أني كبش فيذبحني أهلي فيأكلون لحمي ويحسون مرقي وكان علي بن الحسين رضي الله عنه إذا توضأ أصفر لونه فيقولون له أهله ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء فيقول أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم قال موسى بن مسعود كنا إذا جلسنا إلى الثوري كأن النار قد أحاطت بنا لما نرى من خوفه وجزعه وقرأ مضر القارئ يوما هذا كتابنا ينطق عليكم بالحقالآية فبكى عبد الواحد بن زيد حتى غشي عليه فلما أفاق قال وعزتك لأعصيتك جهدي أبدا فأعني بتوفيقك على طاعتك وكان المسور بن مخرمة لا يقوى أن يسمع شيئا من القرآن لشدة خوفه ولقد كان يقرأ عنده الحرف والآية فيصيح الصحية فما يعقل أياما حتى أتى عليه رجل من خثعم فقرأ عليه يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا فقال أنا من المجرمين ولست من المتقين أعد على القول أيها القارئ فأعادها عليه فشهق شهقة فلحق بالآخرة وقرئ عند يحيى البكاء ولو ترى إذ وقفوا على ربهم فصاح صيحة مكث منها مريضا أربعة أشهر يعاد من أطراف البصرة وقال مالك بن دينار بينما أنا أطوف بالبيت إذا أنا بجويرة متعبدة متعلقة بأستار الكعبة وهي تقول يا رب كم شهوة ذهبت لذاتها وبقيت تبعاتها يا رب أما كان لك أدب وعقوبة إلا النار وتبكى فما زال ذلك مقامها حتى طلع الفجر قال مالك فلما رأيت ذلك وضعت يدي على رأسي صارخا أقول ثكلت مالكا أمه وروي أن الفضيل رؤي يوم عرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلي المحترقة حتى إذا كادت الشمس تغرب قبض على لحيته ثم رفع رأسه إلى السماء وقال واسوأتاه منك وإن غفرت ثم انقلب مع الناس وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن الخائفين فقال قلوبهم بالخوف فرحة وأعينهم باكية يقولون كيف نفرح والموت من ورائنا والقبر أمامنا والقيامة موعدنا وعلى جهنم طريقنا وبين يدي الله ربنا موقفنا ومر الحسن بشاب وهو مستغرق في ضحكه وهو جالس مع قوم في مجلس فقال له الحسن يا فتى هل مررت بالصراط قال لا قال فهل تدري إلى الجنة تصير أم إلى النار قال لا قال فما هذا الضحك قال فما رؤي ذلك الفتى بعدها ضاحكا وكان حماد بن عبد ربه إذا جلس جلس مستوفرا على قدميه فيقال له اطمأننت فيقول تلك جلسة الآمن وأنا غير آمن إذ عصيت الله تعالى وقال عمر بن عبد العزيز إنما جعل الله هذه الغفلة في قلوب العباد رحمة كيلا يموتوا من خشية الله تعالى وقال مالك بن دينار قد هممت إذا أنا مت آمرهم أن يقيدوني ويغلوني ثم ينطلقوا بي إلى ربي كما ينطلق بالعبد الآبق إلى سيده وقال حاتم الأصم لا تغتر بموضع صالح فلا مكان أصلح من الجنة وقد لقي آدم عليه السلام فيهما ما لقي ولا تغتر بكثرة العبادة فإن إبليس بعد طول تعبده لقي ما لقي ولا تغتر بكثرة العلم فإن بلعام كان يحسن اسم الله الأعظم فانظر ماذا لقي ولا تغتر برؤية الصالحين فلا شخص أكبر منزلة عند الله من المصطفى صلى الله عليه وسلم ولم ينتفع بلقائه أقاربه وأعداؤه وقال السري إني لأنظر إلى أنفي كل يوم مرات مخافة أن يكون قد أسود وجهي وقال أبو حفص منذ أربعين سنة اعتقادي في نفسي أن الله ينظر إلى نظر السخط وأعمالي تدل على ذلك وخرج ابن المبارك يوما على أصحابه فقال إني اجترأت البارحة على الله سألته الجنة وقالت أم محمد بن كعب القرظي لابنها يا بني إني أعرفك صغيرا طيبا وكبيرا طيبا وكأنك أحدثت حدثا موبقا لما أراك تصنع في ليلك ونهارك فقال يا أماه ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع علي وأنا على بعض ذنوبي فمقتني وقال وعزتي وجلالي لا غفرت لك وقال الفضيل إني لا أغبط نبيا مرسلا ولا ملكا مقربا ولا عبدا صالحا أليس هؤلاء يعاينون يوم القيامة إنما أغبط من لم يخلق وروي أن فتى من الأنصار دخلته خشية النار فكان يبكي حتى حبسه ذلك في البيت فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه واعتنقه فخر ميتا فقال صلى الله عليه وسلم جهزوا صاحبكم فإن الفرق من النار فتت كبده حديث أن فتى من الأنصار دخلته خشية من النار حتى حبسه خوفه في البيت الحديث أخرجه ابن أبي الدنيا في الخائفين من حديث حذيفة والبيهقي في الشعب من حديث سهل بن سعد بإسنادين فيهما نظر وروي عن ابن أبي ميسرة أنه كان إذا أوى إلى فراشه يقول يا ليت أمي لم تلدني فقالت له أمه يا ميسرة إن الله تعالى قد أحسن إليك هداك إلى الإسلام قال أجل ولكن الله قد بين لنا أنا واردو النار ولم يبين لنا أنا صادرون عنها وقيل لفرقد السبخي أخبرنا بأعجب شيء بلغك عن إسرائيل فقال بلغني أنه دخل بيت المقدس خمسمائة عذارء لباسهن الصوف والمسوح فتذاكرن ثواب الله وعقابه فمتن جميعا في يوم واحد وكان عطاء السلمي من الخائفين ولم يكن يسأل الله الجنة أبدا إنما كان يسأل الله العفو وقيل له في مرضه ألا تشتهي شيئا فقال إن خوف جهنم لم يدع في قلبي موضعا للشهوة إنه ما رفع رأسه إلى السماء ولا ضحك أربعين سنة وأنه رفع رأسه يوما ففزع فسقط فانفتق في بطنه فتق وكان يمس جسده في بعض الليلة مخافة أن يكون قد مسخ وكان إذا أصابتهم ريح أو برق أو غلاء طعام قال هذا من أجلي يصيبهم لو مات عطاء لاستراح الناس وقال عطاء خرجنا مع عتبة الغلام وفينا كهول وشبان يصلون صلاة الفجر بطهور العشاء قد تورمت أقدامهم من طول القيام وغارت أعينهم في رءوسهم ولصقت جلودهم على عظامهم وبقيت العروق كأنها الأوتار يصبحون كأن جلودهم قشور البطيخ وكأنهم قد خرجوا من القبور يخبرون كيف أكرم الله المطيعين وكيف أهان العاصين فبينما هم يمشون إذ مر أحد بمكان فخر مغشيا عليه فجلس أصحابه حوله يبكون في يوم شديد البرد وجبينه يرشح عرقا فجاءوا بماء فمسحوا وجهه فأفاق وسألوه عن أمره فقال إني ذكرت أني كنت عصيت الله في ذلك المكان وقال صالح المري قرأت على رجل من المتعبدين يوم تقلب وجوههم في النار يقولون يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسولا فصعق ثم أفاق فقال زدني يا صالح فإني أجد غما فقرأت كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها فخر ميتا وروي أن زرارة بن أبي أوفى صلى بالناس الغداة فلما قرأ فإذا نقر في الناقور خر مغشيا عليه فحمل ميتا ودخل يزيد الرقاشي على عمر بن عبد العزيز فقال عظني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين اعلم أنك لست أول خليفة يموت فبكى ثم قال زدني قال يا أمير المومنين ليس بينك وبين آدم أب إلا ميت فبكى ثم قال زدني يا يزيد فقال يا أمير المؤمنين ليس بينك وبين الجنة والنار منزل فخر مغشيا عليه وقال ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين صاح سلمان الفارسي ووضع يده على رأسه وخرج هاربا ثلاثة أيام لا يقدرون عليه حديث ميمون بن مهران لما نزلت هذه الآية وإن جهنم لموعدهم أجمعين صاح سلمان الفارسي لم أقف له على أصل ورأى داود الطائي امرأة تبكي على رأس قبر ولدها وهي تقول يا ابناه ليت شعري أي خديك بدأ به الدود أولا فصعق داود وسقط مكانه وقيل مرض سفيان الثوري فعرض دليله على طبيب ذمي فقال هذا رجل قطع الخوف كبده ثم جاء وجس عروقه ثم قال ما علمت أن في الملة الحنيفية مثله وقال أحمد بن حنبل رحمة الله عليه سألت الله عز وجل أن يفتح علي بابا من الخوف ففتح فخفت على عقلي فقلت يا رب على قدر ما أطيق فسكن قلبي وقال عبد الله بن عمرو بن العاص ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا فوالذي نفسي بيده لو يعلم العلم أحدكم لصرخ حتى ينقطع صوته وصلى حتى ينكسر صلبه وكأنه أشار إلى معنى قوله صلى الله عليه وسلم لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا حديث لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا تقدم في قواعد العقائد وقال العنبري اجتمع أصحاب الحديث على باب الفضيل بن عياض فاطلع عليهم من كوة وهو يبكي ولحيته ترجف فقال عليكم بالقرآن عليكم بالصلاة ويحكم ليس هذا زمان حديث إنما هذا زمان بكاء وتضرع واستكانة ودعاء كدعاء الغريق إنما هذا زمان احفظ لسانك وأخف مكانك وعالج قلبك وخذ ما تعرف ودع ما تنكر ورؤي الفضيل يوما وهو يمشي فقيل له إلى أين قال لا أدري وكان يمشي والها من الخوف وقال ذر بن عمر لأبيه عمر بن ذر ما بال المتكلمين يتكلمون فلا يبكي أحد فإذا تكلمت أنت سمعت البكاء من كل جانب فقال يا بني ليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة وحكى أن قوما وقفوا بعابد وهو يبكي فقالوا ما الذي يبكيك يرحمك الله قال فرحة يجدها الخائفون في قلوبهم قالوا وما هي قال روعة النداء بالعرض على الله عز وجل وكان الخواص يبكي ويقول في مناجاته قد كبرت وضعف جسمي عن خدمتك فأعتقني وقال صالح المري قدم علينا ابن السماك مرة فقال أرني شيئا من بعض عجائب عبادكم فذهبت به إلى رجل في بعض الأحياء في خص له فاستأذنا عليه فإذا رجل يعمل خوصا فقرأت عليه إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون في الحميم ثم في النار يسجرون فشهق الرجل شهقة وخر مغشيا عليه فخرجنا من عنده وتركناه على حاله وذهبنا إلى آخر فدخلنا عليه فقرأت هذه الآية فشهق شهقة وخر مغشيا عليه فذهبنا واستأذنا على ثالث فقال ادخلوا إن لم تشغلونا عن ربنا فقرأت ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد فشهق شهقة فبدا الدم من منخريه وجعل يتشحط في دمه حتى يبس فتركناه على حاله وخرجنا فأدرته على ستة أنفس كل نخرج من عنده ونتركه مغشيا عليه ثم أتيت به إلى السابع فاستأذنا فإذا امرأة من داخل الخص تقول ادخلوا فدخلنا فإذا شيخ فان جالس في مصلاه فسلمنا عليه فلم يشعر بسلامنا فقلت بصوت عال ألا إن للخلق غدا مقاما فقال الشيخ بين يدي من ويحك ثم بقي مبهوتا فاتحا فاه شاخصا بصره يصيح بصوت له ضعيف أوه أوه حتى انقطع ذلك الصوت فقالت امرأته اخرجوا فإنكم لا تنتفعون به الساعة فلما كان بعد ذلك سالت عن القوم فإذا ثلاثة قد أفاقوا وثلاثة قد لحقوا بالله تعالى وأما الشيخ فإنه مكث ثلاثة أيام على حالته مبهوتا متحيرا لا يؤدي فرضنا فلم كان بعد ثلاث عقل وكان يزيد بن الأسود يرى أنه من الأبدال وكان قد حلف أن لا يضحك أبدا ولا ينام مضطجعا ولا يأكل سمنا أبدا فما رؤي ضاحكا ولا مضطجعا ولا أكل سمنا حتى مات رحمه الله وقال الحجاج لسعيد بن جبير بلغني أنك لم تضحك قط فقال كيف أضحك وجهنم قد سعرت والأغلال قد نصبت والزبانية قد أعدت وقال رجل يا أبا سعيد كيف أصبحت قال بخير قال كيف حالك فتبسم الحسن وقال تسألني عن حالي ما ظنك بناس ركبوا سفينة حتى توسطوا البحر فانكسرت سفينتهم فتعلق كل إنسان منهم بخشبة على أي حال يكون قال الرجل على حال شديدة قال الحسن حالي أشد من حالهم ودخلت مولاة لعمر بن عبد العزيز عليه فسلمت عليه ثم قامت إلى مسجد في بيته فصلت فيه ركعتين وغلبتها عيناها فرقدت فاستبكت في منامها ثم انتبهت فقالت يا أمير المؤمنين إني والله رأيت عجبا قال وما ذلك قالت رأيت النار وهي تزفر على أهلها ثم جئ بالصراط ووضع على متنها فقال هيه قالت فجئ بعبد الملك بن مروان فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسير حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ بالوليد بن عبد الملك فحمل عليه فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى إلى جهنم فقال عمر هيه قالت ثم جئ بسليمان بن عبد الملك فما مضى عليه إلا يسيرا حتى انكفأ به الصراط فهوى كذلك فقال عمر هيه قالت ثم جئ بك والله يا أمير المؤمنين فصاح عمر رحمه الله عليه صيحة خر مغشيا عليه فقامت إليه فجعلت تنادي في أذنه يا أمير المؤمنين إني رأيتك والله قد نجوت إني رأيتك والله قد نجوت قال وهي تنادي وهو يصيح ويفحص برجليه ويحكى أن أويسا القرني رحمه الله كان يحضر عند القاص فيبكي من كلامه فإذا ذكر النار صرخ أويس ثم يقوم منطلقا فيتبعه الناس فيقولون مجنون مجنون وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه إن المؤمن لا يسكن روعه حتى يترك جسر جهنم وراءه وكان طاوس يفرش له الفرش فيضطجع ويتقلى كما تتقلى الحبة في المقلى ثم يثب فيدرجه ويستقبل القبلة حتى الصباح ويقول طير ذكر جهنم نوم الخائفين وقال الحسن البصري رحمه الله يخرج من النار رجل بعد ألف عام يا ليتني كنت ذلك الرجل وإنما قال ذلك لخوفه من الخلود وسوء الخاتمة وروي أنه ما ضحك أربعين سنة قال وكنت إذا رأيته قاعدا كأنه أسير قد قدم لتضرب عنقه وإذا تكلم كأنه يعاين الآخرة فيخبر عن مشاهدتها فإذا سكت كأن النار تسعر بين عينيه وعوتب في شدة حزنه وخوفه فقال ما يؤمنني أن يكون الله تعالى قد اطلع في على بعض ما يكره فمقتني فقال اذهب فلا غفرت لك فأنا أعمل في غير معتمل وعن ابن السماك قال وعظت يوما في مجلس فقام شاب من القوم فقال يا أبا العباس لقد وعظت اليوم بكلمة ما كنا نبالي أن لا نسمع غيرها قلت وما هي رحمك الله قال قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة أو في النار ثم غاب عني ففقدته في المجلس الآخر فلم أره فسألت عنه فأخبرت أنه مريض يعاد فأتيته أعوده فقلت يا أخي ما الذي أرى بك فقال يا أبا العباس ذلك من قولك لقد قطع قلوب الخائفين طول الخلو دين إما في الجنة أو في النار قال ثم مات رحمه الله فرأيته في المنام فقلت يا أخي ما فعل الله بك قال غفر لي ورحمني وأدخلني الجنة قلت بماذا قال بالكلمة فهذه مخاوف الأنبياء والأولياء والعلماء والصالحين ونحن أجدر بالخوف منهم لكن ليس الخوف بكثرة الذنوب بل بصفاء القلوب وكمال المعرفة وإلا فليس أمننا لقلة ذنوبنا وكثرة طاعاتنا بل قادتنا شهوتنا وغلبت علينا شقوتنا وصدتنا عن ملاحظة أحوالنا غفلتنا وقسوتنا فلا قرب الرحيل ينبهنا ولا كثرة الذنوب تحركنا ولا مشاهدة أحوال الخائفين تخوفنا ولا خطر الخاتمة يزعجنا فنسأل الله تعالى أن يتدارك بفضله وجوده أحوالنا فيصلحنا إن كان تحريك اللسان بمجرد السؤال دون الاستعداد ينفعنا ومن العجائب أنا إذا أردنا المال في الدنيا زرعنا وغرسنا واتجرنا وركبنا البحار والبراري وخاطرنا وإن أردنا طلب رتبة العلم فقهنا وتعبنا في حفظه وتكراره وشهرنا ونجتهد في طلب أرزاقنا ولا نثق بضمان الله لنا ولا نجلس في بيوتنا فنقول اللهم ارزقنا ثم إذا طمعت أعيننا نحو الملك الدائم المقيم قنعنا بأن نقول بألسنتنا اللهم اغفر لنا وارحمنا والذي إليه رجاؤنا وبه اعتزازنا ينادينا ويقول وإن ليس للإنسان إلا ما سعى ولا يغرنكم بالله الغرور يا أيها الإنسان ما عزك بربك الكريم ثم كل ذلك لا ينبهنا ولا يخرجنا عن أودية غرورنا وأمانينا فما هذه إلا محنة هائلة إن لم يتفضل الله علينا بتوبة نصوح يتداركنا بها ويجيرنا فنسأل الله تعالى أن يتوب علينا بل نسأله أن يشوق إلى التوبة سرائر قلوبنا وأن لا يجعل حركة اللسان بسؤال التوبة غاية حظنا فنكون ممن يقول ولا يعمل ويسمع ولا يقبل إذا سمعنا الوعظ بكينا وإذا جاء وقت العمل بما سمعناه عصينا علامة للخذلان أعظم من هذا فنسأل الله تعالى أن يمن علينا بالتوفيق والرشد بمنه وفضله ولنقتصر من حكاية أحوال الخائفين على ما أوردناه فإن القليل من هذا يصادف القلب القابل فيكفي والكثير منه وإن أفيض على القلب الغافل فلا يغني ولقد صدق الراهب الذي حكى عنه عيسى بن مالك الخولاني وكان من خيار العباد أنه رآه على باب بيت المقدس واقفا كهيئة المحزون من شدة الوله ما يكاد يرقأ دمعه من كثرة البكاء فقال عيسى لما رأيته هالني منظره فقلت أيها الراهب أوصني بوصية أحفظها عنك فقال يا أخي بماذا أوصيك إن استطعت أن تكون بمنزلة رجل قد احتوشته السباع والهوام فهو خائف حذر يخاف أن يغفل فتفترسه السباع أو يسهو فتنهشه الهوام فهو مذعور القلب وجل فهو في المخالفة ليله وإن أمن المغترون وفي الحزن نهاره وإن فرح الباطلون ثم ولى وتركني فقلت لو زدتني شيئا عسى أن ينفعني فقال الظمآن يجزيه من الماء أيسره وقد صدق فإن القلب الصافي يحركه أدنى مخافة والقلب الجامد تنبو عنه كل المواعظ وما ذكره من تقديره أنه احتوشته السباع والهوام فلا ينبغي أن يظن أنه تقدير بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة باطنك لرأيته مشحونا بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة الآن قد انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلا عن ظاهر بشرتك والسلام.