كتاب التفكر

Iḥyāʾ ʿUlūm Al-Dīn

وهو الكتاب التاسع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذى لم يقدر لانتهاء عزته نحوا ولا قطرا ولم يجعل لمراقى أقدام الأوهام ومرمى سهام الأفهام إلى حمى عظمته مجرى بل ترك قلوب الطالبين في بيداء كبريائه والهة حيرى كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سبحات الجلال قسرا وإذا همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبرا صبرا ثم قيل لها أجيلى فى ذل العبودية منك فكرا لأنك لو تفكرت في جلال الربوبية لم تقدرى له قدرا وإن طلبت وراء الفكر في صفاتك أمرا فانظرى في نعم الله تعالى وأياديه كيف توالت عليك تترى وجددى لكل نعمة منها ذكرا وشكرا وتأملى في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيرا وشرا ونفعا وضرا وعسرا ويسرا وفوزا وخسرا وجبرا وكسرا وطيا ونشرا وإيمانا وكفرا وعرفانا ونكرا فإن جاوزت النظر في الأفعال إلى النظر في الذات فقد حاولت أمرا إمرا وخاطرت بنفسك مجاوزة حد طاقة البشر ظلما وجورا فقد انبهرت العقول دون مبادى إشراقهوانتكصت على أعقابها اضطرارا وقهرا والصلاة على محمد سيد ولد آدم وإن كان لم يعد سيادته فخرا صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخرا وعلى آله وأصحابه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدرا ولطوائف المسلمين صدرا وسلم تسليما كثيرا أما بعد فقد وردت السنة بأن تفكر ساعة خير من عبادة سنة حديث تفكر ساعة خير من عبادة سنة أخرجه ابن حبان في كتاب العظمة من حديث أبى هريرة بلفظ ستين سنة بإسناد ضعيف ومن طريقه ابن الجوزى في الموضوعات ورواه أبو منصور الديلمى في مسند الفردوس من حديث أنس بلفظ ثمانين سنة وإسناده ضعيف جدا ورواه أبو الشيخ من قول ابن عباس بلفظ خير من قيام ليلة وكثر الحث في كتاب الله تعالى على التدبر والاعتبار والنظر والافتكار ولا يخفى أن الفكر هو مفتاح الأنوار ومبدأ الاستبصار وهو شبكة العلوم ومصيدة المعارف والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ورتبته لكن جهلوا حقيقته وثمرته ومصدره ومورده ومجراه ومسرحه وطريقه وكيفيته ولم يعلم أنه كيف يتفكر وفيماذا يتفكر ولماذا يتفكر وما الذى يطلب به أهو مراد لعينه أم لثمرة تستفاد منه فإن كان لثمرة فما تلك الثمرة أهى من العلوم أو من الأحوال أو منهما جميعا وكشف جميع ذلك مهم ونحن نذكر أولا فضيلة التفكر ثم حقيقة التفكر وثمرته ثم مجارى الفكر ومسارحه إن شاء الله تعالى فضيلة التفكر قد أمر الله تعالى بالتفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى وأثنى على المتفكرين فقال تعالى الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا وقد قال ابن عباس رضى الله عنهما إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال صلى الله عليه وسلم تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره حديث ابن عباس إن قوما تفكروا في الله عز وجل فقال النبى صلى الله عليه وسلم تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في الله فإنكم لن تقدروا قدره أخرجه أبو نعيم في الحلية بالمرفوع منه بإسناد ضعيف ورواه الأصبهانى في الترغيب والترهيب من وجه آخر أصح منه ورواه الطبراني في الأوسط والبيهقى في الشعب من حديث ابن عمر وقال هذا إسناد فيه نظر قلت فيه الوازع بن نافع متروك وعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون فقال ما لكم لا تتكلمون فقالوا نتفكر في خلق الله عز وجل قال فكذلك فافعلوا تفكروا في خلقه ولا تتفكروا فيه فإن بهذا المغرب أرضا بيضاء نورها بياضها وبياضها نورها مسيرة الشمس أربعين يوما بها خلق من خلق الله عز وجل لم يعصوا الله طرفة عين قالوا يا رسول الله فأين الشيطان منهم قال ما يدرون خلق الشيطان أم لا قالوا من ولد آدم قال لا يدرون خلق آدم أم لا حديث خرج على قوم ذات يوم وهم يتفكرون فقال ما لكم لا تتكلمون فقالوا نتفكر في خلق الله الحديث رويناه في جزء من حديث عبد الله بن سلام وعن عطاء قال انطلقت يوما أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضى الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا قال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم زر غبا تزدد حبا قال ابن عمير فأخبرينا بأعجب شئ رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فبكت وقالت كل أمره كان عجبا أتانى في ليلتى حتى مس جلده جلدى ثم قال ذرينى أتعبد لربى عز وجل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلى فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح فقال يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر فقال ويحك يا بلال وما يمنعنى أن أبكى وقد أنزل الله تعالى على في هذه الليلة إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولى الألباب ثم قال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها حديث عطاء انطلقت أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة الحديث قال ابن عمير فأخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في نزول إن في خلق السموات والأرض وقال ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها تقدم في الصبر والشكر أنه في صحيح ابن حبان من رواية عبد الملك بن أبى سليمان عن عطاء فقيل للأوزاعى ما غاية التفكير فيهن قال يقرؤهن ويعقلهن وعن محمد بن واسع أن رجلا من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبى ذر فسألها عن عبادة أبى ذر فقالت كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر وعن الحسن قال تفكر ساعة خير من قيام ليلة وعن الفضيل قال الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك وقيل لإبراهيم إنك تطيل الفكرة فقال الفكرة مخ العقل وكان سفيان بن عيينة كثيرا ما يتمثل بقول القائل إذا المرء كانت له فكرة ففى كل شئ له عبرة وعن طاوس قال قال الحواريون لعيسى بن مريم يا روح الله هل على الأرض اليوم مثلك فقال نعم من كان منطقه ذكرا وصمته فكرا ونظره عبرة فإنه مثلى وقال الحسن من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ومن لم يكن سكوته تفكرا فهو سهو ومن لم يكن نظره اعتبارا فهو لهو وفي قوله تعالى سأصرف عن آياتى الذين يتكبرون في الأرض يغير الحق قال أمنع قلوبهم التفكر في أمرى وعن أبى سعيدى الخدرى قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوا أعينكم حظها من العبادة فقالوا يا رسول الله وما حظها من العبادة قال النظر في المصحف والتفكر فيه والاعتبار عند عجائبه حديث أبى سعيد الخدرى أعطوا أعينكم حظها من العبادة الحديث أخرجه ابن أبى الدنيا ومن طريقه ابو الشيخ ابن حبان في كتاب العظمة بإسناد ضعيف وعن امرأة كانت تسكن البادية قريبا من مكة أنها قالت لو تطالعت قلوب المتقين بفكرها إلى ما قد ادخر لها في حجب الغيب من خير الآخرة لم يصف لهم في الدنيا عيش ولم تقر لهم في الدنيا عين وكان لقمان يطيل الجلوس وحده فكان يمر به مولاه فيقول يا لقمان إنك تديم الجلوس وحدك فلو جلست مع الناس كان آنس لك فيقول لقمان إن طول الوحدة أفهم للفكر وطول الفكر دليل على طريق الجنة وقال وهب بن منبه ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرؤ قط إلا عمل وقال عمر بن عبد العزيز الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادة وقال عبد الله بن المبارك يوما لسهل بن على ورآه ساكتا متفكرا أين بلغت قال الصراط وقال بشر لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل وعن ابن عباس ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب وبينا أبو شريح يمشى إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكى فقيل له ما يبكيك قال تفكرت في ذهاب عمرى وقلة عملى واقتراب أجلى وقال أبو سليمان عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر وقال أبو سليمان الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة وعقوبة لأهل الولاية والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحيى القلوب وقال حاتم من العبرة يزيد العلم ومن الذكر يزيد يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف وقال ابن عباس التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه ويروى أن الله تعالى قال في بعض كتبه إنى لست أقبل كلام كل حكيم ولكن انظر إلى همه وهواه فإذا كان همه وهواه لى جعلت صمته تفكرا وكلامه حمدا وإن لم يتكلم وقال الحسن إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة وقال إسحاق بن خلف كان داود الطائى رحمه الله تعالى على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكى حتى وقع في دار جار له قال فوثب صاحب الدار من فراشه عريانا وبيده سيف وظن أنه لص فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذى طرحك من السطح قال ما شعرت بذلك وقال الجنيد اشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد والتنسم بنسيم المعرفة والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد والنظر بحسن الظن لله عز وجل ثم قال يا لها من مجالس ما أجلها ومن شراب ما ألذه طوبى لمن رزقه وقال الشافعى رحمه الله تعالى استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر وقال أيضا صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم في الرأي سلامة من التفريط والندم والروية والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة ومشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم وقال أيضا الفضائل أربع إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها في الشهوة والثالثة القوة وقوامها في الغضب والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس فهذه أقاويل العلماء في الفكرة وما شرع أحد منهم في ذكر حقيقتها وبيان مجاريها.

بيان حقيقة الفكر وثمرته

أعلم أن معنى الفكر هو إحضار معرفتين في القلب ليستثمر منهما معرفة ثالثة ومثاله أن من مال إلى العاجلة وآثر الحياة الدنيا وإراد أن يعرف أن الآخرة أولى بالإيثار من العاجلة فله طريقان أحدهما أن يسمع من غيره أن الآخرة أولى بالإيثار من الدنيا فيقلده ويصدقه من غير بصيرة بحقيقة الأمر فيميل بعمله إلى إيثار الآخرة اعتمادا على مجرد قوله وهذا يسمى تقليدا ولا يسمى معرفة والطريق الثاني أن يعرف أن الأبقى أولى بالإيثار ثم يعرف أن الآخرة أبقى فيحصل له من هاتين المعرفتين معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار ولا يمكن تحقق المعرفة بأن الآخرة أولى بالإيثار إلا بالمعرفتين السابقتين فإحضار المعرفتين السابقتين في القلب للتوصل به إلى المعرفة الثالثة يسمى تفكرا واعتبارا وتذكرا ونظرا وتأملا وتدبرا أما التدبر والتأمل والتفكر فعبارات مترادفة على معنى واحد ليس تحتها معان مختلفة وأما اسم التذكر والاعتبار والنظر فهى مختلفة المعانى وإن كان أصل المسمى واحد كما أن اسم الصارم والمهند والسيف يتوارد على شيء واحد ولكن باعتبارات مختلفة فالصارم يدل على السيف من حيث هو قاطع والمهند يدل عليه من حيث نسبته إلى موضعه والسيف يدل دلالة مطلقة من غير إشعار بهذه الزوائد فكذلك الاعتبار ينطلق على إحضار المعرفتين من حيث إنه يعبر منهما إلى معرفة ثالثة وإن لم يقع العبور ولم يمكن إلا الوقوف على المعرفتين فينطلق عليه اسم التذكر لا اسم الاعتبار وأما النظر والتفكر فيقع عليه من حيث إن فيه طلب معرفة ثالثة فمن ليس يطلب المعرفة الثالثة لا يسمى ناظرا فكل متفكر فهو متذكر وليس كل متذكر متفكرا وفائدة التذكار تكرار المعارف على القلب لترسخ ولا تنمحى عن القلب وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب معرفة ليست حاصلة فهذا هو الفرق بين التذكر والتفكر والمعارف إذا اجتمعت في القلب وازدوجت في القلب على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى فالمعرفة نتاج المعرفة فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل من ذلك نتاج آخر وهكذا يتمادى النتاج وتتمادى العلوم ويتمادى الفكر إلى غير نهاية وإنما تنسد طريق زيادة المعارف بالموت أو بالعوائق وهذا لمن يقدر على استثمار العلوم ويهتدى إلى طريق التفكير وأما أكثر الناس فإنما منعوا الزيادة في العلوم لفقدهم رأس المال وهو المعارف التى بها تستثمر العلوم كالذى لا بضاعة له فإنه لا يقدر على الربح وقد يملك البضاعة ولكن لا يحسن صناعة التجارة فلا يربح شيئا فكذلك قد يكون معه من المعارف ما هو رأس مال العلوم ولكن ليس يحسن استعمالها وتأليفها وإيقاع الازدواج المفضى إلى النتاج فيها ومعرفة طريق الاستعمال والاستثمار تارة تكون بنور إلهى في القلب يحصل بالفطرة كما كان للأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين وذلك عزيز جدا وقد تكون بالتعلم والممارسة وهو الأكثر ثم المتفكر قد تحضره هذه المعارف وتحصل له الثمرة وهو لا يشعر بكيفية حصولها ولا يقدر على التعبير عنها لقلة ممارسته لصناعة التعبير في الإيراد فكم من إنسان يعلم أن الآخرة أولى بالإيثار علما حقيقيا ولو سئل عن سبب معرفته لم يقدر على إيراده والتعبير عنه مع أنه لم تحصل معرفته إلا عن المعرفتين السابقتين وهو أن الأبقى أولى بالإيثار وأن الآخرة أبقى من الدنيا فتحصل له معرفة ثالثة وهو أن الآخرة أولى بالإيثار فرجع حاصل حقيقة التفكر إلى إحضار معرفتين للتوصل بهما إلى معرفة ثالثة وأما ثمرة الفكر فهى العلوم والأحوال والأعمال ولكن ثمرته الخاصة العلم لا غير نعم إذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح فالعمل تابع الحال والحال تابع العلم والعلم تابع الفكر فالفكر إذن هو المبدأ والمفتاح للخيرات كلها وهذا هو الذى يكشف لك فضيلة التفكر وأنه خير من الذكر والتذكر لأن الفكر ذكر وزيادة وذكر القلب خير من عمل الجوارح بل شرف العمل لما فيه من الذكر فإذن التفكر أفضل من جملة الأعمال ولذلك قيل تفكر ساعة خير من عبادة سنة فقيل هو الذى ينقل من المكاره إلى المحاب ومن الرغبة والحرص إلى الزهد والقناعة وقيل هو الذى يحدث مشاهدة وتقوى ولذلك قال تعالى لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا وإن أردت أن تفهم كيفية تغير الحال بالفكر فمثاله ما ذكرناه من أمر الآخرة فإن الفكر يعرفنا أن الآخرة أولى بالإيثار فإذا رسخت هذه المعرفة يقينا في قلوبنا تغيرت القلوب إلى الرغبة في الآخرة والزهد في الدنيا وهذا ما عنيناه بالحال إذ كان حال القلب قبل هذه المعرفة حب العاجلة والميل إليها والنفرة عن الآخرة وقلة الرغبة فيها وبهذه المعرفة تغير حال القلب وتبدلت إرادته ورغبته ثم أثمر تغير الإرادة أعمال الجوارح في إطراح الدنيا والإقبال على أعمال الآخرة فههنا خمس درجات أولاها التذكر وهو إحضار المعرفتين في القلب وثانيتها التفكر وهو طلب المعرفة المقصودة منهما والثالثة حصول المعرفة المطلوبة واستنارة القلب بها والرابعة تغير حال القلب عما كان بسبب حصول نور المعرفة والخامسة خدمة الجوارح للقلب بحسب ما يتجدد له من الحال فكما يضرب الحجر على الحديد فيخرج منه نار يستضىء بها الموضع فتصير العين مبصرة بعد أن لم تكن مبصرة وتنتهض الأعضاء للعمل فكذلك زناد نور المعرفة هو الفكر فيجمع بين المعرفتين كما يجمع بين الحجر والحديد ويؤلف بينهما تأليفا مخصوصا كما يضرب الحجر على الحديد ضربا مخصوصا فينبعث نور المعرفة كما تنبعث النار من الحديد ويتغير القلب بسبب هذا النور حتى يميل إلى ما لم يكن يميل إليه كما يتغير البصر بنور النار فيرى ما لم يكن يراه ثم تنتهض الأعضاء للعمل بمقتضى حال القلب كما ينتهض العاجز عن العمل بسبب الظلمة للعمل عند إدراك البصر ما لم يكن يبصره فإذن ثمرة الفكر العلوم والأحوال والعلوم لا نهاية لها والأحوال التى تتصور أن تتقلب على القلب لا يمكن حصرها ولهذا لو أراد مريد أن يحصر فنون الفكر ومجاريه وأنه فيماذا يتفكر لم يقدر عليه لأن مجارى الفكر غير محصورة وثمراته غير متناهية نعم نحن نجتهد في ضبط مجاريه بالإضافة إلى مهمات العلوم الدينية وبالإضافة إلى الأحوال التى هى مقامات السالكين ويكون ذلك ضبطا جمليا فإن تفصيل ذلك يستدعى شرح العلوم كلها وجملة هذه الكتب كالشرح لبعضها فإنها مشتملة على علوم تلك العلوم تستفاد من أفكار مخصوصة فلنشر إلى ضبط الجامع فيها ليحصل الوقوف على مجارى الفكر.

بيان مجارى الفكر

أعلم أن الفكر قد يجرى في أمر يتعلق بالدين وقد يجرى فيما يتعلق بغير الدين وإنما غرضنا ما يتعلق بالدين فلنترك القسم الآخر ونعنى بالدين المعاملة التى بين العبد وبين الرب تعالى فجميع أفكار العبد إما أن تتعلق بالعبد وصفاته وأحواله وإما أن تتعلق بالمعبود وصفاته وأفعاله لا يمكن أن يخرج عن هذين القسمين وما يتعلق بالعبد إما أن يكون نظرا فيما هو محبوب عند الرب تعالى أو فيما هو مكروه ولا حاجة إلى الفكر في غير هذين القسمين وما يتعلق بالرب تعالى إما ان يكون نظرا في ذاته وصفاته وأسمائه الحسنى وإما أن يكون في أفعاله وملكه وملكوته وجميع ما في السموات والأرض وما بينهما وينكشف لك انحصار الفكر في هذه الأقسام بمثال وهو أن حال السائرين إلى الله تعالى والمشتاقين إلى لقائه يتعلق بمعشوقه أو يتعلق بنفسه فإن تفكر في معشوقه فإما أن يتفكر في جماله وحسن صورته في ذاته ليتنعم بالفكر فيه وبمشاهدته وإما ان يتفكر في أفعاله اللطيفة الحسنة الدالة على أخلاقه وصفاته ليكون ذلك مضعفا للذة ومقويا لمحبته وإن تفكر في نفسه فيكون فكره في صفاته التى تسقطه من عين محبوبه حتى يتنزه عنها أو في الصفات التى تقربه منه وتحببه إليه حتى يتصف بها فإن تفكر في شيء خارج عن هذه الأقسام فذلك خارج عن حد العشق وهو نقصان فيه لأن العشق التام الكامل ما يستغرق العاشق ويستوفي القلب حتى لا يترك فيه متسعا لغيره فمحب الله تعالى ينبغى أن يكون كذلك فلا يعدو نظره وتفكره محبوبه ومهما كان تفكره محصورا في هذه الأقسام الأربعة لم يكن خارجا عن مقتضى المحبة أصلا فلنبدأ بالقسم الأول وهو تفكره في صفات نفسه وأفعال نفسه ليميز المحبوب منها عن المكروه فإن هذا الفكر هو الذى يتعلق بعلم المعاملة الذى هو المقصود بهذا الكتاب وأما القسم الآخر فيتعلق بعلم المكاشفة ثم كل واحد مما هو مكروه عند الله أو محبوب ينقسم إلى ظاهر كالطاعات والمعاصى وإلى باطن كالصفات المنجيات والمهلكات التى محلها القلب وذكرنا تفصيلها في ربع المهلكات والمنجيات والمعاصى تنقسم إلى ما يتعلق بالأعضاء السبعة وإلى ما ينسب إلى جميع البدن كالفرار من الزحف وعقوق الوالدين والسكون في المسكن الحرام ويجب في كل واحد من المكاره التفكر في ثلاثة أمور الأول التفكر في أنه هل هو مكروه عند الله أم لا فرب شيء لا يظهر كونه مكروها بل يدرك بدقيق النظر والثاني التفكر في أنه إن كان مكروها فما طريق الاحتراز عنه والثالث أن هذا المكروه هل هو متصف به في الحال فيتركه أو هو متعرض له في الاستقبال فيحترز عنه أو قارفه فيما مضى من الأحوال فيحتاج إلى تداركه وكذلك كل واحد من المحبوبات ينقسم إلى هذه الانقسامات فإذا جمعت هذه الاقسام زادت مجارى الفكر في الأقسام على مائة والعبد مدفوع إلى الفكر إما في جميعها أو في أكثرها وشرح آحاد هذه الانقسامات يطول ولكن انحصر هذا القسم في أربعة أنواع الطاعات والمعاصى والصفات المهلكات والصفات المنجيات فلنذكر في كل نوع مثالا ليقيس به المريد سائرها وينفتح له باب الفكر ويتسع عليه طريقه النوع الأول المعاصى ينبغى أن يفتش الإنسان صبيحة كل يوم جميع أعضائه السبعة تفصيلا ثم بدنه على الجملة هل هو في الحال ملابس لمعصية بها فيتركها أو لابسها بالأمس فيتداركها بالترك والندم أو هو متعرض لها في نهاره فيستعد للاحتراز والتباعد عنها فينظر في اللسان ويقول إنه متعرض للغيبة والكذب وتزكية النفس والاستهزاء بالغير والمماراة والممازحة والخوض فيما لا يعنى إلى غير ذلك من المكاره فيقرر أولا في نفسه أنها مكروهة عند الله تعالى ويتفكر في شواهد القرآن والسنة على شدة العذاب فيها ثم يتفكر في أحواله أنه كيف يتعرض لها من حيث لا يشعر ثم يتفكر أنه كيف يحترز منه ويعلم أنه لا يتم له ذلك إلا بالعزلة والانفراد أو بأن لا يجالس إلا صالحا تقيا ينكر عليه مهما تكلم بما يكرهه الله وإلا فيضع حجرا في فيه إذا جالس غيره حتى يكون ذلك مذكرا له فهكذا يكون الفكر في حيلة الاحتراز ويتفكر في سمعه يصغى به إلى الغيبة والكذب وفضول الكلام وإلى اللهو والبدعة وأن ذلك إنما يسمعه من زيد وعمرو وأنه ينبغى أن يحترز عنه بالاعتزال أو بالنهى عن المنكر فمهما كان ذلك فيتفكر في بطنه أنه إنما يعصى الله تعالى فيه بالأكل والشرب إما بكثرة الأكل من الحلال فإن ذلك مكروه عند الله ومقوى للشهوة التى هى سلاح الشيطان عدو الله وإما بأكل الحرام أو الشبهة فينظر من أين مطعمه وملبسه ومسكنه ومكسبه وما مكسبه ويتفكر في طريق الحلال ومداخله ثم يتفكر في طريق الحيلة في الاكتساب منه والاحتراز من الحرام ويقرر على نفسه أن العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها وأن الله تعالى لا يقبل صلاة عبد في ثمن ثوبه درهم حرام حديث إن الله لا يقبل صلاة عبد في ثوبه درهم حرام أخرجه أحمد من حديث ابن عمر بسند فيه مجهول وقد تقدم كما ورد الخبر به فهكذا يتفكر في أعضائه ففى هذا القدر كفاية عن الاستقصاء فمهما حصل بالتفكر حقيقة المعرفة بهذه الأحوال اشتغل بالمراقبة طول النهار حتى يحفظ الأعضاء عنها وأما النوع الثاني وهو الطاعات فينظر أولا في الفرائض المكتوبة عليه أنه كيف يؤديها وكيف يحرسها عن النقصان والتقصير أو كيف يجبر نقصانها بكثرة النوافل ثم يرجع إلى عضو عضو فيتفكر في الأفعال التى تتعلق بها مما يحبه الله تعالى فيقول مثلا إن العين خلقت للنظر في ملكوت السموات والأرض عبرة ولتستعمل في طاعة الله تعالى وتنظر في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأنا قادر على أن أشغل العين بمطالعة القرآن والسنة فلم لا أفعله وأنا قادر على أن أنظر إلى فلان المطيع بعين التعظيم فأدخل السرور على قلبه وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته فلم لا أفعله وكذلك يقول في سمعه إلى قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلمالسرور على قلبه وأنظر إلى فلان الفاسق بعين الازدراء فأزجره بذلك عن معصيته فلم لا أفعله وكذلك يقول في سمعه إلى قادر على استماع كلام ملهوف أو استماع حكمة وعلم أو استماع قراءة وذكر فمالى أعطله وقد أنعم الله على به وأودعنيه لأشكره فمالى أكفر نعمة الله فيه بتضييعه أو تعطيله وكذلك يتفكر في اللسان ويقول إنى قادر على أن أتقرب إلى الله تعالى بالتعليم والوعظ والتودد إلى قلوب أهل الصلاح وبالسؤال عن أحوال الفقراء وإدخال السرور على قلب زيد الصالح وعمرو العالم بكلمة طيبة وكل كلمة طيبة فإنها صدقة وكذلك يتفكر في ماله فيقول أنا قادر على أن أتصدق بالمال الفلاني فإنا مستغن عنه ومهما احتجت إليه رزقنى الله تعالى مثله وإن كنت محتاجا الآن فأبا إلى ثواب الإيثار أحوج منى إلى ذلك المال وهكذا يفتش عن جميع أعضائه وجملة بدنه وأمواله بل عن دوابه وغلمانه وأولاده فإن كل ذلك أدواته وأسبابه ويقدر على أن يطيع الله تعالى بها فيستنبط بدقيق الفكر وجوه الطاعات الممكنة بها ويتفكر فيما يرغبه في البدار إلى تلك الطاعات ويتفكر في إخلاص النية فيها ويطلب لها مظان الاستحقاق حتى يزكو بها عمله وقس على هذا سائر الطاعات وأما النوع الثالث فهى الصفات المهلكة التى محلها القلب فيعرفها مما ذكرناه في ربع المهلكات وهى استيلاء الشهوة والغضب والبخل والكبر والعجب والرياء والحسد وسوء الظن والغفلة والغرور وغير ذلك ويتفقد من قلبه هذه الصفات فإن ظن أن قلبه منزه عنها فيتفكر في كيفية امتحانه والاستشهاد بالعلامات عليه فإن النفس أبدا تعد بالخير من نفسها وتخلف فإذا ادعت التواضع والبراءة من الكبر فينبغى أن تجرب بحمل حزمة حطب في السوق كما كان الأولون يجربون به أنفسهم وإذا ادعت الحلم تعرض لغضب يناله من غيره ثم يجربها في كظم الغيظ وكذلك في سائر الصفات وهذا تفكر في أنه هل هو موصوف بالصفة المكروهة أم لا ولذلك علامات ذكرناها في ربع المهلكات فإذا دلت العلامة على وجودها فكر في الأسباب التى تقبح تلك الصفات عنده وتبين أن منشأها من الجهل والغفلة وخبث الدخلة كما لو رأى من نفسه عجبا بالعمل فيتفكر ويقول إنما عمل ببدني وجارحتى وبقدرتى وإرادتى وكل ذلك ليس مني ولا إلى وإنما هو من خلق الله وفضله علي فهو الذي خلقني وخلق جارحتي وخلق قدرتي وإرادتي وهو الذي حرك أعضائي بقدرته وكذلك قدرتي وإرادتي فكيف أعجب بعملي أو بنفسي ولا أقوم لنفسي بنفسي فإذا أحس في نفسه بالكبر قرر على نفسه ما فيه من الحماقة ويقول لها لم ترين نفسك أكبر والكبير من هو عند الله كبير وذلك ينكشف بعد الموت وكم من كافر في الحال يموت مقربا إلى الله تعالى بنزوعه عن الكفر وكم من مسلم يموت شقيا بتغير حاله عند الموت بسوء الخاتمة فإذا عرف أن الكبر مهلك وأن أصله الحماقة فيتفكر في علاج إزالة ذلك بأن يتعاطى أفعال المتواضعين وإذا وجد في نفسه شهوة الطعام وشرهه تفكر في أن هذه صفة البهائم ولو كان في شهوة الطعام والوقاع كمال لكان ذلك من صفات الله وصفات الملائكة كالعلم والقدرة ولما اتصف به البهائم ومهما كان الشره عليه أغلب كان بالبهائم أشبه وعن الملائكة المقربين أبعد وكذلك يقرر على نفسه في الغضب ثم يتفكر في طريق العلاج وكل ذلك ذكرناه في هذه الكتب فمن يريد أن يتسع له طريق الفكر فلا بد له من تحصيل ما في هذه الكتب وأما النوع الرابع وهو المنجيات فهو التوبة والندم على الذنوب والصبر على البلاء والشكر على النعماء والخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص والصدق في الطاعات ومحبة الله وتعظيمه والرضا بأفعاله والشوق إليه والخشوع والتواضع له وكل ذلك ذكرناه في هذا الربع وذكرنا أسبابه وعلاماته فليتفكر العبد كل يوم في قلبه ما الذي يعوزه من هذه الصفات التى هي المقربة إلى الله تعالى فإذا افتقر إلى شيء منها فليعلم أنها أحوال لا يثمرها إلا علوم وأن العلوم لا يثمرها إلا أفكار فإذا أراد أن يكتسب لنفسه أحوال التوبة والندم فليفتش ذنوبه أولا وليتفكر فيها وليجمعها على نفسه وليعظمها في قلبه ثم لينظر في الوعيد والتشديد الذي ورد في الشرع فيها وليتحقق عند نفسه أنه متعرض لمقت الله تعالى حتى ينبعث له حال الندم وإذا أراد أن يستثير من قلبه حال الشكر فلينظر في إحسان الله إليه وأياديه عليه وفي إرساله جميل ستره عليه على ما شرحنا بعضه في كتاب الشكر فليطالع ذلك وإذا أراد حال المحبة والشوق فليتفكر في جلال الله وجماله وعظمته وكبريائه وذلك بالنظر في عجائب حكمته وبدائع صنعه كما سنشير إلى طرف منه في القسم الثاني من الفكر وإذا أراد حال الخوف فلينظر أولا في ذنوبه الظاهرة والباطنة ثم لينظر في الموت وسكراته ثم فيما بعده من سؤال منكر ونكير وعذاب القبر وحياته وعقاربه وديدانه ثم في هول النداء عند نفخة الصور ثم في هول المحشر عند جمع الخلائق على صعيد واحد ثم في المناقشة في الحساب في النقير والقطمير ثم في الصراط ودقته وحدته ثم في خطر الأمر عنده أنه يصرف إلى الشمال فيكون من أصحاب النار أو يصرف إلى اليمين فينزل دار القرار ثم ليحضر بعد أهوال القيامة في قلبه صورة جهنم ودركاتها ومقامعها وأهوالها وسلاسلها وأغلالها وزقومها وصديدها وأنواع العذاب فيها وقبح صور الزبانية الموكلين بها وأنهم كلما نضجت جلودهم بدلوا جلودا غيرها وأنهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها وأنهم إذا رأوها من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وهلم جرا إلى جميع ما ورد في القرآن من شرحها وإذا أراد أن يستجلب حال الرجاء فلينظر إلى الجنة ونعيمها وأشجارها وأنهارها وحورها وولدانها ونعيمها المقيم وملكها الدائم فهكذا طريق الفكر الذي يطلب به العلوم التى تثمر اجتلاب أحوال محبوبة أو التنزه عن صفات مذمومة وقد ذكرنا في كل واحد من هذه الأحوال كتابا مفردا يستعان به على تفصيل الفكر أما بذكر مجامعه فلا يوجد فيه أنفع من قراءة القرآن بالتفكر فإنه جامع لجميع المقامات والأحوال وفيه شفاء للعالمين وفيه ما يورث الخوف والرجاء والصبر والشكر والمحبة والشوق وسائر الأحوال وفيه ما يزجر عن سائر الصفات المذمومة فينبغي أن يقرأه العبد ويردد الآية التى هو محتاج إلى التفكر فيها مرة بعد أخرى ولو مائة مرة فقراءة آية بتفكر وفهم خير من ختمة بغير تدبر وفهم فليتوقف في التأمل فيها ولو ليلة واحدة فإن تحت كل كلمة منها أسرارا لا تنحصر ولا يوقف عليها إلا بدقيق الفكر عن صفاء القلب بعد صدق المعاملة وكذلك مطالعة أخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه قد أوتي جوامع الكلم حديث أنه صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم تقدم وكل كلمة من كلماته بحر من بحور الحكمة ولو تأملها العالم حق التأمل لم ينقطع فيها نظره طول عمره وشرح آحاد الآيات والأخبار يطول فانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه وعش ما شئت فإنك ميت واعمل ما شئت فإنك مجزى به حديث إن روح القدس نفث في روعي أحبب من أحببت فإنك مفارقه الحديث تقدم غير مرة فإن هذه الكلمات جامعة حكم الأولين والآخرين وهي كافية للمتأملين فيها طول العمر إذ لو وقفوا على معانيها وغلبت على قلوبهم غلبة يقين لاستغرقتهم ولحال ذلك بينهم وبين التلفت إلى الدنيا بالكلية فهذا هو طريق الفكر في علوم المعاملة وصفات العبد من حيث هي محبوبة عند الله تعالى أو مكروهة والمبتدئ ينبغي أن يكون مستغرق الوقت في هذه الأفكار حتى يعمر قلبه بالأخلاق المحمودة والمقامات الشريفة وينزه باطنه وظاهره عن المكاره وليعلم أن هذا مع أنه أفضل من سائر العبادات فليس هو له غاية المطلب بل المشغول به محجوب عن مطلب الصديقين وهوالتنعم بالفكر في جلال الله تعالى وجماله واستغراق القلب بحيث يفنى عن نفسه أي ينسى نفسه وأحواله ومقاماته وصفاته فيكون مستغرق الهم بالمحبوب كالعاشق المستهتر عند لقاء الحبيب فإنه لا يتفرغ للنظر في أحوال نفسه وأوصافها بل كالمبهوت الغافل عن نفسه وهو منتهى لذة العشاق فأما ما ذكرناه فهو تفكر في عمارة الباطن ليصلح للقرب والوصال فإذا ضيع جميع عمره في إصلاح نفسه فمتى يتنعم بالقرب ولذلك كان الخواص يدور في البوادي فلقيه الحسين بن منصور وقال فيم أنت قال أدور في البوادي أصلح حالي في التوكل فقال الحسين أفنيت عمرك في عمران باطنك فأين الفناء في التوحيد فالفناء في الواحد الحق هو غاية مقصد الطالبين ومنتهى نعيم الصديقين وأما التنزه عن الصفات المهلكات فيجري مجرى الخروج عن العدة في النكاح وأما الاتصاف بالصفات المنجيات وسائر الطاعات فيجري مجرى تهيئة المرأة وجهازها وتنظيفها ووجهها ومشطها شعرها لتصلح بذلك للقاء زوجها فإن استغرقت جميع عمرها في تبرئة الرحم وتزيين الوجه كان ذلك حجابا لها عن لقاء المحبوب فهكذا ينبغي أن تفهم طريق الدين إن كنت من أهل المجالسة وإن كنت كالعبد السوء لا يتحرك إلا خوفا من الضرب وطمعا في الأجرة فدونك وإلعاب البدن بالأعمال الظاهرة فإن بينك وبين القلب حجابا كثيفا فإذا قضيت حق الأعمال كنت من أهل الجنة ولكن للمجالسة أقوم آخرون وإذا عرفت مجال الفكر في علوم المعاملة التى بين العبد وبين ربه فينبغي أن تتخذ ذلك عادتك وديدنك صباحا ومساء فلا تغفل عن نفسك وعن صفاتك المبعدة من الله تعالى وأحوالك المقربة إليه سبحانه وتعالى بل كل مريد فينبغي أن يكون له جريدة يثبت فيها جملة الصفات المهلكات وجملة الصفات المنجيات وجملة المعاصي والطاعات ويعرض نفسه عليها كل يوم ويكفيه من المهلكات النظر في عشرة فإنه إن سلم منها سلم من غيرها وهي البخل والكبر والعجب والرياء والحسد وشدة الغضب وشره الطعام وشره الوقاع وحب المال وحب الجاه ومن المنجيات عشرة الندم على الذنوب والصبر على البلاء والرضا بالقضاء والشكر على النعماء واعتدال الخوف والرجاء والزهد في الدنيا والإخلاص في الأعمال وحسن الخلق مع الخلق وحب الله تعالى والخشوع له فهذه عشرون خصلة عشرة مذمومة وعشرة محمودة فمهما كفى من المذمومات واحدة فيخط عليها في جريدته ويدع الفكر فيها ويشكر الله تعالى على كفايته إياها وتنزيه قلبه عنها ويعلم أن ذلك لم يتم إلا بتوفيق الله تعالى وعونه ولو وكله إلى نفسه لم يقدر على محو أقل الرذائل عن نفسه فيقبل على التسعة الباقية وهكذا يفعل حتى يخط على الجميع وكذا يطالب نفسه بالاتصاف بالمنجيات فإذا اتصف بواحدة منها كالتوبة والندم مثلا خطعليها واشتغل بالباقي وهذا يحتاج إليه المريد المشمر وأما أكثر الناس من المعدودين من الصالحين فينبغي أن يثبتوا في جرائدهم المعاصي الظاهرة كأكل الشبهة وإطلاق اللسان بالغيبة والنميمة والمراء والثناء على النفس والإفراط في معاداة الأعداء وموالاة الأولياء والمداهنة مع الخلق في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن أكثر من يعد نفسه من وجوه الصالحين لا ينفك عن جملة من هذه المعاصي في جوارحه وما لم يظهر الجوارح عن الآثام لا يمكن الاشتغال بعمارة القلب وتطهيره بل كل فريق من الناس يغلب عليهم نوع من المعصية فينبغي أن يكون تفقدهم لها وتفكرهم فيها لا في معاص هم بمعزل عنها مثاله العالم الورع فإنه لا يخلو في غالب الأمر عن إظهار نفسه بالعلم وطلب الشهرة وانتشار الصيت إما بالتدريس أو بالوعظ ومن فعل ذلك تصدى لفتنة عظيمة لا ينجو منها إلا الصديقون فإنه إن كان كلامه مقبولا حسن الوقع في القلوب لم ينفك عن الإعجاب والخيلاء والتزين والتصنع وذلك من المهلكات وإن رد كلامه لم يخل عن غيظ وأنفة وحقد على من يرده وهو أكثر من غيظه على من يرد كلام غيره وقد يلبس الشيطان عليه ويقول إن غيظك من حيث إنه رد الحق وأنكره فإن وجد تفرقة بين أن يرد عليه كلامه أو يرد على عالم آخر فهو مغرور وضحكة للشيطان ثم مهما كان له ارتياح بالقبول وفرح بالثناء واستنكاف من الرد أو الإعراض لم يخل عن تكلف وتصنع لتحسين اللفظ والإيراد حرصا على استجلاب الثناء والله لا يحب المتكلفين والشيطان قد يلبس عليه ويقول إنما حرصك على تحسين الألفاظ والتكلف فيها لينتشر الحق ويحسن موقعه في القلب إعلاء لدين الله فإن كان فرحه بحسن ألفاظه وثناء الناس عليه أكثر من فرحه بثناء الناس على واحد من أقرانه فهو مخدوع وإنما يدور حول طلب الجاه وهو يظن أن مطلبه الدين ومهما اختلج ضميره بهذه الصفات ظهر على ظاهره ذلك حتى يكون للموقر له المعتقد لفضله أكثر احتراما ويكون بلقائه أشد فرحا واستبشارا ممن يغلو في موالاة غيره وإن كان ذلك الغير مستحقا للموالاة وربما ينتهي الأمر بأهل العلم إلى أن يتغايروا تغاير النساء فيشق على أحدهم أن يختلف بعض تلامذته إلى غيره وإن كان يعلم أنه منتفع بغيره ومستفيد منه في دينه وكل ذلك رشح الصفات المهلكات المستكنة في سر القلب التى قد يظن العالم النجاة منها وهو مغرور فيها وإنما ينكشف ذلك بهذه العلامات ففتنة العالم عظيمة وهو إما مالك وإماهالك ولا مطمع له في سلامة العوام فمن أحس في نفسه بهذه الصفات فالواجب عليه العزلة والانفراد وطلب الخمول والمدافعة للفتاوي مهما سئل فقد كان المسجد يحوى في زمن الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم مفتون وكانوا يتدافعون الفتوى وكل من كان يفتى كان يود أن يكفيه غيره وعند هذا ينبغي أن يتقى شياطين الإنس إذا قالوا لا تفعل هذا فإن هذا الباب لو فتح لاندرست العلوم من بين الخلق وليقل لهم إن دين الإسلام مستغن عني فإنه قد كان معمورا قبلي وكذلك يكون بعدي ولو مت لا تنهدم أركان الإسلام فإن الدين مستغن عني وأما أنا فلست مستغنيا عن إصلاح قلبي وأما أداء ذلك إلى اندارس العلم فخيال يدل على غاية الجهل فإن الناس لو حبسوا في السجن وقيدوا بالقيود وتوعدوا بالنار على طلب العلم لكان حب الرياسة والعلو يحملهم على كسر القيود وهدم حيطان الحصون والخروج منها والاشتغال بطلب العلم فالعلم لا يندرس ما دام الشيطان يحبب إلى الخلق الرياسة والشيطان لا يفتر عن عمله إلى يوم القيامة بل ينتهض لنشر العلم أقوام لا نصيب لهم في الآخرة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم حديث ان الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم تقدم و إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر حديث ان الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر تقدم أيضا في العلم فلا ينبغي أن يغتر العالم بهذه التلبيسات فيشتغل بمخالطة الخلق حتى يتربي في قلبه حب الجاه والثناء والتعظيم فإن ذلك بذر النفاق قال صلى الله عليه وسلم حب الجاه والمال ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل حديث حب المال والجاه ينبت النفاق في القلب الحديث تقدم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذئبان ضاريان أرسلا في زريبة غنم بأكثر إفساد فيها من حب الجاه والمال في دين المرء المسلم حديث ما ذئبان جائعان أرسلا في زريبة غنم الحديث تقدم ولا ينقلع حب الجاه من القلب إلا بالاعتزال عن الناس والهرب من مخالطتهم وترك كل ما يزيد جاهه في قلوبهم فليكن فكر العالم في التفطن لخفايا هذه الصفات من قلبه وفي استنباط طريق الخلاص منها وهذه وظيفة العالم المتقي فأما أمثالنا فينبغي أن يكون تفكرنا فيما يقوي إيماننا بيوم الحساب إذ لو رآنا السلف الصالحون لقالوا قطعا إن هؤلاء لا يؤمنون بيوم الحساب فما أعمالنا أعمال من يؤمن بالجنة والنار فإن من خاف شيئا هرب منه ومن رجا شيئا طلبه وقد علمنا أن الهرب من النار بترك الشبهات والحرام وبترك المعاصي ونحن منهمكون فيها وأن طلب الجنة بتكثير نوافل الطاعات ونحن مقصرون في الفرائض منها فلم يحصل لنا من ثمرة العلم إلا أنه يقتدى بنا في الحرص على الدنيا والتكالب عليها ويقال لو كان هذا مذموما لكان العلماء أحق وأولى باجتنابه منا فليتنا كنا كالعوام إذا متنا ماتت معنا ذنوبنا فما أعظم الفتنة التى تعرضنا لها لو تفكرنا فنسأل الله تعالى أن يصلحنا ويصلح بنا ويوفقنا للتوبة قبل أن يتوفانا إنه الكريم اللطيف بنا المنعم علينا فهذه مجاري أفكار العلماء والصالحين في علم المعاملة فإن فرغوا منها انقطع التفاتهم عن أنفسهم وارتقوا منها إلى التفكر في جلال الله وعظمته والتنعم بمشاهدته بعين القلب ولا يتم ذلك إلا بعد الانفكاك من جميع المهلكات والاتصاف بجميع المنجيات وإن ظهر شيء منه قبل ذلك كان مدخولا معلولا مكدرا مقطوعا وكان ضعيفا كالبرق الخاطف لا يثبت ولا يدوم ويكون كالعاشق الذي خلا بمعشوقه ولكن تحت ثيابه حيات وعقارب تلدغه مرة بعد أخرى فتنغص عليه لذة المشاهدة ولا طريق له في كمال التنعم إلا بإخراج العقارب والحيات من ثيابه وهذه الصفات المذمومة عقارب وحيات وهي مؤذيات ومشوشات وفي القبر يزيد ألم لدغها على لدغ العقارب والحيات فهذا القدر كاف في التنبيه على مجارى فكر العبد في صفات نفسه المحبوبة والمكروهة عنه ربه تعالى القسم الثاني الفكر في جلال الله وعظمته وكبريائه وفيه مقامان المقام الأعلى الفكر في ذاته وصفاته ومعاني أسمائه وهذا مما منع منه حيث قيل تفكروا في خلق الله تعالى ولا تفكروا في ذات الله وذلك لأن العقول تتحير فيه فلا يطيق مد البصر إليه إلا الصديقون ثم لا يطيقون دوام النظر بل سائر الخلق أحوال أبصارهم بالإضافة إلى جلال الله تعالى كحال بصر الخفاش بالإضافة إلى نور الشمس فإنه لا يطيقه البتة بل يختفي نهارا وانما يتردد ليلا ينظر في بقية نور الشمس إذا وقع على الأرض وأحوال الصديقين كحال الإنسان في النظر إلى الشمس فإنه يقدر على النظر إليها ولا يطيق دوامه ويخشى على بصره لو أدام النظر ونظره المختطف إليها يورث العمش ويفرق البصر وكذلك النظر إلى ذات الله تعالى يورث الحيرة والدهش واضطراب العقل فالصواب إذن أن لا يتعرض لمجاري الفكر في ذات الله سبحانه وصفاته فإن أكثر العقول لا تحتمله بل القدر اليسير الذي صرح به بعض العلماء وهو أن الله تعالى مقدس عن المكان ومنزه عن الأقطار والجهات وأنه ليس داخل العالم ولا خارجه ولا هو متصل بالعالم ولا هو منفصل عنه قد حير عقول أقوام حتى أنكروه إذ لم يطيقوا سماعه ومعرفته بل ضعفت طائفة عن احتمال أقل من هذا إذ قيل لهم إنه يتعاظم ويتعالى عن أن يكون له رأس ورجل ويد وعين وعضو وأن يكون جسما مشخصا له مقدار وحجم فأنكروا هذا وظنوا أن ذلك قدح في عظمة الله وجلاله حتى قال بعض الحمقى من العوام إن هذا وصف بطيخ هندي لا وصف الإله لظن المسكين أن الجلالة والعظمة في هذه الأعضاء وهذا لأن الإنسان لا يعرف إلا نفسه فلا يستعظم إلا نفسه فكل ما لا يساويه في صفاته فلا يفهم العظمة فيه نعم غايته أن يقدر نفسه جميل الصورة جالسا على سريره وبين يديه غلمان يمتثلون أمره فلا جرم غايته أن يقدر ذلك في حق الله تعالى وتقدس حتى يفهم العظمة بل لو كان للذباب عقل وقيل له ليس لخالقك جناحان ولا يد ولا رجل ولا له طيران لأنكر ذلك وقال كيف يكون خالقي أنقص مني أفيكون مقصوص الجناح أو يكون زمنا لا يقدر على الطيران أو يكون لي آلة وقدرة لا يكون له مثلها وهو خالقي ومصوري وعقول أكثر الخلق قريب من هذا العقل وإن الإنسان لجهول ظلوم كفار ولذلك أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه لا تخبر عبادي بصفاتى فينكروني ولكن أخبرهم عني بما يفهمون ولما كان النظر في ذات الله تعالى وصفاته خطرا من هذا الوجه اقتضى أدب الشرع وصلاح الخلق أن لا يتعرض لمجاري الفكر فيه لكنا نعدل إلى المقام الثاني وهو النظر في أفعاله ومجاري قدره وعجائب صنعه وبدائع أمره في خلقه فإنها تدل على جلاله وكبريائه وتقدسه وتعاليه وتدل على كمال علمه وحكمته وعلى نفاذ مشيئته وقدرته فينظر إلى صفاته من آثار صفاته فإنا لا نطيق النظر إلى صفاته كما أنا نطيق النظر إلى الأرض مهما استنارت بنور الشمس ونستدل بذلك على عظم نور الشمس بالإضافة إلى نور القمر وسائر الكواكب لأن الأرض من آثار نور الشمس والنظر في الآثار يدل على المؤثر دلالة ما وإن كان لا يقوم مقام النظر في نفس المؤثر وجميع موجودات الدنيا أثر من آثار قدرة الله تعالى ونور من أنوار ذاته بل لا ظلمة أشد من العدم ولا نور أظهر من الوجود ووجود الأشياء كلها نور من أنوار ذاته تعالى وتقدس إذ قوام وجود الأشياء بذاته القيوم بنفسه كما أن قوام نور الأجسام بنور الشمس المضيئة بنفسها ومهما انكشف بعض الشمس فقد جرت العادة بأن يوضع طشت ماء حتى ترى الشمس فيه ويمكن النظر إليها فيكون الماء واسطة يغض قليلا من نور الشمس حتى يطاق النظر إليها فكذلك الأفعال واسطة نشاهد فيها صفات الفاعل ولا نبهر بأنوار الذات بعد أن تباعدنا عنها بواسطة الأفعال فهذا سر قوله صلى الله عليه وسلم تفكروا في خلق الله ولا تتفكروا في ذات الله تعالى.

بيان كيفية التفكر في خلق الله تعالى

اعلم أن كل ما في الوجود مما سوى الله تعالى فهو فعل الله وخلقه وكل ذرة من الذرات من جوهر وعرض وصفة وموصوف ففيها عجائب وغرائب تظهر بها حكمة الله وقدرته وجلاله وعظمته وإحصاء ذلك غير ممكن لأنه لو كان البحر مدادا لذلك لنفد البحر قبل أن ينفد عشر عشيره ولكنا نشير إلى جمل منه ليكون ذلك كالمثال لماعداه فنقول الموجودات المخلوقة منقسمة الى مالا يعرف أصلها فلا يمكننا التفكر فيها وكم من الموجودات التى لا نعلمها كما قال الله تعالى ويخلق ما لا تعلمون سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون وقال وننشئكم فيما لا تعلمون وإلى ما يعرف أصلها وجملتها ولا يعرف تفصيلها فيمكننا أن نتفكر في تفصيلها وهي منقسمة إلى ما أدركناه بحس البصر وإلى ما لا ندركه بالبصر أما الذي لا ندركه بالبصر فكالملائكة والجن والشياطين والعرش والكرسي وغير ذلك ومجال الفكر في هذه الأشياء مما يضيق ويغمض فلنعدل إلى الأقرب إلى الأفهام وهي المدركات بحس البصر وذلك هو السموات السبع والأرض وما بينهما فالسموات مشاهدة بكواكبها وشمسها وقمرها وحركتها ودورانها في طلوعها وغروبها والأرض مشاهدة بما فيها من جبالها ومعادنها وأنهارها وبحارها وحيوانها ونباتها وما بين السماء والأرض وهو الجو مدرك بغيومها وأمطارها وثلوجها ورعدها وبرقها وصواعقها وشهبها وعواصف رياحها فهذه هي الأجناس المشاهدة من السموات والأرض وما بينهما وكل جنس منها ينقسم إلى أنواع وكل نوع ينقسم إلى أقسام ويتشعب كل قسم إلى أصناف ولا نهاية لانشعاب ذلك وانقسامه في اختلاف صفاته وهيآته ومعانيه الظاهرة والباطنة وجميع ذلك مجال الفكر فلا تتحرك ذرة في السموات والأرض من جماد ولا نبات ولا حيوان ولا فلك ولا كوكب إلا والله تعالى هو محركها وفي حركتها حكمة أو حكمتان أو عشر أو ألف حكمة كل ذلك شاهد لله تعالى بالوحدانية ودال على جلاله وكبريائه وهي الآيات الدالة عليه وقد ورد القرآن بالحث على التفكر في هذه الايات كما قال الله تعالى إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب وكما قال تعالى ومن آياته من أول القرآن إلى آخره فلنذكر كيفية الفكر في بعض الآيات فمن آياته الانسان المخلوق من النطفة وأقرب شيء إليك نفسك وفيك من العجائب الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه فيامن هو غافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع في معرفة غيرك وقد أمرك الله تعالى بالتدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال وفي أنفسكم أفلا تبصرون وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال قتل الإنسان ما أكفره من أي شئ خلقه من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره ثم أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره وقال تعالى ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون وقال تعالى ألم يك نطفة من منى يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى وقال تعالى ألم نخلقكم من ماء مهين فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم وقال أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين وقال إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاما فقال تعالى ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة الآية فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليسمع لفظه ويترك التفكر في معناه فانظر الآن إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تركت ساعة ليضربها الهواء فسدت وانتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب وكيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة الى الاجتماع وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق وجمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا وكبر وكيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء النطفة وهي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة فدور الرأس وشق السمع والبصر والأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رءوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء كل واحد على شكل مخصوص ومقدار مخصوص لعمل مخصوص ثم كيف قسم كل عضو من هذه الأعضاء بأقسام أخر فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار فلو ذهبنا إلى أن نصف ما في آحاد هذه الأعضاء من العجائب والآيات لانقضي فيه الأعمار فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواما للبدن وعمادا له ثم قدرها بمقادير مختلفة وأشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل ومستدير ومجوف ومصمت وعريض ودقيق ولما كان الإنسان محتاجا إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه مفتقرا للتردد في حاجاته لم يجعل عظمه عظما واحدا بل عظاما كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعطم الآخر كالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الآخر حفرا غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها وتنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعذر عليه ذلك ثم انظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها وقد ركبها من خمسة وخمسين عظما مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما تراه فمنها ستة تخص القحف وأربعة عشر للحي الأعلى واثنان للحي الأسفل والبقية هي الأسنان بعضها عريضة تصلح للطحن وبعضها حادة تصلح للقطع وهي الأنياب والأضراس والثنايا ثم جعل الرقبة مركبا للرأس وركبها من سبع خرزات مجوفات مستديرات فيها تحريفات وزيادات ونقصانات لينطبق بعضها على بعض ويطول ذكر وجه الحكمة فيها ثم ركب الرقبة على الظهر وركب الظهر من أسفل الرقبة إلى منتهى عظم العجز من أربع وعشرين خرزة وركب عظم العجز من ثلاثة أجزاء مختلفة فيتصل به من أسفله عظم العصعص وهو أيضا مؤلف من ثلاثة أجزاء ثم وصل عظام الظهر بعظام الصدر وعظام الكتف وعظام اليدين وعظام العانة وعظام العجز وعظام الفخذين والساقين وأصابع الرجلين فلا نطول بذكر عدد ذلك ومجموع عدد العظام فى بدن الإنسان مائتا عظم وثمانية وأربعون عظما سوى العظام الصغيرة التى حشى بها خلل المفاصل فانظر كيف خلق جميع ذلك من نطفة سخيفة رقيقة وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قريب يعرفه الأطباء والمشرحون إنما الغرض أن ينظر منها فى مدبرها وخالقها أنه كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحدا لكان وبالا على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحدا لكان نقصانا يحتاج إلى جبره فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج فى جبرها وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا بها على جلالة خالقها ومصورها فشتان بين النظرين ثم انظر كيف خلق الله تعالى آلات لتحريك العظام وهو العضلات فخلق فى بدن الإنسان خمسمائة عضلة وتسعا وعشرين عضلة والعضلةمركبة من لحم وعصب ورباط وأغشية وهى مختلفة المقادير والأشكال بحسب اختلاف مواضعها وقدر حاجاتها فأربع وعشرون عضلة منها هى لتحريك حدقة العين وأجفانها لو نقصت واحدة من جملتها اختل أمر العين وهكذا لكل عضو عضلات بعدد مخصوص وقدر مخصوص وأمر الاعصاب والعروق والأوردة والشرايين وعددها ومنابتها وانشعاباتها أعجب من هذا كله وشرحه يطول فللفكر مجال فى آحاد هذه الأجزاء ثم فى جملة البدن فكل ذلك نظر إلى عجائب أجسام البدن وعجائب المعانى والصفات التى لا تدرك بالحواس أعظم فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه وإلى بدنه وصفاته فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وكل ذلك صنع الله فى قطرة ماء قذرة فترى من هذا صنعه فى قطرة ماء فما صنعه فى ملكوت السموات وكواكبها وما حكمته فى أوضاعها وأشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة وحكم بل هى أحكم حلقا وأتقن صنعا وأجمع للعجائب من بدن الإنسان بل لا نسبة لجميع ما فى الارض إلى عجائب السموات ولذلك قال تعالى أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولا وما صارت إليه ثانيا وتأمل أنه لو اجتمع الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعا أو بصرا أو عقلا أو قدرة أو علما أو روحا أو يخلقوا فيها عظما أو عرقا أو عصبا أو جلدا أو شعرا هل يقدرون على ذلك بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته وكيفية خلقته بعد أن خلق الله تعالى ذلك لعجزوا عنه فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصور على حائط تأنق النقاش فى تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان عظم تعجبك من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم فى قلبك محله مع أنك تعلم أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وبالقدرة وبالعلم وبالإرادة وشىء من ذلك ليس من فعل النقاش ولا خلقه بل هو من خلق غيره وإنما منتهى فعله الجمع بين الصبغ والحائط على ترتيب مخصوص فيكثر تعجبك منه وتستعظمه وأنت ترى النطفة القذرة كانت معدومة فخلقها خالقها فى الأصلاب والترائب ثم أخرجها منها وشكلها فأحسن تشكيلها وقدرها فإحسن تقديرها وتصويرها وقسم أجزاءها المتشابهة إلى أجزاء مختلفة فأحكم العظام فى أرجائها وحسن أشكال أعضائها وزين ظاهرها وباطنها ورتب عروقها وأعصابها وجعلها مجرى لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعلها سميعة بصيرة عالمة ناطفة وخلق لها الظهر أساسا لبدنها والبطن حاويا لآلات غذائها والرأس جامعا لحواسها ففتح العينين ورتب طبقاتها وأحسن شكلها ولونها وهيئاتها ثم حماها بالأجفان لتسترها وتحفظها وتصقلها وتدفع الأقذاء عنها ثم أظهر فى مقدار عدسة منها صورة السموات مع اتساع أكنافها وتباعد أقطارها فهو ينظر إليها ثم شق أذنيه وأودعهما ماء مرا ليحفظ سمعها ويدفع الهوام عنها وحوطها بصدقةالأذن لتجمع الصوت فترده إلى صماخها ولتحس بدبيب الهوام إليها وجعل فيها تحريفات واعوجاجات لتكثر حركة ما يدب فيها ويطول طريقه فيتنبه من النوم صاحبها إذا قصدها دابة فى حال النوم ثم رفع الأنف من وسط الوجه وأحسن شكله وفتح منخريه وأودع فيه حاسه الشم ليستدل باستنشاق الروايح على مطاعمه وأغذيته وليستنشقة بمنفذ المنخرين روح الهواء غذاء لقلبه وترويحا لحرارة باطنه وفتح الفم وأودعه اللسان ناطقا وترجما ومعربا عما فى القلب وزين الفم بالأسنان لتكون آلة الطحن والكسر والقطع فإحكم أصولها وحدد رءوسها وبيض لونها ورتب صفوفها متساوية الرءوس متناسقة الترتيب كأنها الدر المنظوم وخلق الشفتين وحسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه وليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخلق للسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الصوت فى مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق بكثرتها ثم خلق الحناجر مختلفة الأشكال فى الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى اختلفت بسببها الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقا حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت فى الظلمة ثم زين الرأس بالشعر والأصداغ وزين الوجه باللحية والحاجبين وزين الحاجب برقة الشعر واستقواس الشكل وزين العينين بالأهداب ثم خلق الأعضاء الباطنة وسخر كل واحد لفعل مخصوص فسخر المعدة لنضج الغذاء والكبد لإحالة الغذاء إلى الدم والطحال والمرارة والكلية لخدمة الكبد فالطحال يخدمها بجذب السوداء عنها والمرارة تخدمها بجذب الصفراء عنها والكلية تخدمها بجذب المائية عنها والمثانة تخدم الكلية بقبول الماء عنها ثم تخرجه فى طريق الإحليل والعروق تخدم الكبد فى إيصال الدم إلى سائر أطراف البدن ثم خلق اليدين وطولهما لتمتد إلى المقاصد وعرض الكف وقسم الأصابع الخمس وقسم كل أصبع بثلاث أنامل ووضع الأربعة فى جانب والإبهام فى جانب لتدور الإبهام على الجميع ولو اجتمع الأولون والآخرون على أن يستنبطوا بدقيق الفكر وجها آخر فى وضع الأصابع سوى ما وضعت عليه من بعد الإبهام عن الأربع وتفاوت الأربع فى الطول وترتيبها فى صف واحد لم يقدروا عليه إذ بهذا الترتيب صلحت اليد للقبض والإعطاء فإن بسطها كانت له طبقا يضع عليها ما يريد وإن جمعها كانت له آلة للضرب وإن ضمها ضما غير تام كانت مغرفة له وإن بسطها وضم أصابعها كانت مجرفة له ثم خلق الأظفار على رءوسها زينة للأنامل وعمادا لها من ورائها حتى لا تنقطع وليلتقط بها الأشياء الدقيقة التى لا تتناولها الأنامل وليحك بها بدنه عند الحاجة فالظفر الذى هو أخس الأعضاء لو عدمه الإنسان وظهر به حكة لكان أعجز الخلق وأضعفهم ولم يقم أحد مقامه فى حك بدنه ثم هدى اليد إلى موضع الحك حتى تمتد إليه ولو فى النوم والغفلة من غير حاجة إلى طلب ولو استعان بغيره لم يعثر على موضع الحك إلا بعد تعب طويل ثم خلق هذا كله من النطفة وهى فى داخل الرحم فى ظلمات ثلاث ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد إليه البصر لكان يرى التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئا فشيئا ولا يرى المصور ولا آلته فهل رأيت مصورا أو فاعلا لا يمس آلته ومصنوعه ولا يلاقيه وهو يتصوف فيه فسبحانه ما أعظم شأنه وأظهر برهانه ثم أنظر مع كمال قدرته إلى تمام رحمته فإنه لما ضاق الرحم عن الصبى لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكس وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدى ثم لما كان بدنه سخيفا لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له فى خلق اللبن اللطيف واستخرجه من بين الفرث والدم سائغا خالصا وكيف خلق الثديين وجمع فيهما اللبن وأنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبى ثم فتح فى حلمة الثدى ثقبا ضيقا جدا حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجا فإن الطفل لايطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه للامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخر خلق الأسنان إلى تمام الحولين لأنه فى الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغنى عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ويحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان عند الحاجة لا قبلها ولا بعدها فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة فى تلك اللثات اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليه للقيام بتدبيره فى الوقت الذى كان عاجزا عن تدبير نفسه فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجا حتى بلغ وتكامل فصار مراهقا ثم شابا ثم كهلا ثم شيخا إما كفورا أو شكورا مطيعا أو عاصيا مؤمنا أو كافرا تصديقا لقوله تعالى هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا فانظر إلى اللطف والكرم ثم إلى القدرة والحكمة تبهرك عجائب الحضرة الربانية والعجب كل العجب ممن يرى خطا حسنا أو نقشا حسنا على حائط فيستحسنه فيصرف جميع همه إلى التفكر فى النقاش والخطاط وأنه كيف نقشه وخطه وكيف اقتدر عليه ولا يزال يستعظمه فى نفسه ويقول ما أحذقه وما أكمل صنعته وأحسن قدرته ثم ينظر إلى هذه العجائب فى نفسه وفى غيره ثم يغفل عن صانعه ومصوره فلا تدهشه عظمته ولا يحيره جلاله وحكمته فهذه نبذة من عجائب بدنك التى لا يمكن استقصاؤها فهو أقرب مجال لفكرك وأجلى شاهد على عظمة خالقك وأنت غافل عن ذلك مشغول ببطنك وفرجك ولا تعرف من نفسك إلا أن تجوع فتأكل وتشبع فينام وتشتهى فتجامع وتغضب فتقاتل والبهائم كلها تشاركك فى معرفة ذلك وإنما خاصية الإنسان التى حجبت البهائم عنها معرفةالله تعالى بالنظر فى ملكوت السموات والأرض وعجائب الافاق والأنفس إذ بها يدخل العبد فى زمرة الملائكة المقربين ويحشر فى زمرة النبيين والصديقين مقربا من حضرة رب العالمين وليست هذه المنزلة للبهائم ولا لإنسان رضى من الدنيا بشهوات البهائم فإنه شر من البهائم بكثير إذ لا قدرة للبهيمة على ذلك وأما هو فقد خلق الله له القدرة ثم عطلها وكفر نعمة الله فيها فأولئك كالأنعام بل هم أضل سبيلا وإذا عرفت طريق الفكر فى نفسك فتفكر فى الأرض التى هى مقرك ثم فى أنهارها وجبالها ومعادتها ثم ارتفع منها إلى ملكوت السموات أما الأرض فمن آياته أن خلق الأرض فراشا ومهادا وسلك فيها سبلا فجاجا وجعلها ذلولا لتمشوا فى مناكبها وجعلها قارة لا تتحرك وأرسى فيها الجبال أوتادا لها تمنعها من أن تميد ثم وسع أكنافها حتى عجز الآدميون عن بلوغ جميع جوانبها وإن طالت إعمارهم وكثر تطوافهم فقال تعالى والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون والأرض فرشناها فنعم الماهدون وقال تعالى هو الذى جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا فى مناكبها وقال تعالى الذى جعل لكم الأرض فراشا وقد أكثر فى كتابه العزيز ممن ذكر الأرض ليتفكر فى عجائبها فظهرها مقر للأحياء وبطنها مرقد للأموات قال تعالى ألم نجعل الأرض كفاتا أحياء وأمواتا فانظر إلى الأرض وهى ميتة فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت واخضرت وأنبتت عجائب النبات وخرجت منها أصناف الحيوانات ثم انظر كيف أحكم جوانب الأرض بالجبال الراسيات الشوامخ الصم الصلاب وكيف أودع المياه تحتها ففجر العيون وأسأل الأنهار تجرى على وجهها وأخرج من الحجارة اليابسة ومن التراب الكدر ماء رقيقا عذبا صافيا زلالا وجعل به كل شىء حى فأخرج به فنون الأشجار والنبات من حب وعنب وقضب وزيتون ونخل ورمان وفواكه كثيرة لا تحصى مختلفة الأشكال والألوان والطعوم والصفات والأرابيح يفضل بعضها على بعض فى الأكل تسقى بماء واحد وتخرج من أرض واحدة فإن قلت إن اختلافها باختلاف بذورها وأصولها فمتى كان فى النواة نخلة مطوقة لعناقيد الرطب ومتى كان فى حبة واحدة سمع سنابل فى كل سنبلة مائة ثم أنظر إلى أرض البوادى وفتش ظاهرها وباطنها فتراها ترابا متشابها فإذا أنزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج الوانا مختلفة ونباتا متشابها وغير متشابه لكل واحد طعم وريح ولون وشكل يخالف الآخر فانظر إلى كثرتها واختلاف أصنافها وكثرة أشكالها ثم اختلاف طبائع النبات وكثرة منافعه وكيف أودع الله تعالى العقاقير المنافع الغريبة فهذا النبات يغذى وهذا يقوى وهذا يحيى وهذا يقتل وهذا يبرد وهذا يسخن وهذا إذا حصل فى المعدة قمع الصفراء من أعماق العروق وهذا يستحيل إلى الصفراء وهذا يقمع البلغم والسوداء وهذا يستحيل إليهما وهذا يصفى الدم وهذا يستحل دما وهذا يفرح وهذا ينوم وهذا يقوى وهذا يضعف فلم تنبت من الأرض ورقة ولا تبنة إلا وفيها منافع لا يقوى البشر على الوقوف على كنهها وكل واحد من هذا النبات يحتاج الفلاح فى تربيته إلى عمل مخصوص فالنخل تؤثر الكرم يكسح والزرع ينقى عنه الحشيش والدغل وبعض ذلك يستنبت ببث البذر فى الأرض وبعضه بغرس الأغصان وبعضه يركب فى الشجر ولو أردنا أن نذكر اختلاف أجناس النبات وأنواعة ومنافعه وأحواله وعجائبه لا نقضت الأيام فى وصف ذلك فيكفيك من كل جنس نبذة يسيرة تدلك على طريق الفكر فهذه عجائب النبات ومن أياته الجواهر المودعة تحت الجبال والمعادن الحاصلة من الأرض ففى الأرض قطع متجاورات مختلفة فانظر إلى الجبال كيف يخرج منها الجواهر النفيسة من الذهب والفضة والفيروزج واللعل وغيرها بعضها منطبعة تحت المطارق كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وبعضها لا ينطبع كالفيروزوج واللعل وكيف هدى الله الناس إلى استخراجها وتنقيتها واتخاذ الأوانى والآلات والنقود والحلى منها ثم انظر إلى معادن الأرض من النفط والكبريت والقار وغيرها وأقلها الملح ولا يحتاج إليه إلا لتطييب الطعام ولو خلت عنه بلدة لتسارع الهلاك إليها فانظر إلى رحمة الله تعالى كيف خلق بعض الأراضى سبخة بجوهرها بحيث يجتمع فيها الماء الصافى من المطر فيستحيل ملحا مالحا محرقا لا يمكن تناول مثقال منه ليكون ذلك تطييبا لطعامك إذا أكلته فيتهنأ عيشك وما من جماد ولا حيوان ولا نبات إلا وفيه حكمة وحكم من هذا الجنس ما خلق شىء منها عبثا ولا لعبا ولا هزلا بل خلق الكل بالحق كما ينبغى وعلى الوجه الذى ينبغى وكما يليق بجلاله وكرمه ولطفه ولذلك قال تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقنهما إلا بالحق ومن آياته أصناف الحيوانات وانقسمها إلى ما يطير وإلى ما يمشى وانقسام ما يمشى إلى ما يمشى على رجلين وإلى ما يمشى على أربع وعلى عشر وعلى مائة كما يشاهد فى بعض الحشرات ثم انقسامها فى المنافع والصور والأشكال والأخلاق والطباع فانظر إلى طيور الجو وإلى وحوش البر والبهائم الأهلية ترى فيها من العجائب ولا تشك معه فى عظمة خالقها وقدرة مقدرها وحكمة مصورها وكيف يمكن أن يستقصى ذلك بل لو أردنا أن نذكر عجائب البقة أو النملة أو النخلة أو العنكبوت وهى من صغار الحيوانات بنائها بيتها وفى جمعها غذاءها وفى إلفها لزوجها وفى ادخارها لنفسا وفى حذقها فى هندسة بيتها وفى هدايتها إلى حاجاتها لم نقدر على ذلك فترى العنكبوت يبنى بيته على طرف نهر فيطلب أولا موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونه حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتدىء ويلقى اللعاب الذى هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانيا وثالثا ويجعل بعد ما بينهما متناسبا تناسبا هندسيا حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللحمة فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على موضع التقاء اللحمة بالسدى ويراعى فى جميع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البق والذباب ويقعد فى زاوية مترصدا لوقوع الصيد فى الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفى الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقى منكسا فى الهواء ينتظر ذبابة تطير فإذا طارت رمى بنفسه إليه فإخذه ولف خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه أو تكون بنفسه أو كونه آدمى أو علمه أو لا هادى له ولا معلم أفيشك ذو بصيرة فى أنه مسكين ضعيف عاجز بل الفيل العظيم شخصه الظاهرة قوته عاجز عن أمر نفسه فكيف هذا الحيوان الضعيف أفلا يشهد هو بشكله وصورته وحركته وهدايته وعجائب صنعته لفاطره الحكيم وخالقه القادر العليم فالبصير يرى فى هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلا عن سائر الحيوانات وهذا الباب أيضا لا حصر له فإن الحيوانات وأشكالها وأخلاقها وطباعها غير محصورة وإنما سقط تعجب القلوب منها لأنسها بكثرة المشاهدة نعم إذا رأى حيوانا غريبا ولو دودا تجدد تعجبه وقال سبحان الله ما أعجبه والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب من نفسه بل لو نظر إلى الأنعام التى ألفها تعجبه وقال سبحان الله ما أعجبه والإنسان أعجب الحيوانات وليس يتعجب من نفسه بل لو نظر إلى الأنعام التى ألفها ونظر إلى أشكالها وصورها ثم إلى منافعها وفوائدها من جلودها وأصوافها وأوبارها وأشعارها التى جعلها الله لباسا لخلقه وأكانا لهم فى ظعنهم وإقامتهم وآنية لأشربتهم وأوعية لأغذيتهم وصوانا لأقدامهم وجعل ألبانها ولحومها أغذية لهم ثم جعل بعضها زينة للركوب وبعضها حاملة للأثقال قاطعة للبوادى والمفازات البعيدة لأكثر الناظر التعجب من حكمة خالقها ومصورها فإنه ما خلقها إلا بعلم محيط بجميع منافعها سابق على خلقه إياها فسبحان من الأمور مكشوفة فى علمه من غير تفكر ومن غير تأمل وتدبر ومن غير استعانة بوزير أو مشير فهو العليم الخبير القدير فلقد استخرج بأقل القليل مما خلقه صدق الشهادة من قلوب العارفين بتوحيده فما للخلق إلا الإذعان لقهره وقدرته والاعتراف بربوبيته والإقرار بالعجز عن معرفة جلاله وعظمته فمن ذا الذى يحصى ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه وإنما غاية معرفتنا الاعتراف بالعجز عن معرفته فنسأل الله تعالى أن يكرمنا بهدايته بمنه ورأفته ومن آياته البحار العميقة المكتنفة لأقطار الأرض التى هى قطع من البحر الأعظم المحيط بجميع الأرض حتى إن جميع المكشوف من البوادى والجبال والأرض بالإضافة إلى الماء كجزيرة صغيرة فى بحر عظيم وبقية الأرض مستورة بالماء قال النبى صلى الله عليه وسلم الأرض فى البحر كالاصطبل فى الارض فانسب اصطبلا إلى جميع الأرض واعلم أن الأرض بالإضافة إلى البحر مثله وقد شاهدت عجائب الأرض وما فيها فتأمل الآن عجائب البحر فإن عجائب ما فيه من الحيوان والجواهر أضعاف عجائب ما تشاهده على وجه الأرض كما أن سعته أضعاف سعة الارض ولعظم البحر كان فيه من الحيوانات العظام ما ترى ظهورها فى البحر فتظن أنها جزيرة فينزل أنها جزيرة فينزل الركاب عليها فربما تحس بالنيران إذا اشتغلت فتتحرك ويعلم أنها حيوان وما من صنف من أصناف حيوان البر من فرس أو طير أو بقر أو إنسان إلا وفى البحر أمثاله وأضعافه وفيه أجناس لا يعهد لها نظير فى البر وقد ذكرت أوصافها فى مجلدات وجمعها أقوام عنوا بركوب البحر وجمع عجائبه ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ ودوره فى صدفه تحت الماء وانظر كيف أنبت المرجان من صم الصخور تحت الماء وإنما هو نبات على هيئة شجر ينبت من الحجر ثم تأمل ما عداه من العنبر وأصناف النفائس التى يقذفها البحر وتستخرج منه ثم انظر إلى عجائب السفن كيف أمسكها الله تعالى على وجه الماء وسير فيها التجار وطلاب الأموال وغيرهم وسخر لهم الفلك لتحمل أثقالهم ثم أرسل الرياح لتسوق السفن ثم عرف الملاحين موارد الرياح ومهابها ومواقيتها ولا يستقصى على الجملة عجائب صنع الله فى البحر فى مجلدات وأعجب من ذلك كله ما هو أظهر من كل ظاهر وهو كيفية قطره الماء وهو جسم رقيق لطيف سيال مشف متصل الاجزاء كأنه شىء واحد لطيف التركيب سريع القبول للتقطيع كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للانفصال والاتصال به حياة كل ما على وجه الأرض من حيوان ونبات فلو احتاج العبد إلى شربة ماء ومنع منها لبذل جميع خزائن الأرض وملك الدنيا فى تحصيلها لو ملك ذلك ثم لو شربها ومنع من إخراجها لبذل جميع خزائن الارض وملك الدنيا فى إخراجها فالعجب من الآدمى كيف يستعظم الدينار والدرهم ونفائس الجواهر ويغفل عن نعمة الله فى شربة ماء إذا احتاج إلى شربها أو الاستفراغ عنها بذل جميع الدنيا فيها فتأمل فى عجائب المياه والأنهار والآبار والبحار ففيها متسع للفكر ومجال وكل ذلك شواهد متظاهرة وآيات متناصرة ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال بارئها معربة عن كمال حكمته فيها منادية أرباب القلوب بنغماتها قائلة لكل ذى لب أما ترانى وترى صورتى وتركيبى وصفات ومنافعى واختلاف حالاتى وكثرة فوائدى أتظن أنى كونت نفسى أو خلقنى أحد من جنسى أو ما تستحيى أن تنظر فى كلمة مرقومة من ثلاثة أحرف فتقطع بأنها من صنعة آدمى عالم قادر مريد متكلم ثم تنظر إلى عجائب الخطوط الإلهية المرقومة على صفحات وجهى بالقلم الإلهى الذى لا تدرك الأبصار ذاته ولا حركته ولا اتصاله بمحل الخط ثم ينفك قلبك عن جلالة صانعه وتقول النطفة لأرباب السمع والقلب لا للذين هم عن السمع معزولون توهمنى فى ظلمة الأحشاء مغموسة فى دم الحيض فى الوقت الذى يظهر التخطيط والتصوير على وجهى فينفش النقاش حدقتى وأجفانى وجبهتى وخدى وشفتى فترى التقويس يظهر شيئا فشيئا على التدريج ولا ترى داخل النطفة نقاشا ولا خارجها ولا داخل الرحم ولا خارجه ولا خبر منها للأم ولا للأب ولا للنطفة ولا للرحم فما هذا النقاش بأعجب مما نشاهده ينقش بالقلم صورة عجيبة لو نظرت إليها مرة أو مرتين لتعلمته فهل تقدر على أن تتعلم هذا الجنس من النقش والتصوير الذى يعم ظاهر النطفة وباطنها وجميع أجزائها من غير ملامسة للنطفة ومن غير اتصال بها لا من داخل ولا من خارج فإن كنت لا تتعجب من هذه العجائب ولا تفهم بها أن الذى صور ونقش وقدر لا نظير له ولا يساويه نقاش ولا مصور كما أن نقشه وصنعه لا يساويه نقش وصنع فبين الفاعلين من المباينة والتباعد ما بين الفعلين فإن كنت لا تتعجب من هذا فتعجب من عدم تعجبك فإنه أعجب من كل عجب فإن الذى أعمى بصيرتك مع هذا الوضوح ومنعك من التبيين مع هذا البيان جدير بأن تتعجب منه فسبحان من هدى وأضل وأغوى وأرشد وأشقى وأسعد وفتح بصائر أحبابه فشاهدوه فى جميع ذرات العالم وأجزائه وأعمى قلوب أعدائه واحتجب عنهم بعزه وعلائه فله الخلق والأمر والامتنان والفضل واللطف والقهر لا راد لحكمه ولا معقب لقضائه ومن آياته الهواء اللطيف المحبوس بين مقعر السماء ومحدب الأرض يدرك بحس اللمس عند هبوب الرياح جسمه ولا يرى بالمين شخصه وجملته مثل البحر الواحد والطيور محلقة فى جو السماء ومستبقة سباحة فيه بأجنحتها كما تسبح حيوانات البحر فى الماء وتضطرب جوانبه وأمواجه عند هبوب الرياح كما تضطرب أمواج البحر فإذا حرك الله الهواء وجعله ريحا هابة فإن شاء جعله نشرابين يدى رحمته كما قال سبحانه وأرسلنا الرياح لواقح فيصل بحركته روح الهواء إلى الحيوانات والنباتات فتستعد للنماء وإن شاء جعله عذابا على العصاة من خليقته كما قال تعالى إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا فى يوم نحس مستمر تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر ثم انظر إلى لطف الهواء ثم شدته وقوته مهما ضغط فى الماء فالزق المنفوخ يتحامل عليه الرجل القوى ليغمسه فى الماء فيعجز عنه والحديد الصلب تضعه على وجه الماء فيرسب فيه فانظر كيف ينقبض الهواء من الماء بقوته مع لطافته وبهذه الحكمة أمسك الله تعالى السفن على وجه الماء وكذلك كل مجوف فيه هواء لا يغوص فى الماء لأن الهواء ينقبض عن الغوص فى الماء فلا ينفصل عن السطح الداخل من السفينة فتبقى السفينة الثقيلة مع قوتها وصلابتها معلقة فى الهواء اللطيف كالذى يقع فى بئر فيتعلق بذيل رجل قوى ممتنع عن الهوى فى البئر فالسفينة بمقعرها تتشبث بأذيال الهواء القوى حتى تمتنع من الهوى والغوص فى الماء فسبحان من علق المركب الثقيل فى الهواء اللطيف من غير علاقة تشاهد وعقدة تشد ثم انظر إلى عجائب الجو وما يظهر فيه من الغيوم والرعود والبروق والأمطار والثلوج والشهب والصواعق فهى عجائب ما بين السماء والأرض وقد أشار القرآن إلى جملة ذلك فى قوله تعالى وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين وهذا هو الذى بينهما وأشار إلى تفصيله فى مواضع شتى حيث قال تعالى والسحاب المسخر بين السماء والأرض وحيث تعرض للرعد والبرق والسحاب والمطر فإذا لم يكن لك حظ من هذه الجملة إلا أن ترى المطر بعينك وتسمع الرعد بأذنك فالبهيمة تشاركك فى هذه المعرفة فارتفع من حضيض عالم البهائم إلى عالم الملأ الأعلى فقد فتحت عينيك فأدركت ظاهرها فغمض عينك الظاهرة وانظر ببصيرتك الباطنة لترى عجائب باطنها وغرائب أسرارها وهذا أيضا باب يطول الفكر فيه إذ لا مطمع فى استقصائه فتأمل السحاب الكثيف المظلم كيف تراه يجتمع فى جو صاف لا كدورة فيه وكيف يخلقه الله تعالى إذا شاء ومتى شاء وهو مع رخاوته حامل للماء الثقيل وممسك له فى جو السماء إلى أن يأذن الله فى إرسال الماء وتقطيع القشرات كل قطرة بالقدر الذى أراده الله تعالى وعلى الشكل الذى شاءه فترى السحاب يرش الماء على الأرض ويرسله قطرات متفاصلة لا تدرك قطرة منها قطرة ولا تتصل واحدة بأخرى بل تنزل كل واحدة فى الطريق الذى رسم لها لا تعدل عنه فلا يتقدم المتأخر ولا يتأخر المتقدم حتى يصيب الأرض قطرة قطرة فلو اجتمع الأولون والآخرون على أن يخلقوا منها قطرة أو يعرفوا عدد ما ينزل منها فى بلدة واحدة أو قرية واحدة لعجز حساب الجن والإنس عن ذلك فلا يعلم عددها الا الذى أوجدها ثم كل قطرة منها عينت لكل جزء من الأرض ولكل حيوان فيها من طير ووحش وجميع الحشرات والدواب ومكتوب على تلك القطرة بخط إلهى لا يدرك بالبصر الظاهر أنها رزق الدودة الفلانية التى فى ناحية الجبل الفلانى تصل إليها عند عطشها فى الوقف الفلانى هذا مع ما فى انعقاد البرد الصلب من الماء اللطيف وفى تناثر الثلوج كالقطن المندوف من العجائب التى لا تحصى كل ذلك فضل من الجبار القادر وقهر من الخلاق القاهر ما لأحد من الخلق فيه شرك ولا مدخل بل ليس للمؤمنين من خلقه إلا الاستكانة والخضوع تحت جلاله وعظمته ولا للعميان الجاحدين إلا الجهل بكيفيته ورجم الظنون بذكر سببه وعلته فيقول الجاهل المغرور إنما ينزل الماء لأنه ثقيل بطبعه وإنما هذا سبب نزوله ويظن أن هذه معرفة انكشفت له ويفرح بها ولو قيل له ما معنى الطبع وما الذى خلقه ومن الذى خلق الماء الذي طبعه الثقل وما الذى رقى الماء المصبوب فى أسافل الشجر إلى أعالى الأغصان وهو ثقيل بطبعه فكيف هوى إلى أسفل ثم ارتفع إلى فوق فى داخل تجاويف الأشجار شيئا فشيئا بحيث لا يرى ولا يشاهد حتى ينتشر فى جميع أطراف الأوراق فيغذى كل جزء من كل ورقة ويجرى إليها فى تجاويف عروق شعرية صغار يروى منه العرق الذى هو أصل الورقة ثم ينتشر من ذلك العرق الكبير الممدود فى طول الورقة عروق صغار فكأن الكبير نهر وما انشعب عنه جداول ثم ينشعب من الجداول سوق أصغر منها ثم ينتشر منها خيوط عنكبوتية دقيقة تخرج عن إدراك البصر حتى تنبسط فى جميع عرض الورقة فيصل الماء فى أجوافها إلى سائر أجزاء الورقة ليغذيها وينميها ويزينها وتبقى طراوتها ونضارتها وكذلك إلى سائر أجزاء الفواكه فإن كان الماء يتحرك بطبعه إلى أسفل فكيف تحرك إلى فوق فإن كان ذلك يجذب جاذب فما الذى سخر ذلك الجاذب وإن كان ينتهى بالآخرة إلى خالق السموات والأرض وجبار الملك والملكوت فلم لا يحال عليه من أول الأمر فنهاية الجاهل بداية العاقل ومن آياته ملكوت السموات والأرض وما فيها من الكواكب وهو الأمر كله ومن أدرك الكل وفاته عجائب السموات فقد فاته الكل تحقيقا فالأرض والبحار والهواء وكل جسم سوى السموات بالإضافة إلى السموات قطرة فى بحر وأصغر ثم انظر كيف عظم الله أمر السموات والنجوم فى كتابه فما من سورة إلا وتشتمل على تفخيمها فى مواضع وكم من قسم فى القرآن بها كقوله تعالى والسماء ذات البروج والسماء والطارق والسماء ذات الحبك والسماء وما بناها وكقوله تعالى والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها وكقوله تعالى فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس وقوله تعالى والنجم إذا هوى فلا أقسم بمواقع النجوم وإنه لقسم لو تعلمون عظيم فقد علمت أن عجائب النطفة القذرة عجز عن معرفتها الأولون والآخرون وما أقسم الله بها فما ظنك بما اقسم الله تعالى به وأحال الأرزاق عليه وأضافها إليه فقال تعالى وفى السماء رزقكم وما توعدون وأثنى على المفكرين فيه فقال ويتفكرون فى خلق السموات والأرض وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته حديث ويل لمن قرأ هذه الآية ثم مسح بها سبلته أى قوله تعالى ويتفكرون فى خلق السموات والأرض تقدم أى تجاوزها من غير فكر وذم المعرضين عنها فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون فأى نسبة لجميع البحار والأرض إلى السماء وهى متغيرات على القرب والسموات صلاب شداد محفوظات عن التغير إلى أن يبلغ الكتاب أجله ولذلك سماه الله تعالى محفوظا فقال وجعلنا السماء سقفا محفوظا وقال سبحانه وبنينا فوقكم سبعا شدادا وقال أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها رفع سمكها فسواها فانظر إلى الملكوت لترى عجائب العز والجبروت ولا تظنن أن معنى النظر إلى الملكوت بأن تمد البصر إليه فترى زرقة السماء وضوء الكواكب وتفرقها فإن البهائم تشاركك فى هذا النظر فإن كان هذا هو المراد فلم مدح الله تعالى إبراهيم بقوله وكذلك نرى إبراهيم ملكوت السموات والأرض لا بل كل ما يدرك بحاسة البصر فالقرآن يعبر عنه بالملك والشهادة وما غاب عن الأبصار فيعبر عنه بالغيب والملكوت والله تعالى عالم الغيب والشهادة وجبار الملك والملكوت ولا يحيط أحد بشىء من علمه إلا بما شاء وهو عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فأجل أيها العاقل فكر فى الملكوت فعسى يفتح لك ابواب السماء فتجول بقلبك فى أقطارها إلى أن يقوم قلبك بين يدي عرش الرحمن فعند ذلك ربما يرجى لك أن تبلغ رتبة عمر بن الخطاب رضى الله عنه حيث قال رأى قلبى ربى وهذا لأن بلوغ الأقصى لا يكون إلا بعد مجاوزة الأدنى وأدنى شىء إليك نفسك ثم الأرض التى هى مقرك ثم الهواء المكتنف لك ثم النبات والحيوان وما على وجه الأرض ثم عجائب الجو وهو ما بين السماء والأرض ثم السموات السبع بكواكبها ثم الكرسى ثم العرش ثم الملائكة الذين هم حملة العرش وخزان السموات ثم منه تجاوز إلى النظر إلى رب العرش والكرسى والسموات والأرض وما بينهما فبينك وبين هذه المفاوز العظيمة والمسافات الشاسعة والعقبات الشاهقة وأنت بعد لم تفرغ من العقبة القريبة النازلة وهى معرفة ظاهر نفسك ثم صرت تطلق اللسان بوقاحتك وتدعى معرفة ربك وتقول قد عرفته وعرفت خلقه ففي ماذا أتفكر إلى ماذا أتطلع فارفع الآن رأسك إلى السماء وانظر فيها وفى كواكبها وفى دورانها وطلوعها وغروبها وشمسها وقمرها واختلاف مشارقها ومغاربها ودؤوبها فى الحركة على الدوام من غير فتور فى حركتها ومن غير تغير فى سيرها بل تجرى جميعا فى منازل مرتبة بحساب مقدر لا يزيد ولا ينقص إلى أن يطويها الله تعالى طى السجل للكتاب وتدبر عدد كواكبها وكثرتها واختلاف ألوانها فبعضها يميل إلى الحمرة وبعضها إلى البياض وبعضها إلى اللون الرصاصى ثم انظر كيفية أشكالها فبعضها على صورة العقرب وبعضها على صورة الحمل والثور والأسد والإنسان وما من صورة فى الأرض إلا ولها مثال فى السماء ثم انظر إلى مسير الشمس فى فلكها فى مدة سنة ثم هى تطلع فى كل يوم وتغرب بسير آخر سخرها له خالقها ولولا طلوعها وغروبها لما اختلف الليل والنهار ولم تعرف المواقيت ولأطبق الظلام على الدوام أو الضياء على الدوام فكان لا يتميز وقت المعاش عن وقت الاستراحة فانظر كيف جعل الله تعالى الليل لباسا والنوم سباتا والنهار معاشا وانظر إلى إيلاجه الليل في النهار والنهار فى الليل وإدخاله الزيادة والنقصان عليهما على ترتيب مخصوص وانظر إلى إمالته مسير الشمس عن وسط السماء حتى اختلف بسببه الصيف والشتاء والربيع والخريف فإذا انخفضت الشمس من وسط السماء فى مسيرها برد الهواء وظهر الشتاء وإذا استوت فى وسط السماء اشتد القيظ وإذا كانت فيما بينهما اعتدل الزمان وعجائب السموات لا مطمع فى إحصاء عشر عشير جزء من أجزائها وإنما هذا تنبيه على طريق الفكر واعتقد على طريق الجملة أنه ما من كوكب من الكواكب إلا ولله تعالى حكم كثيرة فى خلقه ثم فى مقداره ثم فى شكله ثم فى لونه ثم فى وضعه من السماء وقربه من الكواكب التى بجنبه وبعده وقس على ذلك ما ذكرناه من أعضاء بدنك إذ ما من جزء إلا وفيه حكمة بل حكم كثيرة وأمر السماء أعظم بل لا نسبة لعالم الأرض إلى عالم السماء لا فى كبر جسم ولا فى كثرة معانيه وقس التفاوت الذى بينهما فى كثرة المعانى بما بينهما من التفاوت فى كبر الأرض فأنت تعرف من كبر الأرض واتساع أطرافها أنه لا يقدر آدمى على أن يدركها ويدور بجوانبها وقد اتفق الناظرون على أن الشمس مثل الأرض مائة ونيفا وستين مرة وفى الأخبار ما يدل على عظمتها الحديث الدال على عظم الشمس رواه أحمد من حديث عبد الله بن عمر رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم الشمس حين غربت فقال فى نار الله الحامية لولا ما نزعها من أمر الله لأهلكت ما على الأرض وللطبرانى فى الكبير من حديث أبى أمامة وكل بالشمس تسعة أملاك يرمونها بالثلج كل يوم لولا ذلك ما أنت على شىء إلا أحرقته ثم الكواكب التى تراها أصغرها مثل الأرض ثمانى مرات وأكبرها ينتهى إلى قريب من مائة وعشرين مرة مثل الأرض وبهذا تعرف ارتفاعها وبعدها إذ للعبد صارت ترى صغارا ولذلك أشار الله تعالى إلى بعدها فقال رفع سمكها فسواها وفى الأخبار أن ما بين كل سماء إلى الأخرى مسيرة خمسمائة عام حديث بين كل سماء إلى سماء خمسمائة عام أخرجه الترمذى من رواية الحسن عن أبى هريرة وقال غريب قال ويروى عن أيوب ويونس بن عبيد وعلى بن زيد قالوا ولم يسمع الحسن من أبى هريرة ورواه أبو الشيخ فى العظمة من رواية أبى نصرة عن أبى ذر ورجاله ثقات إلا أنه لا يعرف لأبى نصرة سماع من أبى ذر فإذا كان مقدرا كوكب واحد مثل الأرض أضعافا فانظر إلى كثرة الكواكب ثم أنظر إلى السماء التى الكواكب مركوزة فيها وإلى عظمها ثم انظر إلى سرعة حركتها وأنت لا تحس بحركتها فضلا عن أن تدرك سرعتها لكن لا تشك أنها فى لحظة تسير مقدار عرض كوكب لأن الزمان من طلوع أول جزء من كوكب إلى تمامه يسير وذلك الكوكب هو مثل الأرض مائة مرة وزيادة فقد دار الفلك فى هذه اللحظة مثل الأرض مائة مرة وهكذا يدور على الدوام وأنت غافل عنه وانظر كيف عبر جبريل عليه السلام عن سرعة حركته إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم هل زالت الشمس فقال لا نعم فقال كيف تقول لا نعم فقال من حين قلت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس خمسمائة عام حديث أنه قال لجبريلل هل زالت الشمس فقال لا نعم فقال كيف تقول لا نعم فقال من حين قلت لا إلى أن قلت نعم سارت الشمس مسيرة خمسمائة عام لم اجد له أصلا فانظر إلى عظم شخصها ثم إلى خفة حركتها ثم انظر إلى قدرة الفاطر الحكيم كيف أثبت صورتها مع اتسع أكنافها فى حدقة العين مع صغرها حتى تجلس على الأرض وتفتح عينيك نحوها فترى جميعها فهذه السماء بعظمها وكثرة كواكبها لا تنظر إليها بل انظر إلى بارئها كيف خلقها ثم أمسكها من غير عمد ترونها ومن غير علاقة من فوقها وكل العالم كبيت واحد والسماء سقفه فالعجب منك أنك تدخل بيت غنى فتراه مزوقا بالصبغ مموها بالذهب فلا ينقطع تعجبك منه ولا تزال تذكره وتصف حسنه طول عمرك وأنت أبدا تنظر إلى هذا البيت العظيم وإلى أرضه وإلى سقفه وإلى هوائه وإلى عجائب أمتعته وغرائب حيواناته وبدائع نقوشه ثم لا تتحدث فيه ولا تلتفت بقلبك إليه فما هذا البيت دون ذلك البيت الذى تصفه بل ذلك البيت هو ايضا جزء من الأرض التى هى أخس أجزاء هذا البيت ومع هذا فلا تنظر إليه ليس له سبب إلا أنه بيت ربك هو الذى انفرد ببنائه وترتيبه وأنت قد نسيت نفسك وربك وبيت ربك واشتغلت ببطنك وفرجك ليس لك هم إلا شهوتك أو حشمتك وغاية شهوتك أن تملأ بطنك ولا تقدر على أن تأكل عشر ما تأكله بهيمة فتكون البهيمة فوقك بعشر درجات وغاية حشمتك أن تقبل عليك عشرة أو مائة من معارفك فينافقون بألسنتهم بين يديك ويضمرون خبائث الاعتقادات عليك وإن صدقوك فى مودتهم إياك فلا يملكون لك ولا لأنفسهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا وقد يكون فى بلدك من أغنياء اليهود والنصارى من يزيد جاهه على جاهك وقد اشتغلت بهذا الغرور وغفلت عن النظر فى جمال ملكوت السموات والأرض ثم غفلت عن التنعم بالنظر إلى جلال مالك الملكوت والملك وما مثلك ومثل عقلك إلا مثل النملة تخرج من جحرها الذى حفرته فى قصر مشيد من قصور الملك رفيع البنيان حصين الأركان مزين بالجوارى والغلمان وأنواع الذخائر والنفائس فإنها إذا خرجت من جحرها ولقيت صاحبتها لم تتحدث لو قدرت على النطق إلا عن بيتها وغذائها وكيفية ادخارها فأما حال القصر والملك الذى فى القصر فهى بمعزل عنه وعن التفكر فيه بل لا قدرة لها على المجاوزة بالنظر عن نفسها وغذائها وبيتها إلى غيره وكما غفلت النملة عن القصر وعن أرضه وسقفه وحيطانه وسائر بنيانه وغفلت أيضا عن سكانه فأنت أيضا غافل عن بيت الله تعالى وعن ملائكته الذين هم سكان عوانه فلا تعرف من السماء إلا ما تعرفه النملة من سقف بيتك ولا تعرف من ملائكة السموات إلا ما تعرف النملة منك ومن سكان بيتك نعم ليس للنملة طريق إلى أن تعرفك وتعرف عجائب قصرك وبدائع صنعة الصانع فيه وأما أنت فلك قدرة على أن تجول فى الملكوت وتعرف من عجائبه ما الخلق غافلون عنه ولنقبض عنان الكلام عن هذا النمط فإنه مجال لا آخر له ولو استقصينا أعمارا طويلة لم نقدر على شرح ما تفضل الله تعالى علينا بمعرفته وكل ما عرفناه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه جملة العلماء والأولياء وما عرفوه قليل نزر حقير بالإضافة إلى ما عرفه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وجملة ما عرفوه قليل بالإضافة إلى ما عرفه محمد نبينا صلى الله عليه وسلم وما عرفه الأنبياء كلهم قليل بالإضافة إلى ما عرفته الملائكة المقربون كإسرافيل وجبريل وغيرهما ثم جميع علوم الملائكة والجن والإنس إذا أضيف إلى علم الله سبحانه وتعالى لم يستحق أن يسمى علما بل هو إلى أن يسمى دهشا وحيرة وقصورا وعجزا أقرب فسبحان من عرف عباده ما عرف ثم خاطب جميعهم فقال وما أوتيتم من العلم إلا قليلا فهذا بيان معاقد الجمل التى تجول فيها فكر المتفكرين فى خلق الله تعالى وليس فيها فكر فى ذات الله تعالى ولكن يستفاد من الفكر فى الخلق لا محالة معرفة الخالق وعظمته وجلاله وقدرته وكلما استكثرت من معرفة عجيب صنع الله تعالى كانت معرفتك بجلاله وعظمته أتم وهذا كما أنك تعظم عالما بسبب معرفتك بعلمه فلا تزال تطلع على غريبه من تصنيفه أو شعره فتزداد به معرفة وتزداد بحسنه له توقيرا وتعظيما واحتراما حتى إن كل كلمة من كلماته وكل بيت عجيب من أبيات شعره يزيده محلا من قلبك يستدعى التعظيم له فى نفسك فهكذا تأمل فى خلق الله تعالى وتصنيفه وتأليفه وكل ما فى الوجود من خلق الله وتصنيفه والنظر والفكر فيه لا يتناهى أبدا وإنما لكل عبد منها بقدر ما رزق فلنقتصر على ما ذكرناه ولنضف إلى هذا ما فصلناه فى كتاب الشكر فإنا نظرنا فى ذلك الكتاب فى فعل الله تعالى من حيث هو إحسان إلينا وإنعام علينا وفى هذا الكتاب نظرنا فيه من حيث إنه فعل الله فقط وكل ما نظرنا فيه فإن الطبيعي ينظر فيه ويكون نظره سبب ضلاله وشقاوته والموفق ينظر فيه فيكون سبب هدايته وسعادته وما من ذرة فى السماء والأرض إلا والله سبحانه وتعالى يضل بها من يشاء ويهدي بها من يشاء فمن نظر فى هذه الأمور من حيث إنها فعل الله تعالى وصنعه استفاد منه المعرفة بجلال الله تعالى وعظمته واهتدى به ومن نظر فيها قاصرا للنظر عليها من حيث تأثير بعضها فى بعض لا من حيث ارتباطها بمسبب الأسباب فقد شقى وارتدى فنعوذ بالله من الضلال ونسأله أن يجنبنا مزلة أقدام الجهال بمنه وكرمه وفضله وجوده ورحمته تم الكتاب التاسع من ربع المنجيات والحمد لله وحده وصلواته على محمد وآله وسلامه يتلوه كتاب ذكر الموت وما بعده وبه كمل جميع الديوان بحمد الله تعالى وكرمه.